تحقيقات وتقارير

ظاهرة «خلي عنك».. تختفي في المواصلات العامة!

الوضع الاقتصادي الراهن غير الكثير من تفاصيل حياتنا اليومية، وأثر على علاقاتنا الاجتماعية وعادات الشعب السوداني الراسخة، ومن بينها عادات حميدة كانت تزيد الترابط والتعاضد والوئام بين الناس. خلي عنك، إحدى هذه العادات التي كان يحرص عليها الناس في المواصلات العامة وذلك بالدفع للجيران والأصدقاء أو الأقارب الذين يصادف اعتلائهم ذات المركبة كادت أن تنقرض تماماً ويحل محلها الطناش وادعاء عدم الشوف اما لانعدام الشهامة، أو حتى لا تختل الميزانية الصغيرة.
(حكايات) رصدت آراء مجموعة من الأشخاص الذين يبادرون بخدمة خلي عنك بالمواصلات والتي تتاْصل بطعم الشهامة والجود السوداني.
شهامة وكرم
وقفت بإحدى مواقف الخرطوم ضمن مجموعة أشخاص من فئات عمرية مختلفة فقررت استطلاعهم حول الموضوع، فقال أول من سألتهم وكان موظفاً يدعى محمد عثمان:»إنه أمر طبيعي» أي أحد منا عندما يقابل في المواصلات شخصاً يعرفه يهم بالدفع له وكثيراً ما تجد من يتحالفون على الدفع، وإن دل هذا إنما يدل على شهامة وكرم شعبنا السوداني، الذي لا زال يتحلى بالأخلاق والقيم والمباديء، وأضاف: «وأنا عن نفسي في كثير من الأحيان أقابل أحد الجيران القراب في المواصلات وأدفع لهم عادي وأصر على أن لا يدفع أحدهم لأن ذلك يريح ضميري وأكون بذلك قمت بالواجب»، وقال إن هذا الأمر يعمق بداخل أي شخص إحساسه بالعطاء بلا مقابل، ويغمرك إحساس أنه أحد أفراد أسرتك أو أقاربك، وتأسف محمد على ضيق الكثيرين من مقابلة أشخاص يعرفهم ويضطر لدفع قيمة تذكرة المواصلات، لكن هناك من يحس بالضيق لعدم قدرته تحمل أعباء شخص آخر لأن وضعه المادي لا يسمح له بذلك.
عدم إحساس
في السياق قال عبده الطيب حقيقة أخرج للعمل في الصباح الباكر، ودائماً ألتقي بنفس الوجوه يومياً، ويومياً أبادر بالدفع في المواصلات، لكن ما يثير حنقي أنهم لا يحاولون منعي مرة واحدة من فعل ذلك الأمر بل أجدهم يطيلون النظر لي في انتظار قيامي بذلك، وأبدى أنزعاجه نحو هؤلاء الذين تلتصق بهم صفة المعارف، وأضاف: يكلفونني فوق طاقتي بسبب هذه المقابلة اليومية، لأنهم في تلك الأثناء يستهلكون ضعف مرتبي في دفع تذكرة المواصلات كل يوم فأنا أعاني من ذلك أيما معاناة ولكن لا أستطيع إيقاف ذلك خاصة وأنا ألاقيهم باستمرار، وهم لا يبالون ولا يبادرون بالدفع يوماً. أشاهدهم يومياً يدفعون لأحد بالمواصلات لعدم إحساسهم، وأكد عبده لـ»حكايات» أنه استغنى عن هذه الخدمة عندما ادرك عدم إحساسهم وبقناعة قال:( جيبي انقد من كثرة الدفع في المواصلات).
«ما عندنا قروش»
(نحنا معروفين طلاب وما واجب علينا ندفع لزول) هكذا ابتدرت الطالبتان (رفيدة وإيمان)، حديثهما لـ»حكايات» حول خلي عنك وقالتا: (لا ينتظر أحد من الطلاب أن يدفع عنهم حق المواصلات، لأنهم طلاب يستوجب مساعدتهم والدفع لهم وليس العكس)، وختمن حديثهن قائلات: (نحنا ماعندنا قروش عشان ندفع لزول ودائما ما يدفع لنا إذا قابلنا أحد الاقرباء أو المعارف في المواصلات وهو أمر طبيعي أننا لم ندخل دائرة العمل ولازلنا ندرس ونحتاج للدعم، لذلك لا يعشم فينا أحد).
قمة الإحراج
ومن جهتها قالت الأستاذة نعمات «معلمة» بإحدى المعاهد في حديثها لـ»حكايات»: (تفرض طبيعة عملنا أن يأتي كل واحد بمفرده إلى العمل في الصباح نسبة لأننا نكون على عجلة من أمرنا بالإضافة الى أننا لسنا جيراناً نسكن في محطة واحدة، فقط نرتبط ببعضنا عند الخروج لأننا نستغل مواصلات واحدة وبعدها ينزل كل فرد في محطته المحددة، لذلك عند انتهاء الدوام نخرج مجموعة من المعلمين سوياً فيصبح من الضروري أن تقلنا مركبة واحدة، ولما كان الموضوع متكرراً بشكل طبيعي أصبح كل فرد يدفع تذكرة مواصلاته، بعد أن تجمع من الجميع وتدفع لكمساري المركبة مرة واحدة، هذا لا يعني عدم التعاون مع بعضنا أو أننا نرفض التكافل الاجتماعي ابداً، بل أننا رأينا اننا نخرج يومياً مع بعضنا لذلك يصبح من العسير الدفع يومياً خاصة وأن المجموعة كبيرة لذلك لم نحرم أنفسنا من المرافقة الجماعية والتي هي أهم من الدفع النقدي لاسيما في ظل الظروف الضاغطة التي نمر بها جميعاً.
وقالت نعمات لكن الأمر يختلف إذا كنت في طريقي لزيارة أحد الأقارب وقابلت أحد المعارف في المواصلات العامة هنا يصبح من الضروري الاهتمام به والدفع له، وأضافت: «دائماً أضع في حسباني هذا الأمر عند خروجي من المنزل حتى لا أضع نفسي موضع حرج مع الآخرين، وإذا لم يكن بمقدوري فعل ذلك أعتذر عند نزولي من المركبة ووقتها أكون في قمة الإحراج، لكنني أكون راضية عن نفسي كل الرضا تجاه هذا الشخص».
مصروف الفطور
أما عبد الكريم الذي يعمل في»الاعمال الحرة» قال إن وضعه الاقتصادي لا يسمح له أن يدفع لأحد بالمواصلات وذلك لأن مصاريفه محدودة، ومحددة حسب ذهابه وإيابه من العمل، وهذا الأمر يضعه في مواقف محرجة جداً أمام من يقابلهم من معارف أو جيران في المواصلات العامة، وأكد لـ»حكايات» عدم قدرته إضافة أي مال لأن كل ما يملكه عدا حق المواصلات بالكاد يغطي احتياجات أبنائه، لذلك لا يمكنه وضع زيادة للمواصلات وأضاف قائلاً: ( وفي بعض الأحيان أتخلى عن مصروف الفطور وأدفع لمن يقابلني في المواصلات حتى لا أتعرض للإحراج الشديد أمام الناس).
يوم أبيض
بينما قال الكوميديان الأستاذ ذاكر سعيد في مشهد مضحك بأنه إذا لاقاه أحد معارفه بالمواصلات وهو لا يملك ما يكفيهم معاً، يوقفهم في الحال ويحدثهم بكل صراحة عن موقفه المادي ويقول لهم بصريح العبارة: «أنا مفلس وما عندي قروش» لذلك يرى أن الاحتياط مهم، وأضاف: «كون الواحد يلاقي معارفه بالمواصلات هذا يعتبر يوماً أبيض».
توزيع الدخل
يرى الباحث الاقتصادي عبد الله علي أحمد أن الدفع لأحد الأشخاص في المواصلات يؤثر على دخل الشخص من الاستهلاك اليومي، لاسيما إن كان من ذوي الدخل المحدود، وبالرغم من ذلك أكد لـ»حكايات» أن مسألة الدفع لمعارفنا أو جيراننا في المواصلات لها مردود أيجابي خاصة إذا كان الشخص الذي قابلته لا يحمل المال الكافي الذي يمكنه من الدفع لك وتكون أخرجته من حرج شديد أمام الناس وتكون بذلك ساعدته وتعاونت معه، بطريقة غير مباشرة وقد يكون دفعك لتذكرة المواصلات عنه ساهم في توزيع دخله الضعيف على شيء آخر مهم من احياجاته المنزليه، وتابع عبد الله حديثه: وفي ذات الوقت الدفع المستمر لمن تلاقيهم في المواصلات قد يسهم بشكل سلبي في بعض الأحيان لاعتماد الكثيرين على ذلك وهم ليسوا في حاجة لذلك بل يعمدون لإدخار مالهم ويستخسرون إخراجه للناس.
النساء فقط
بينما قدم باحث اقتصادي فضل حجب اسمه مقترحاً يرى إنه يمكن فك الاشتباك، وقال لـ»حكايات» نسبة للظروف التي نمر بها جميعاً من فقر ومرض أقترح، كل شخص يدفع لنفسه في المواصلات إلا إذا قابلت امرأة في المواصلات حينها يكون من الضروري الدفع لها، وذلك لأن الرجال لا تسمح لهم كرامتهم أن تدفع لهم امرأة حتى وإن كانت أمه.
تكافل اجتماعي
يرى الباحث الاجتماعي كمال منور أن الدفع بالمواصلات يمثل تعاوناً إنسانياً جميلاً، وهو أيضاً يقود لإنشاء مجتمع سوداني متعاون ويعضد من أواصر التكاتف والترابط الاجتماعي بين الناس ويوثق العلاقات ويعمق الإحساس بالغير، وفي السياق اتفقت الباحثة الاجتماعية ثريا إبراهيم مع ما جاء في حديث كمال، وقالت لـ»حكايات» إن الدفع لبعضنا في المواصلات يعد أمراً طبيعياً وليس هناك غرابة من حدوث ذلك وسط المجتمع السوداني، بل نجد الكثيرين يتحرجون ويشعرون بالضيق لعدم قدرتهم على الدفع لأحد المعارف، لافتة إلى ضرورة تفهم وضع الآخر في حال حدوث ذلك، مشيرة للوضع الاقتصادي السيء الذي يمر به الجميع، لذلك دعت الجميع لتقدير ظروف بعضنا ومن يستطيع يمد يده لمن لا يستطيع لأن هذه العادة تمارس وقفاً للتعاون والتعاضد والتكافل الاجتماعي بين الناس.

تقرير: نسمة علي آدم- حكايات