رأي ومقالات

خالد التيجاني: تحوّل السودان بفعل قصر نظر الطبقة السياسية وعقليتها الموغلة في الذاتية إلى “سلة مبادرات ومفاوضات ومواثيق العالم”

ما علم الناس في زماننا هذا بلداً جرت فيه حوارات ودارت حول قضاياه ومشاكله مفاوضات ووُقعت بين قواه السياسية المختلفة حاكمة ومعارضة اتفاقات ومواثيق بعدد الحصى مثلما شهده بلدنا العزيز السودان, حتى بات مؤهلاً بغير تنافس للحصول على المرتبة الأولى لباب في غرائب السياسة في موسوعة “غينس للأرقام القياسية”.
النيل هنا …
وكل خيرات الأرض هنالك
ومع ذلك .. ومع ذلك
في توصيف جامع مانع لمحنة السودانيين ذهب إليه شاعرنا الكبير الراحل صلاح أحمد إبراهيم متحسراً على بلد توفرت له كل أسباب الفلاح والنجاح والنهوض فإذا هو يفتن في كل عام مرة أو مرتين, ثم لا يتوب قادته ولا يذكّرون, وإذا هو في كل عام يُرذل لا لسبب إلا بفعل طبقته السياسية البوربونية التي لم تنس شيئاً ولم تتعلم شيئاً, ورهانها الوحيد أن ذاكرة الشعب ضعيفة .. وهيهات, ولذلك يتقلب السياسييون بين المواقف ونقيضها وهم آمنون من مساءلة أو مراجعة ولا يرجون لتناقضاتهم فضحاً, لما لا وثقافتنا الجمعية “رزق اليوم باليوم” وأدوات بث الوعي والتنوير غارقة في تفاصيل حدث اليوم غير آبهة بربطه لا بأحداث الماضي البعيد, ولا حتى بوقائع الأمس القريب, تنغمس في تتبع “قوالات” السياسيين وفعائلهم البائرة, من وقّع ماذا, وماذا قال ذاك, كساقية جحا.
سار ذكر السودان بين الأمم منذ أوساط سبعينيات القرن الماضي, بفضل قدراته وإمكانياته الطبيعية الهائلة الكامنة والحاجة الملّحة المتزايدة عالمياً لغلتها, حتى جرى عليه وصف “سلة غذاء العالم”, ما حدث أن هذا الشعار البرّاق تحوّل بفعل العجز الشامل للنظام السياسي السوداني, بكل مكوناته الحاكمة والمعارضة وعلى تعاقب حقب الحكم الوطني, إلى سراب بقيعة طالما حسبه السودانيون المتطلعون لدولة يستحقونها ماءاً تجعل تًحي بوار حقولهم وتنعض بدولتهم.
لقد تحوّل السودان بفعل قصر نظر الطبقة السياسية وعقليتها الموغلة في الذاتية بتحقيق مكاسب حزبية ضيّقة مرحلية على حساب الحلول الكليّة الشاملة بعيدة النظر إلى “سلة مبادرات ومفاوضات ومواثيق العالم” بلا جدال, وليتها كانت منتجة إذن لما شهدنا إعادة إنتاج أزماتنا بفعل سياسة “الباب الدوّار” ما أن تظن أنها حلّت أزمة حتى تفاجأ بأنها ولدت أخرى وهكذا يتواصل الدوران في “الحلقة المفرغة”.
وتنشغل الساحة السياسية السودانية هذه الأيام بلعبة جديدة في سوق السياسة اسمها “الحوار الوطني” بكل الزخم المحيط بها, وبتداعياتها التي أدت إلى تحريك القطع في لعبة الشطرنج السياسية السودانية لتطلق عملية تفكيك واسعة للتحالفات القائمة وإعادة تركيب لتحالفات جديدة, دون أي قواعد موضوعية سوى الرغبة في تجيير هذا الحراك لصالح أطراف اللعبة وليس لصالح الوطن.
وثمة سؤال يطرح نفسه في خضم حالة الهرج والمرج السائدة حالياً تحت لافتة “الحوار الوطني” الذي كاد يصبح له خوار مثل “عجل السامري”, حقاً هل هناك ما لا يزال السودانيون يحتاجون فعلاً للحوار حوله؟ سؤال يبدو مستغرباً في ظل حالة الأزمة الشاملة المستحكمة التي تأخذ برقاب الجميع, ولكن هل هذا المأزق المُنذر سببه غياب الحوار أو الحاجة لحوار جديد, أم سببه التمادي في نقض عهود مواثيق سبق التحاور حولها وأبطل مفعولها بسبب التحايل عليها.
لا شك أن هناك حاجة ملحّة تستدعي الانتقال إلى مربع جديد لحل أزمة الحكم المستفحلة, ولكن ذلك لا يتم بإعادة إنتاج موّال حوارات لا أول لها أو آخر انخرط فيها نظام الحكم الراهن منذ أول عهده بالسلطة قبل ربع قرن من الزمان, ولم يترك أحداً لم يحاوره, ولم يترك عاصمة قريبة أو بعيدة إلا وشدّ إليها الرحال مفاوضاً, ولكن السؤال الكبير لماذا انتهت كل تلك الحوارات, والمفاوضات والاتفاقات التي أشك أن هناك من يستطيع أن يحصيها عدداً, انتهت كلها إلى مردود غير منتج للاستقرار والسلام على كثرتها بدليل العودة لطرح بضاعة قديمة لم تثمر فيما سبق فما الذي يجعلها مثمرة هذه المرة؟.
هذه المقالة ليست مرافعة ضد “الحوار” ولكنها وقفة ضد اتخاذه وسيلة سهلة “للمناورات” السياسية الضيقة في وقت لم تعد فيه البلاد والعباد تستحمل المزيد من التلاعب بمصيرها في ظل المخاطر الكبيرة المنذرة بإنزلاق الأوضاع لما لا يُحمد عقباه نحو ما تشهده العديد من المجتمعات في المنطقة, فليس هناك شئ اسمه الحوار من أجل الحوار, كما لا يعني شيئاً عندما يتم توظيفه للمحافظة على “أوضاع معطوبة”, يستحق أن تكون له قيمة عندما ينجح في الانتقال بالبلاد من مربع الأزمة بكل تجلياتها إلى مربع جديد تلتقط فيها أنفاسها وتبدأ التأسيس لنظام سياسي جديد قادر على تحمل تبعات إخراج البلاد من براثن الفوضى. والسؤال مجدداً على كثرة الحوارات والمفاوضات والاتفاقات التي أبرمتها الطبقة الحاكمة على مدار ربع القرن الماضي ما الذي جرى وجعلها غير منتجة؟.
حسناً حتى لا يبدو الأمر تغريداً خارج السرب دعوننا ننعش الذاكرة قليلاً, ولنعد إلى أيام الحوار والتفاوض حول تسوية “مجاكوس” التي أفضت إلى اتفاقية السلام الشامل, كانت لحظات تاريخية تحلّق حولها السودانيون جميعاً بكل قواهم السياسية لا يكاد يشذ منهم أحد, وانتعشت الآمال مع تلك الأجواء المبشّرة بأن السودان على موعد جديد مع التاريخ يودّع فيه الحروب وعدم الاستقرار والبؤس إلى الأبد, كان إحدى معايبه طبيعته الثنائية بين الطرفين ومع ذلك غضّ الخصوم السياسيون الطرف عن ذلك ودعموا التسوية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً رجاء أن يعم خيرها على الوطن كله, وذهبت الصحف تبشّر بالسلام وتدعو له متجاوزة حتى الأعراف المهنية في حيادية نقل الأخبار ونشر التحليلات المتفائلة من باب مساندة التفاوض حتى يصل إلى بر السلام.
ونعمت اتفاقية السلام الشامل بما لم تنعم به أي تسوية سياسية أخرى حتى أنها لم تحتج لأن تطرح في استفتاء على الرأي العام لإكسابها شرعية شعبية على الرغم من مصيرية مخرجاتها, وكذلك جرى تمريرها في المجلس الوطني دون تعديل حرف فيها, وتم تضمينها بالكامل في دستور 2005 ورسمت ملامحه الأساسية دون العودة إلى الشعب, وما الشرعية القانونية التي يتمتع بها النظام حالياً ومنحته عشر سنوات إضافية في دست الحكم إلا نتاج تلك التسوية وخريطة الطريق التي أرستها على الرغم من النتيجة المأساوية التي انتهت إليه .. لقد حدث السيناريو الأسوأ فقد تمّ تقسيم البلاد وإعادة إنتاج الحرب.
ولسائل أن يسأل وما علاقة ذلك بقضية “الحوار” المطروحة اليوم, العلاقة بيساطة هي أن تسوية “مجاكوس” واتفاقية نيفاشا كانت هي “أم الحوارات” بلا منازع, كما كانت “عروس” الاتفاقيات بلا جدال تهيأ لها من التأييد الوطني ومن الدعم الدولي ما لم يتهيأ ولن يتهيأ لأي محاولة تسوية نهائية للأزمة السودانية, لم تكن بإقرار طرفيها تسوية لقضية جنوب السودان فحسب بل قُدمت كتسوية وطنية شاملة ونموذج يصلح لحل مشاكل السودان كلها, ولتسوية مطالب أرجائه كافة, وكانت حجة ما يقوله طرفا التفاوض رداً على ثنائيتها أنهما قتلا أمهات قضايا السودان بحثاً وصل إلى حد “سلخ جلد النملة”, وأنها تبنت حلولاً ومعالجات جذرية لأسباب الصراع والاقتتال الحقيقية ومن ثم فإن الرد هو في قيمة ما احتوته من مضامين وليس في مظهر من ناب عن جميع السودانيين الآخرين في إبرامها.
والسؤال كيف تبددت تلك الآمال العريضة والأهازيج والاحتفالات التي رافقت التوقيع على اتفاقية السلام حتى عدّها النظام الإنقاذي أعظم إنجازاته بلا منازع واعتبرها بمثابة الاستقلال الثاني للسودان, هذا قبل أن ينقلب عليها الجميع في الحزب الحاكم ويتبرأون منها يستمطرون عليها اللعنات ويصبون عليها جام غضبهم وايعتبروها محض مؤامرة أجنبية قادت إلى تقسيم البلاد, ومتناسين السؤال البسيط كيف رضوا لأنفسهم ان يًستغفلوا إلى هذه الدرجة وأن يكون هم أنفسهم الذين ينفذون أجندة هذه الإرادة الخارجية؟.
في الإجابة على هذا التساؤل تحديداً تكمن الإجابة في الصلة ما بين “نيفاشا” وتبعاتها, و”الحوار” المطروح حالياً ومآلاته. ذلك أن سيكون من الغفلة بمكان أن لا نستدعي عبرة الأمس القريب, حتى لا نجد أنفسنا نعيد تدوير أزمتنا لأن الذهنية المنتجة لهذا المأزق لا تزال هي ذاتها التي تقف وراء دعوة “الحوار” الجديدة التي يتم تسويقها وكأنها منتج جديد لم يتم تجريبه أو اكتشاف لم يسبق إليه أحد, ثم نلبث عاكفين على “عجل السامري” ننتظر أن يرجع إلينا بنبي نهتدي به.
ما الذي حدث وأدى بإتفاقية السلام لأن تتحول من نعمة إلى نقمة, ومن وصفة حل شامل للأزمة السودانية المتطاولة إلى باب دوّار أدى إلى إعادة إنتاج الأزمة على نحو أكثر تعقيداً وكلفة؟. للانصاف ينبغي للإجابة على هذا السؤال التفريق بين أمرين فالاتفاقية لم تكن محض شر نحو ما يحاول البعض تحميلها كل أوزار المأزق الوطني الراهن, واعتبارها أساس كل بوار لحق بالبلاد من جرائها, فالأمر الأول يتعلق بالجانب الإيجابي منها وهو ما أفصحت عنه النصوص المؤسسة للاتفاق الإطاري للتسوية وهي التي خاطبت جذور الأزمة الوطنية ورسمت خريطة طريق تبين سبل معالجتها, والأمر الثاني يتعلق بطبيعة الصفقة السياسية التي سعى الطرفان, المؤتمر الوطني والحركة الشعبية, للاستئثار بها استغلالاً للاتفاقية والأجواء التي صنعتها وتوظيفها لصالح تلبية أجندتهما الذاتية وهو ما أودى في نهاية الأمر بالجوانب الإيجابية من الاتفاقية وقضى عليها قضاء مبرماً.
فالمحاور الرئيسية المطروحة اليوم كأجندة للحوار الوطني وهي قضايا السلام والاقتصاد والحريات والهوية والحكم, وحتى مسألة الانتقال كانت هي عين القضايا التي قتلت بحثاً في جولات التفاوض الممتدة وشكلت عصب الاتفاق الإطاري لتسوية “مجاكوس” المؤسّسة لأركان بروتوكولات الاتفاقية, وهي كما اسلفنا كانت تخاطب الأزمة السودانية باتساع بعدها الوطني وليست مقصورة على قضية الجنوب التي تم النص على أنه يمكن مخاطبة مطالبها ورد مظالمها في إطار “وحدة السودان التي تقوم على أساس الإرادة الحرة لشعبه والحكم الديمقراطي, والمساءلة, والمساواة, والاحترام, والعدالة لجميع مواطني السودان”. ونصت المبادئ المؤسسة للتسوية على إقامة نظام ديمقراطي يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والعرقي والديني والجنس واللغة, والمساواة بين الجنسين لدى شعب السودان, وتأسيس حل شامل يعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي, ويستبدل الحرب ليس بمجرد السلام, بل أيضاً بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحترم الحقوق الإنسانية والسياسية الأساسية لجميع شعب السودان
لم تكن هذه مجرد نصوص للاستهلاك السياسي يمكن تجاهلها مع انتهاء مراسم الاحتفالات بالتوقيع على الاتفاقية ولكنها كانت شروط لازمة التنفيذ وواجبة الإلتزام بها لأنها تحمل روح واستحقاقات الحلول الجذرية لأزمة السودان, ولو كان تمّ الوفاء بهذا الاستحقاق الأهم “تأسيس نظام ديمقراطي” لتحقق الانتقال إلى نظام سياسي جديد مكتمل المشروعية ولما حدث تقسيم البلاد وتحقق السيناريو الأسوأ.
والسؤال ببساطة ما الذي يمكن أن يسفر عنه أي حوار يجري تحت لافتة الحراك الحالي أكثر من ذلك الذي أسست له اتفاقية السلام ونال رضا واستحسان الجميع, وجرى تضمينه في الدستورمتجاوزاً مجرد الاتفاق السياسي بين طرفين إلى وثيقة دستورية وقانونية ملزمة وخريطة طريق واضحة المعالم نحو تحوّل ديمقراطي؟.
كان مقتل اتفاقية السلام في ائتمار طرفيها على عدم تنفيذ أهم مقاصدها وهو تأسيس نظام ديمقراطي حقيقي مكتمل الأركان باعتباره الضامن الوحيد لتحقيق تطلعات كل السودانيين واستدامة السلام والاستقرار, وهو على أي حال أمر بدأ أثناء التفاوض حين انحرف الطرفان من مسار مهمته الجليلة لتأسيس تسوية بحجم الوطن وتطلعات مواطنيه كافة, ليتحول إلى مسار تم تفصيله على مقاس تطلعات الطبقة الحاكمة في الخرطوم حيث سعى مفاوضوها إلى اهتبال تلك الفرصة لا لتحقيق المصالح الوطنية العليا, بل لضمان مصالحها الذاتية بإغراء الحركة الشعبية لإقامة شراكة سياسية تحقق لها الحفاظ بالسلطة واقتسامها, وهنا تحديداً جرى الانجراف نحو تقديم تنازلات غير منطقية وغير موضوعية, مما اكتشف الناس عواقبه لاحقاً, ولم يترد مفاوضو الحركة الشعبية في استغلال تلك الرغبة العارمة ليحققوا من وراء ذلك مكاسب تفوق الحقوق التي كانوا يتطلعون إلى الحصول عليها, كانت الانتهازية سيدة الموقف حضرت الأجندة الذاتية عند الطرفين وغاب هم الوطن, فكان طبيعياً أن تنتهي الاتفاقية مع كل تلك الآمال المعقودة عليها إلى تلك النتائج الكارثية التي يدفع الشعبان الآن في الشمال والجنوب ثمنها غالياً.
ومأزق “الحوار” المطروح الآن هو نفسه الذي قاد إلى فشل تسوية نيفاشا حين تحولت من فرصة تاريخية لعلاج جراح الوطن إلى تعميق أزماته لا لسبب إلا لأن الطبقة الحاكمة جعلت هدفها الحفاظ على السلطة بأي ثمن وكانت النتيجة الفشل في الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره وسلامه, ولذلك لا يحتاج السودان إلى إضاعة المزيد من الوقت في لعبة اسمها “الحوار” حول قضايا قتلت بحثاً, ولا يتصور عاقل أن تأتي بأي جديد في هذا الصدد لم تتم الإحاطة به من قبل, كما أنه لن يتم إعادة اختراع العجلة, ما يحتاجه السودان والسودانيين حقاً هو تخلي الطبقة الحاكمة عن الحلم المستحيل قطف ثمار “شجرة الخلد وملك لا يبلى”, لن ينتج الحوار ما لم يتغير هدفه الاستراتيجي من تكتيكات الحفاظ على السلطة, إلى استراتيجية الحفاظ على البلاد وشعبها ومنعها من الانزلاق في أتون الفوضى, والحل واضح الذهاب مباشرة إلى تأسيس قواعد نظام ديمقراطي مكتمل الأركان بلا مواربة ولا مناورة. وهذا لا يحتاج إلى حوار يًعاد فيها اختراع العجلة.

بقلم: خالد التيجاني النور

‫2 تعليقات

  1. كلام صادق وتحليل دقيق وموضوعي من زول قلبه علي البلد.. ربنا يديك العافيه