رأي ومقالات

بدرالدين حسن علي: فيلم حتى نلتقي فاكهة نادرة في السينما المصرية

أعترف بأنني أحب هذا الفيلم وأعشقه ، وأنني على إستعداد لمشاهدته مرات ومرات .. إنه فيلم يفيض رومانسية في زمن قلت فيه الأفلام الرومانسية ..وأعني بذلك فيلم “حتى نلتقي “للمخرج هنري بركات أو ” محمد مرزوق ” ، وهو من أكثر المخرجين المصريين إنتاجا للأعمال السينمائية ، وصار صاحب لقب شيخ المخرجين .
تخرج بركات في كلية الفنون الفرنسية بالمنيرة عام 1935 ، بركات مولود في11 يونيو 1914 وتوفى في23 فبراير 1997 ، وإذا ما دققنا في التاريخ وبعد مائة عام منذ ميلاده وإلى اليوم نجدأنه قضى سبعة عقود في رحاب السينما فما أروعك يا بركات وروعة أفلامك .وما زلت أذكر أفلاما له مثل :أفواه وأرانب ، لحن الخلود ، تحقيق مع مواطنة ، ليلة القبض على فاطمة ، الشك يا حبيبي ، أذكريني ، الخيط الرفيع ، أمير الدهاء ، دعاء الكروان وفي بيتنا رجل ..إلخ
بركات وبلا منازع أحد أهم مخرجي المدرسة الرومانسية في السينما المصرية ، بل وفي العالم أجمع ، وفيلمه هذا ” حين نلتقي ” يكاد يكون من أروع الأفلام التي شاهدتها له، فيلم الأحاسيس والمشاعر الدافئة الذي قدمه عام 1958 عن قصة وسيناريووحوار المبدع يوسف عيسى وبطولة المبدعين الآخرين فاتن حمامة وعماد حمدي وإلى جانبهما سراج منير أحمد مظهر وعمر الحريري.
الفيلم يحكي قصة الممثل الذي ترك زوجته وطفلته وتزوج من عشيقته ، تتفرغ الأم الممثلة لتربية طفلتها ..تمر سنوات وتكبر الطفلة وتصبح بدورها ممثلة مرموقة تتفرغ لفنها وتهرب من حب زميلها الشاب لها ، وتتعرف على على كاتب مشهور يربط الحب بينهما ولا تعرف أنه متزوج ويحاول أن يبقي على أسرته من أجل إبنته الصغيرة المشلولة رغم فتور علاقته بزوجته ، تكتشف الفتاة الحقيقة ، ويقرر هو أن يطلق زوجته ويتزوجها ، وفي هذه اللحظة تدرك أنها على وشك التصرف كما تصرف والدها من قبل ، فتقرر أن تعدل عن زواجها وأن تقطع علاقتها بحبيبها وتتفرغ لفنها .
إذن نحن أمام فيلم يتحدث عن حياة أهل الفن الخاصة ومشاكلهم والعواطف التي تخترق حياتهم وموقفهم من فنهم والناس ، وهذه النوعية من الأفلام ناجحة جماهيريا في أمريكا وأوروبا بينما تواجه بالفشل في السينما المصرية مهما كانت نوعية الفنانين الذين يقدمونها كما في هذا الفيلم الجميل الرائع .
فيلم “حتى نلتقي “يروي أزمة ممثلة عانت في حياتها الكثير من جراء الخلافات العائلية وانفصال الأم عن الأب والحرمان من الحنان ،وعندما تقع في أكبر واهم حب في حياتها تواجه مشكلة تشابه مشكلتها .. ويلتقي الفن بالواقع ، وتجد الممثلة فيوضع عليها أن تختار .
وهناك مشهد في الفيلم نسميه “الماستر سين ” وناس المسرح يسمونه ” الكلايماكس ” أي القمة عندما تزور الممثلة الشهيرة منزل الزوج لتلتقي بزوجته وتقف بوجهها رافعة الرأس مليئة بالكبرياء لتدافع عن حبها وعن حقها بالحياة مع رجل أحلامها ثم تكتشف وجود الإبنة المشلولة ، فينهار مرة واحدة قصر الرمال الذي بنته وكل الضجيج والدفاع الذي هيأته لتواجه به العاصفة، تسقط السدود وتذهب الأمال ولا يبقى تجاه الممثلة إلا وجه الطفلة المشلولة التي تبتسم لها ببراءة وتذكرها دون أن تقصد بكل المراحل التي مرت في حياتها.

في هذا المشهد الرائع قال الفيلم كل شيء يريد أن يقوله .. والممثلة العملاقة فاتن حمامة بأدائها الداخلي ووجهها الذي يعبر عن أدق عواطفها النفسية ويعكس كل حدة الصراع المشتعل في نفسها ، وبركات في إخراجه الشاعري المتميز وحسه المرهف الذي يصل في هذا المشهد ألى القمة ، ويجعل منه أغنية حزينة هامسة عوضا عن أن يكون مشهدا ميلودراميا مليئا بالآهات والدموع والتشجنات .
في هذا المشهد حدد الفيلم مساره بإيجاز ودقة ، وأشعرنا أن عواطفنا الصغيرة يجب أن تنسحق تجاه عاطفة أكبر منها وأشد إتساعا ، عاطفة ترفعنا عوضا أن تدفعنا إلى الأسفل ، عاطفة تؤكد إنسانيتنا وعن حقنا بسعادة عابرة زائلة عوضا عن كبرياء الإرتقاء بالنفس وتجاوزها .
إنه فيلم كبير في عواطفه وتعبيره وفي الغاية التي يدافع عنها ، وإذا كان المخرج قد إختار للدور الرئيسي ممثلة فنانة مثل فاتن حمامة لأنه يعرف أن الفنان قادر أكثر من غيره على فهم عواطفه وإظهار ما هو مختف في الداخل إلى السطح وتعريضه للنور الساطع ، خاصة لنجمة متألقة دائما مثل فاتن حمامة ، والتي كان وجودها مهما بل وضرورة درامية ملحة فسرت وشرحت وبررت الكثير من الأمور والتصرفات التي نسجها سيناريو يوسف عيسى ببراعة وحذق .
إنه فيلم رقيق وحساس ويحمل رسالة إنسانية رائعة ، ويحلل بقوة ونجاح قوة الحب وقوة التضحية وبذل النفس ، ويهمس في أذننا بشاعرية رقيقة ، أن الحب الحقيقي هو الحب الكبير الذي يعلو بالنفس وليس الحب الصغير الذي يضعنا في سجن أنانيتنا ، ويمنع أصابعنا أن تلمس السماء ، وهو يستحق أن نقول عنه فاكهة نادرة في السينما المصرية ، فيلم الأحاسيس والمشاعرالداخلية الدافئة ولحظة الإختيار الصعبة ، لذلك يظل فيلم ” حتى نلتقي ” رغم هالات النسيان التي تحيط به نور يبعث إشعاعه ويثير في دواخلنا دائما الفكر والتأمل ، ولذا أيضا يستحق أن نشاهده مرات ومرات .

بقلم :بدرالدين حسن علي