رأي ومقالات

د.عارف عوض الركابي : تقديم «المصلحة العامة» من أهم مرتكزات الصُلح والإصلاح

[JUSTIFY]اطلعت في ما ينشر من أخبار أن لقاء الرئيس عمر البشير مع بعض الأحزاب السياسية الممثلة في آلية الحوار الوطني سيكون يوم غد الخميس إن شاء الله فأردت أن أُسهم في هذه المناسبة بهذا المقال، فأقول: إن الصلح بين المختلفين والإصلاح بجمع شمل المتنازعين، وفض الخصومات بين المتخاصمين، مهمة عظيمة وغاية نبيلة، لا يخفى على من له أدنى إطلاع ومعرفة بالأحكام الشرعية مكانتها وفضلها وأجرها، وحيث كان التنازع عقبه الفشل قال تعالى: «ولا تنازعوا فتفشلوا».. فالافتراق مذموم والتحزب للأشخاص والجماعات ممقوت شرعاً ، وعواقبه في إضعاف المسلمين لا تخفى مع ما ينتظر أهله من وعيد أخروي. فالجماعة رحمة والفرقة عذاب هكذا يردد هذه العبارة وما في مضمونها أئمة الإسلام، والتأليف بين القلوب مهمة سامية، ونعمة من الله عظيمة كريمة، قال تعالى: «واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً»، فإن فقد الإلفة نقمة.. يحزن عليها ويتألم لفقدها.. والواجب الشرعي يقتضي أن يحرص المسلم على الاجتماع على الحق ويبغض ويبتعد عن الفرقة، ويكون أداة من أدوات الوحدة، ويسهم بقدر جهده وطاقته في ذلك، ومن المعلوم لأولي الألباب وأهل العلم أنه لن تكون وحدة صحيحة وحقيقية إلا إذا اجتمع المسلمون على الكتاب والسنة، فإن الآراء الشخصية والانفعالات العاطفية والولاءات السياسية والمصالح الدنيوية لا تجمع شملاً ولا توحّد صفاً ولا تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً؛ بل هي من أبرز أسباب الفرقة التي يعيشها المسلمون ومن أهم أسباب الضعف والهوان، فإن حال الأحزاب السياسية والفرق كما وصف الله تعالى: «كل حزب بما لديهم فرحون».. فإن السياسة التي نراها تتقلّب وتدور مع المصالح الشخصية والتكتيكات الحزبية، ونرى أهلها يدورون في فلك القاعدة الخبيثة «الغاية تبرر الوسيلة»!! فالغاية تبرر لهم الوسائل مهما كانت تلك الوسائل، ولذلك فإن من المؤسف أن يكون العرف في كثير من بلاد المسلمين أن تسهم ما يسمى بــ «المعارضة» في إضعاف الدولة وتفرح لدمار بلادها وسوء حالها وقد تسهم في ذلك الدمار بطريق مباشر أو غير مباشر!! لأن ذلك سيكون من أسباب وصول تلك المعارضة إلى الحكم!! بل قد يكون بفهمها هو الطريق الوحيد للظفر بالسلطة التي أصبحت غاية عند أهل السياسة. وكم من بلاد عانى أهلها وضاقت سبل العيش على شعوبها بسبب تصرفات من يعارضون حكوماتهم، وهذا الأمر يبين بجلاء أن الهدف من الحكم ليس أن يكون وسيلة لإسعاد الشعوب والوقوف معها ونصرة قضاياها، وإنما الهدف هو المصالح الشخصية والحزبية لتلك الأحزاب، ولست بحاجة لأن أضرب أمثلة أوضح بها ما أقول فإن هذه الحقيقة للأسف أوضح من أن يستشهد لها وتضرب لها الأمثلة.

إن من أهم عناصر تحقيق الصلح والإصلاح وحصول الاجتماع أن يتم التنازل للمصلحة العامة، وترمى المصالح الخاصة والشخصية، وهذا محكٌ من المحكّات المهمة التي يجب رعايتها، فالمصلحة العامة إذا روعيت وقُدّمت كان هذا من أهم الأسباب المعينة على الصلح، ويسجل لنا التأريخ الإسلامي روائع في هذا الباب، من أعظمها وأشرفها تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ومبايعته له واجتماع كلمة المسلمين في ذلك العام الذي سمي بعام الجماعة وقد تحققت بذلك معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام فقد أخبر بذلك والحسن رضي الله عنه صغيراً يجلس بجانبه في المنبر فقد بوّب الإمام البخاري في صحيحه باب قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا». ثم ساق بسنده فقال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِنِّي لأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ، وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ ــ أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ فَقَالَ اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ وَقُولاَ لَهُ وَاطْلُبَا إِلَيْهِ فَأَتَيَاهُ فَدَخَلاَ عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا وَقَالاَ لَهُ فَطَلَبَا إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا قَالاَ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ قَالَ فَمَنْ لِي بِهَذَا قَالاَ نَحْنُ لَكَ بِهِ فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلاَّ قَالاَ نَحْنُ لَكَ بِهِ فَصَالَحَهُ فَقَالَ الْحَسَنُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهْوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً ، وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. رواه البخاري وغيره.

نعم كان هذا العام هو عام الجماعة، وهذا مثال يجب على المسلمين الاقتداء به، والنظر في ما ترتّب عليه من عواقب حميدة وعصمة للدماء، وهو بلا شك مقام عظيم شريف يبين مكانة وشرف تقديم المصلحة العامة على المصالح الخاصة، وقد يصعب على كثيرين أن يحذوا هذا الحذو بسبب تفاوت الديانة والإيمان والعلم، وبسبب الركون إلى الدنيا وعقد الولاء والبراء على الفرق والأحزاب والتكتلات السياسية.. وغير ذلك من الأسباب.. لكن واجب النصيحة يوجب أن يقال هذا الكلام، فلم نتعلم اليأس ولله الحمد، وأعلم أن الذرة من الحق تذوب أمامها جبال الباطل، وفي ذلك إبراء للذمّة.. ومحبة للخير لهذا البلد الكريم الذي كثرت مصائبه وتواصل نزيفه المؤلم الموجع واشتدت معاناة أهله. إن على هذه الأحزاب أن تدرك أهمية الحرص على المصلحة العامة وأن تعلم مكانة الاجتماع وفضل الجماعة وليراجعوا مواقفهم ولينظروا في واقع بلادهم وليتفكروا في مستقبلها ومستقبل أهلها وما ستكون عليه أجيالها المتعاقبة.

أقول بأن هذه التحزبات السياسية والتحزب للأشخاص والجماعات من الباطل الذي أفسد في المسلمين كثيراً.. ولا أؤمن بالكذبة السياسية المسماة «الديمقراطية» فإنها مما ضحك به الكفار على المسلمين ولو كان أهل الديمقراطية يطبقونها حقاً لما كانت المسلمة في بعض بلاد الغرب تدفع غرامة إذا غطّت وجهها!! ويكفي من مهازل الديمقراطية أن أحد ميادينها المشهورة !! خلع منه رئيس وقُلّد بعده رئيس في نفس الميدان وصليت فيه الجمعة!! ثم نفس الميدان خلع الرئيس الذي جاء بما يسمى بالديمقراطية!! وكله نتاج الديمقراطية!! فقد ضحكت كثيراً الديمقراطية على تلك الشعوب التي أضاعت طريق الحق.

فلست مقراً لهذه التحزبات فضلاً عن ما يسمى بالمعارضة وأحزاب المعارضة، فإن في الإسلام يكون الشخص واحداً من اثنين إمام حاكم راعٍ وإما محكوم من الرعية، وعلى الحاكم واجبات وله حقوق، وعلى الرعية واجبات ولهم حقوق، وعلى الحاكم واجبات يسأله عنها الله تعالى من الحكم بالشرع والعدل بين الرعية وغير ذلك، وعلى الرعية السمع والطاعة في طاعة الله تعالى، والنصوص الشرعية في ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم كثيرة جداً وقد كتبت مقالات عديدة في هذه القضية.

ورغم ما ندين الله به في هذه الأمور العظيمة إلا أنه لا يمنع ذلك من حثٍّ على الاجتماع ونبذ الفرقة وأسبابها وكيف لا يُذكّر بهذا الأمر العظيم وهو أصل من أصول الإسلام العظام أن الفرقة مذمومة والاجتماع يجب أن يجتهد في تحقيقه، ولن يكون اجتماع إلا على الحق، وعلى ما جاءنا في شريعة الله في الكتاب والسنة وعلى هدي محمد عليه الصلاة والسلام ، وهذا هو الصراط المستقيم.. الذي أوجب الله اتباعه، وندعو في كل ركعة فنقول «اهدنا الصراط المستقيم».. وقد حذّر من اتباع السبل والطرق قال الله تعالى: «وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلك تتقون».

صحيفة الانتباهة
ت.إ
[/JUSTIFY]