اقتصاد وأعمال

خيران القضارف: التسلل إلى الأسواق وكشف “عورات” المخازن

[JUSTIFY]ليست قاسية بالمعنى الحرفي للكلمة، بل هي عملية دفاع مستميت مع طبيعة قاهرة، وربما في بعض المرات تتماهى مع تيار النهر، فالحياة في ريف القضارف، خاصة في موسم الخريف، تتطلب (دربة عالية)، وحيل ذكية تفرضها الظروف غير المواتية للعيش في تلك المناطق، فمعدلات أمطار عالية، لابد من ترويضها ببناء قطاطي منحدرة، وذوات شكل (محدودب)، تخفف قليلا من وطأة غزارة الهطول المستمر للأمطار، وتلقي به إلى الأسفل كما في عملية هبوط الطيران الآمن، وخيران مفترسة تستدعي البعد عن ضفافها وكذا فإن قاطني ضفاف الخيران، رغم المكان الفسيح للسكن، فإنهم يحتاطون ببناء محلي من الحطب والقش، يتم ترميمه مهما تأثر بالخريف وفيضان الخيران، ويتخذ الكثيرون آلات حياة متوائمة مع الطبيعة، ففي عدم توفر التيار الكهربائي يكفي المنزل (بطارية) أو (لمبة زيت) قديمة، بينما يرد الناس المياه من أقرب بئر محدود العمق.

مخلفات حرب:

تبدو الحالة التي تخلفها غضبة أحد خيران القضارف كأنها مخلفات معركة حربية دارت رحاها، وانتهت بهزيمة الطرفين، فخور مثل (خور أم خراييت) يصفه بعض جيرانه بأنه يحمل صوتا أشبه بدوي مدفع حرب وهو قادم من بعيد، وخريره العالي كفيل بإبعاد الغرباء من مرمى نيرانه أبعد مسافة، وهو قادم في أخدوده العظيم كأنما يدافع بشراسة عن حوضه، ليحمل في جوفه كتل وركام كل من امتدت يده للعبث بالحدود المقدسة والضفاف الطاهرة، وتبدو من على البعد (حليمة) صاحبة مطعم في ضفة الخور، وهي ترى بقايا مطعمها المتواضع متناثرة في وسط الطمي بفعل الفيضان الليلي المفاجئ في صبح هو الآخر مبلل بالأمطار، تكتفي حليمة بالفرجة على نثار (الراكوبة) أمامها قبل أن تقول لـ (اليوم التالي) إن عدتها المتواضعة والمكونة من أطقم صحون وصوانٍ هي آخر ما تدخره من معدات مطعمها الصغير في خور (أم خراييت)، تشير إلى أن هذه الثورة (المؤقتة) للخور قد تكلفها أسبوعا بحاله لترميم ما أتلفته المياه، لكنها ستعاود بما تبقى من ركام (الراكوبة)، وبعض أوانٍ تحصن داخل أعواد منصوبة من أمواج الخور العاتية، زبائنها يكتفون بالفرجة هذا الصباح، فلا هم سيتناولون (عصيدة الدخن)، ولا سيستمتعون بملاح الكجيك هناءً وشفاءً.

وجبة مفضلة :

لا تكتفي الخيران بوجبتها داخل مرمى نيرانها، بل تمتد الرحلة إلى أعماق داخل القرى والأسواق متسللة بفضول كبير لتعرف خبايا مؤن الغذاء التي يدخرها المواطنون إما في منازلهم وإما في مخازنهم. عبده هارون الذي يمتلك متجرا في أحد الأسواق بدأ بنشر مواد غذائية وبعض الحبوب والمحاصيل التي يحتفظ بها في متجره، يبدو هرون غاضبا كأنما الخور قد اغتصب أرضه وهو يبدأ بحديث ساخن “الصباح لقيت الواطة خربانة علينا”، يؤكد عادة في المواسم الماطرة نضع حساب لتفلتات الخيران لكن هذه المرة تفاجانا به، يشير أيضا صاحب المتجر الصغير “متجري يبعد نحو خمسة عشر مترا لكن مياه الخور فاضت لتصل إلى دكاني”، المهم أن عبده هارون ستحوط حسب ما قال، لكنه لا محالة لن يرحل من على ضفة الخور لأنها منطقة تجمع السوق.

أبوفارغة :

لسكان القضارف مع خور (أبوفارغة) الذي يجري على طول وعرض مساحة الولاية وينتهي بمدينة القدمبلية في أقصى الشمال الغربي حكايات وقصص ومآسٍ فضلا فبجانب شهرته كأحد المسطحات المائية داخل المدينة التي تخلو من الأنهار ماعدا نهري العطبراوي وسيتيت اللذين يبعدان مسافات بعيدة منها، فهو مليئ بالحكايات والأساطير، فقد اشتهر بغرق الكثير من المواطنين، ومن هم في سن الشباب في البرك التي تتكون في حوضه، كما أنه قد التهم عربة أحد القسيسين المشهورين عندما كان بداخلها، وفي حي الصوفي الأزرق أيضا حادثة شهيرة لخور أبوفارغة راح ضحيتها خيرة شباب الحي عندما حاولوا عبوره في ثمانينيات القرن الماضي.

محطة أبحاث :

إلى عهد قريب في تسعينيات القرن المنصرم كان في خور أبوفارغة محطة أبحاث ضخمة على ضفته بمحاذاة حي الصوفي الآنف ذكره، وكان بها موظفون ومفتشون للري، وتملك مبنى ضخماً، وبه الأجهزة التي تستخدم في رصد حركة الخور وفيضانه وانحساره ومقاس بداخله للمياه، إلا أن تلك المحطة قد انقرضت الآن وتلاشت نهائيا ولاتزال بقايا أطلال، وتسطر الخيران قصص من الغراميات القديمة، حيث كان الأهالي يقومون باستخدام المياه لغسيل الملابس والاستحمام قبل تمدد شبكات المياه، ويقوم الكثيرون بجني الحطب ومخلفات فيضان الخور بعد انحساره حاملا في داخله مزيجا من الغرائب والعجائب.

اليوم التالي
خ.ي[/JUSTIFY]