منى سلمان

صحيتي في نفسي الوجود

صحيتي في نفسي الوجود
[JUSTIFY] أمسكَ بماكينة الحلاقة والمرايا وجلس على حافة السرير، حيث تتيح له شمس الصباح رؤيةً أوضح لملامح وجهه، تمكنه من رسم حدود ذقنه الرمادية الكثة.. وبعد أن أكمل مهمته بإتقان يحسده عليه أبرع شباب الحلاقين الحبش، وضع الماكينة وبدأ في تشذيب أطرافها بمقص صغير، وهو يدندن في انسجام:
من صدفة عااااابرة بلا سلام .. قلبي الرهييييف بالهم نزف
يا ريتني ما شفتك ربيع ولا كان يلازمني الأسف
ظل يدندن حتى انتهى من الحلاقة، وبدأ في جمع أدواته، ولكنه انتفض فجأة فارتجفت يداه وسقطت منها المرايا، عندما سمع ابنه الكبير (مصطفى) يقول:
أيه الجديد الليلة يا حاج؟ .. شايفك قايم من بدري وتحلق بي مزاج .. علي وين كان الله هوّن؟!
رد (كرم الله) متوتراً بسبب (الخلعة) وشيء من الحرج من أن يضبطه ابنه في تلك الحالة الوجدانية الشفيفة فقال بجفاف:
مالك بي؟ ماشي محل ما ماشي كمان داير تحجِر علي المرقة؟
أجاب (مصطفى) بـ كبكبة اعتذارية:
لا لا .. العفو يا حاج.. بي راحتك
لم يغيِّر (كرم الله) عادته اليومية منذ نزوله للمعاش بضع سنوات ووفاة زوجته .. فبالإضافة لحبة الضغط وحقنة السكري، كان يتناول قناة الجزيرة حبة ثلاث مرات .. وحبّة قعدة بالكرسي أمام البيت بعد المغرب يوميا .. وحبّة عند اللزوم بزيارة أحد أصدقاء الزمن الجميل، عندما يمل من طول السكات والوحْدة ..
تزوجت بناته وخلا البيت من أنسهن وونستهن وحنان رعايتهن له، وتحولن لضيفات يجتمعن عنده فقط في الجمع والعطلات، أما الشباب فقد شغلتهم دنياواتهم عن السؤال من الـ(جلك) والاستماع لشكواه الدائمة من تغير الزمان وموت الخلّان وجفا الحبّان، لذلك جاءت انتباهتهم لتغير أحواله متأخرة، خاصة بعد انشغالهم حتى عن الاجتماع معه حول صينية الأكل الذي تعده لهم منذ وفاة الحاجة خادمة من دول الجوار الشرقي ..
لم تكن مفاجأة (الأولاد) بأقوى من مفاجأة أخواتهم (البنات) عندما فجّر في وجوههم قنبلة نيته الزواج مرة ثانية من شقيقة أحد أصدقائه المعاشيين، وهي (فتاة) ثلاثينية لم تنل حظاً وافرا من التعليم، فقبعت في البيت تنتظر (العدل).. كان أول من استعاد وعيه من الصدمة (مصطفى) فقال في استغراب:
مع احترامي ليك يا حاج لكن إنت العرس عايز بيهو شنو؟ (ابرهيت) قايمة بطلباتك كلها وما في شيء ناقصك.. حقّو ما تدخّل نفسك في ……
قاطعة (كرم الله) في غضب:
حقّو؟ّ! إنت كمان داير تعلمني الحقّي والما حقّي؟ منو فيكم الحاسي بي ولا عارف الحاصل علي؟ سايبني مرمي هنا زي الكلب.. الواحد فيكم يستخسر الدقايق البقيف فيها قدامي عشان يسألني كيف أمسيت وللا كيف أصبحتا.
تذكرت صغرى بناته أمها المرحومة فبكت، فتباكت معها الأخريات بينما اكتفى الشباب بـ (الطنطنة) من تحت أنوفهم، فطق (كرم الله) عصاته بقوة وانتصب واقفا ثم غادر الغرفة مزمجرا في سرعة ونشاط ابن العشرين ..
طوال الأسبوع، كانت المحادثات لا تهدأ بين أبناء (كرم الله) وخالاتهم .. أرسلوا مراسيل الخبارات للتخبر عن العروس، فلم يجدوا لها عيباً سوى الأدب والسترة والكثير من رقة الحال، فاتهمتها إحدى خالاتهم بأنها طمعانة في الورثة (عشان هي عارفاهو كراعو والقبر)، ونبهتهم الثانية من خطر سِنّها الذي يسمح بإنجاب بطن بطنين سيتقاسمون معهم الدار والأموال ..
جارتهم وصديقة أمهم حاجة (رقية) كانت في صف الحاج، فقد قالت لابنته تلومها على معاندة والدهم:
يا أولادي.. أبوكم لا راجل عرس ولا ولادة.. لكن محتاج للونسة والرفقة بدور ليهو زول يشيل ويخت معاهو في الكلام.. الله يعلم خشمو نشف من السكات والوحدة.
شاء الله أن يحسم الجدل عندما دهمت (كرم الله) نوبة انخفاض سكّر بعد أن طعن نفسه بالحقنة دون أن يتناول الإفطار، ولأنه كان يقضي جل يومه وحيداً لم ينتبه لوقوعه أحد حتى أفاق بنفسه وزحف نحو الهاتف ليستنجد بابنه الموجود في الغرفة التالية..
بعد مرور شهر على خروج (كرم الله) من المستشفى كان يجلس سعيداً بجوار عروسته الخجولة.. حاولت إحدى البنات أن تقترب من مجلسهما علّها تسمع ما كان (يتودود) به أبوها مع عروسته ولدهشتها سمعته يغني لها:
صحيتي في نفسي الوجود ورجعتي لي عيوني النهار..

منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email][/JUSTIFY]

‫2 تعليقات

  1. [SIZE=4][FONT=Arial][SIZE=3]مع احترامي ليك يا حاج لكن إنت العرس عايز بيهو شنو؟ (ابرهيت) قايمة بطلباتك كلها وما في شيء ناقصك.. حقّو ما تدخّل نفسك في ……

    والله قمت الابداع والامتاع يااستاذة ربنا يحفظك ويخليك
    من أشـــــد المعجبين والمتابعين بحرص لكل كتاباتك[/SIZE][/FONT][/SIZE]

  2. ههههههههههه
    الحاج رجع لزمن الصبا
    الكتراااااااابة

    تسلمي أستاذة مني

    وصحيتي في نفوسنا الوجود