رأي ومقالات

محمدالطاهرالعيسـابـي: آمنه غرة .. إمرأة من الزمن الجميل !!

بين جنائن متشابكة الأشجار وفي مساحة خالية لاتتراوح بضع أمتار كان بيتها المتواضع البسيط المكون من غرفة من الطيّن وراكوبة صغيرة تظلل أمامها ، وزريبة صغيرة من الأغنام تلاصق جانب الغرفة من اليمين ، عاشت آمنة غره في بلدتنا الوادعة التي ترقد في حضن النيل وتتنوع طبيعتها ما بين خضرة ومياه ورمال ونخيل ، إمرأة من الزمن الجميل طاعنة في السن إلا أن جسمها النحيل وخفة نشاطها ومواصلتها للجار والبعيد أشاع فيها روح شبابيّة تراها في محياها ، عرفناها منذ نعومة أظافرنا وحيدة لازوج ولا أبناء ولا أشقاء ، عاشت كذلك ورحلت كذلك إلى رحمة الله ، كانت أغنامها تؤانسها في وحشتها تسميّها بأسماء ( حياة وعلاج ) وتحكي عنها كأنهما طفلتان زهرتان خرجتا من أحشائها ، فتتحدث بحزن وأسى عن مرضهما كما تحكي بسعادة وغبطة عن صحتهما .

فإذا أقبل الليل حملت غره صرتها التي بها فرشها وعشاءها بالكسرة مع الحليب ، وجاءت إلى ( حيّنا ) للمبيت ، فطوال حياتها ماكانت تبات لوحدها في كوخها المنزوي عن الحيّ بمقرُب غابة من أشجار النخيل ، عاشت غره حياة سعيدة هانئة رغم بساطتها وتواضعها لكن القناعة والرضى بما قسم الله كانا يملآن قلبها الحنيّن ، فأعطتنا دروساً ونحن صغار في قيّم ومعانٍ ساميّة تحسها وتراها أمام ناظريك ، فكانت مدرسة تتجسد فيها كثير من الخصال التي نفتقدها في واقعنا الآن ، لم تشك غره يوماً ولم تتضجر من سوء الحال وقساوة الحياة وحرمانها من الولد ورغد العيش و المال ، كل ما تعيش عليه هو حليب تدره لها أغنامها وشجيرات من النخيل تحيط بمسكنها تحصد ثمارها وتقتات بعائدها طوال العام .

لازلت أذكر وأنا طفل يافع أشتم رائحة قُفة الخضار التي تأتي بها من السوق معطونة برائحة النعناع مع الجوافة والليمون ، فتدس يدها داخل قفتها فتخرج محملة بالهدايا لنا ولكل الصغار ، كانت تعد جميع صغار الحي هم أطفالها تخاف عليهم من زمهرير الشتاء وهجير الصيف ، ما ان تراك خارج البيت إلا وتمسك بيدك بعطف خائفة عليك من تقلبات الطقس ، كانت للحياة روعتها وبساطتها وألقها نستمد من الطبيعة حولنا صفاء الذهن وهدوء الفكر وجمال الروح والتصالح مع النفس ، قبل أن نسجن وسط غابات من الأسمنت ، هذا هو مجتمع القرية البسيط الأنيق في كل تفاصيله فمن خرير المياه تستمد الصفاء وبسحر الطبيعة تهدأ النفس ومن إلفة من حولك يستريح القلب فلايحمل غِلاً ولا حسداً ولابُغضاً تصالح تام وإنسجام مع كل من هو حوليك ، بعكس صخب المدن وضجيجها الذي يجعلك في خصام دائم مع ماهو حولك من سوء حال وتباعد الناس .

آمنة غره كانت مدرسة وطبيعة على الفطرة السليمة ونموذجاً لسمو الروح والخُلق والجمال ، فكانت تحمل قلب طفلة بريئة وديعة في جسد إمرأة ومن إسمها لها نصيب ، ترى في محياها صفاء القلب وقناعة النفس والرضى بالحال ، لم تمش في دنيا الكآبة ، و التعاســــــــة ، و العــذاب فترى على أضوائها مافي الحقيقة من كِذاب ، ريّانة من ريّق الأنداء فــي الفجر الوديــــع ، زهرة تهتزّ في قلب الربيــــع .

هذه هي غره عرفناها إمرأة بشوشة طيبة القلب ، مبتسمة في وجه الحياة العبوس ، كانت من الزمن الجميل زمن الطفولةِ , و السذاجة و الطهورأيـام كنـا لُبَّ هذا الكون, والباقي قشورْ و حينها نحيا كما تحيا البلابلُ والجداول والزهور لانحفل الدنيا تدور بأهلها أو لاتدور ، واليوم نحيا مُرهقي الأعصاب مشبوبي الشعور نحفل بالعظيم وبالحقير ونمشي على قلب الحياة ويزحف الكون الكبير . غره لك الرحمة في الخالدين .

إلى لقاء
بقلم: محمدالطاهرالعيسـابـي

[email]motahir222@hotmail.com[/email] صحيفة السوداني

‫2 تعليقات

  1. [SIZE=4]هذه هي حياة الريف الجميلة الناس على بساطتها قلوبهم بيضاء لاتلوثها عوادم المدن ومن الطبيعة يستمدون الصفاء والبهاء والجمال شكرا الاستاذ ابومهند على هذا الوصف الجميل واتمنى ان تواصل لنا في هذه النوعية من المقالات التي تصور لك واقعا وتعيش مع تفاصيلة
    شكرا يا استاذ [/SIZE]

  2. مقال جميل
    لقد عايشت هذه السيدة فعلا لقد كانت فيض من حنان ومثال لعبقرية التعايش مع الطبيعة
    شكرا محمد على هذا المقال الرائع
    تحياتى
    د: أحمد حسن فانابى