تحقيقات وتقارير

شندي والمتمة.. إلتقاء الـضفتين

أخيراً.. سكن هدير مياه النيل على ضفتي شندي والمتمة بعد أن انهكها عناء الترحال عبر المعدية لأكثر من نصف قرن وهي تكابر في عناد تارة، وتبسط أياديها في ترحاب حار أغلب الأحايين والفلكات الصغيرة و«البنطون» تنهب الامواج نهباً أكثر من مرة في اليوم جيئاً وذهاباً تحمل على ظهرها خليط أفواج من الأهالي مع انعامهم بجانب السيارات الضخمة التي كثيراً ما دهست تحتها العديد من الأرواح وأن نجوت منها فستجد نفسك تحت أقدام البعير.. معاناة لن يستطيع أن يصفها إلا من عاشها بكل تفاصيلها.. فأنا كنت واحدة من أولئك فلا يزال عالقاً بمخيلتي ذلك الموقف الذي وجد فيه والدي نفسه بين خيارين أحلاهما مر .. ذلك عندما كنا نعبر النيل من الشرق إلى الضفة الغربية للمشاركة في إحدى المناسبات الاجتماعية وكان حينها موسم «الدميرة» عندما اضطررنا لخوض عدة امتار في المياه بعد توقف البنطون على مبعدة من «القيفة» فكاد النيل ان يبتلع شقيقتي الكبرى في حين كان يحملني أبى حيث كان عمري وقتها لم يتعد العشر سنوات وجعلها هي تصارع الامواج ولم نفق الا على صرخاتها فكان أمام والدي خياران ، كل منهما أصعب من الآخر فإما يتركني ويلحق بها قبل فوات الأوان او العكس ، لولا تدخل أحد شباب المنطقة الذي انقذ الموقف.. ولو أن هذا يبدو قاسياً بالنسبة لي لكن هناك الآلاف غيري لاقوا ما هو أشد قساوة ، فكم من أرواح زهقت في مثل هذه المواسم وكم من أشخاص بترت «سقالة» البنطون ساقه أو ساعده وكم من احتضن النيل جسده.. حتى الأموات لم يسلموا ، فكثيراً ما سقطت «جنائز» كانت تحمل من مستشفى شندي الى المتمة فكان النيل يتولى مهمة طمر جثامينهم ، إنابة عن ذويهم..!
لكن ذلك الواقع صار تاريخاً منذ امس الأول سيروى على الأجيال بعد افتتاح جسر البشير «شندي – المتمة» من قبل رئيس الجمهورية.. فقد تنفس يومها الأهالي الصعداء وهدأت نفوسهم ، فكان الكثير منهم يلازمه الهم طول رحلة الذهاب وكذلك الأياب، هل سيعود إلى أسرته وأطفاله سالماً غانماً أم سيجد ذات مصير من سبقوه الى الخلد…؟!
أمس القريب فقط زالت كل تلك الهواجس حيث بدأ فعلياً الحراك عبر الجسر من المشاة أو الركاب .. أمس فقط عاشوا الحلم حقيقة ملموسة.. حلم انتظروه قرنا .. لذا فقد كانت فرحتهم كفرحة الاطفال بالعيد ، فالكثير منهم – كنت اراقبه لبرهة وأنا أتأمل المكان – قطعوا الجسر أكثر من مرة وكأنهم غير موقنين.
وكانت الاحتفالات بالافتتاح امس الأول دليلاً على ذلك فلم تكن فقط افتتاحية لعهد جديد، إنما توديعا لعهد عانوا فيه ما عانوا..
بدأ العمل في الكوبري في يناير 2006م، بواسطة شركة المقاولون العرب وشركة رام للطاقة التي تمثل المقاول الرئيسي للمشروع ويتبع بشكل مباشر لوحدة السدود.. ونفذ الجسر بطول 660 متراً وعرض 5.20 متر على دعامة خرصانية داخل البحر ودعامتين خارجه وتم تصميمه لحمل أكبر المركبات والشاحنات ذات الحمولات العالمية ، كما يرتبط الجسر بالطرق القومية عبر ضفتيه الشرقية والغربية بواسطة طرق ربط بطول عشرة كيلومتر فيما تبلغ التكلفة الكلية للمشروع نحو 62.107.548 جنيهاً.
وانتظمت الاحتفالات وسط جو مشحون بالحماسة التي اتصف بها اهل المنطقة اكثر من حميتها الضرب على الطبول وأغاني الحماس للفنان الشعبي محجوب كبوشيه مما دفع الكثيرين لممارسة عادتهم المحببة «البطان» وما كان كل ذلك الا تعبيراً عن فرح كبير ظلوا يحلمون به سنيناً طوالا وزان ذلك الفرح وعد تلقوه من الرئيس بتغيير نمط حياتهم وتأهيل مشاريعهم الزراعية التي ظلت تعاني لوقت طويل بالرغم من قابلية ارض ورجل المنطقة لهذه المهنة التي نمت معهم منذ نعومة اظفارهم، كما تعهد الرئيس امامهم برفع حالة المعاناة عنهم على أن يعينوه في ذلك بالبقاء في مناطقهم لإعمارها.. ونادى بالاهتمام بالضعفاء والفقراء كما دعاهم للابتعاد عن العمل في مجال الزراعة خلال المواسم ، مؤكداً توفير كافة آليات الري الحديثة وتقدم بوعد خاص لأهالي منطقة النقع بمحلية المتمة الذين هتفوا منادين الرئيس خلال الاحتفال بتحسين مناطقهم فوجدوا وعداً فورياً بتغيير حياتهم ، وجعل المشاريع الزراعية فيها وادياً اخضر خلال وقت قريب.. كما وجه القائمين على أمر الطريق الغربي بين المتمة امدرمان بتسريع عمليات انجازه، ودعا المزارعين لإدخال تربية الابقار، وجزم بأنه قاطع لبن البودرة وله عدد من الأبقار بالخرطوم.
اما والي الولاية أحمد المجذوب فقد اعلن اكتمال الترتيبات لمشروع سد الشريك وأكد ان اهالي المنطقة رحبوا تماماً بالمشروع على أن تقدم الحكومة في الولاية لهم كافة التعويضات ، وقال إنه اكد في اكثر من لقاء به على ذلك في سبيل حل أزمة الكهرباء بشكل نهائي في كل مناطق الولاية .. كما اكد مدير وحدة السدود اسامة عبدالله اكتمال العمل في جسري عطبرة – الدامر ودنقلا – السليم ،مشيراً الى ان افتتاحهما سيكون خلال الفترة القليلة القادمة.
ولم يخلُ خطابا معتمدي شندي والمتمة من الحماسة والهاب حمية المواطنين الذين أدوا بيعة الموت أمام الرئيس متعهدين بفدائه والوقوف بجانبه في كل المحن.
وكرمت اللجنة العليا لتنظيم الاحتفال نهاية الحفل رئيس الجمهورية والشركات المنفذة ووحدة تنفيذ السدود كما لم تغفل جهد السنوات لأصحاب البنطونات ، كما أشار الرئيس لحرصه على بقائهم واستمرارية عملهم في مناطق اخرى لا زالت تحتاجهم الى حين تنفيذ جسور جديدة لهم.
على الرغم من كل ضروب المعاناة التي قاساها أهل المحليتين خلال عقد من الزمان الا ان يوم امس محى عن ذاكرتهم كل ذاك وهم ينظرون الى عهد جديد لا يعرفون معه التثاؤب مع اشراقة شمس من شموس التنمية باعتبارها نهاية لعزلة استمرت لسنوات طوال ومنفذا من منافذ الانفتاح.
نهى عمر الشيخ :الصحافة

تعليق واحد

  1. ينظر الناس عموماً الي الصورة الاكبر .. لايرون ما وراء الكواليس .. وانا هنا لا انكر اهمية الكبري و تطور البنية التحتية في البلد عموماً رغم الاستهداف الارهابي لسيادة البلد و رغم آلاف الخونه و الانتفاعيين المحبطين لعمل الوطنيين الحقيقيين و آلاف المرتشين و الاغبياء المدمرين لمجتمع متجانس و آمن … ولكني و لعلاقتي بمجتمع شندي اعكس لكم وجه آخر للانجاز الكبير الا وهو العدد الكبير من اهلنا الغبش من المصادرة اراضيهم لاكمال الكبري و الذين اكتفوا من الاكاذيب عن قرب تسلمهم تعويضاتهم .. اي تعويضات الآن .. ما خلاص ريد و انتهي ……..!!
    😡