تحقيقات وتقارير

الخرطوم في مواجهة الأسرة الدولية.. ملابسات الحرب الصامتة

[JUSTIFY]حرب صامتة وباردة أحياناً بين الحكومة والأمم المتحدة تبرز بعض وجوه ومظاهر معالمها وتخرج للعلن والسطح من خلال وسائل الإعلام، وفي مرات كثيرة تختفي تحت لغة الدبلوماسية الناعمة غير أن البيانات بين طرفي النزاع حالياً هي سيدة الموقف تجاه ما يجري بين الخرطوم من جهة والأمم المتحدة من جهة ثانية منذ بروز قضية “تابت” ومزاعم الإعلام الدولي بالتنسيق مع أصوات معارضة بوجود عمليات إغتصاب جماعي ضد نساء بشمال درافور من قبل أفراد محسوبين على الجيش – بحسب ما تردده أطراف معارضة – الأمر الذي أدي لدخول الأمم المتحدة بقوة في هذه القضية ومن يومها تلاشت علامات الرضا من جانب الحكومة التي بدأت هي الأخرى في اتخاذ خطوات أو رسائل يفهم منها أن المنظمة الأممية غير مرغوب في وجودها داخل الأراضي السودانية وظهر ذلك تلميحاً وتصريحاً حينما طالبت الخارجية السودانية الأمم المتحدة بترتيب أوضاعها وإيجاد خطة للخروج من السودان بعد حملات الترويج التي تبنتها الأمم المتحدة ضد الحكومة السودانية وكان أقوى وآخر التصريحات حديث الرئيس “البشير” بقوله: (بارك الله في من زار وخفّ).
بداية الأزمة
وأغلق السودان بالفعل مكتب حقوق الإنسان التابع للبعثة في الخرطوم، ودعا البعثة إلى إعداد خطة خروج بعد أيام من رفض التصريح لقوات حفظ السلام بزيارة ثانية لموقع شهد حوادث اغتصاب جماعي مزعومة قام بها جنود سودانيون في قرية “تابت” بمنطقة دارفور المضطربة في غرب البلاد. وقال قائد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إن من المستبعد أن ترضخ البعثة لطلب السودان الرحيل في حين يبدو أن الوضع هناك يزداد سوءا وفي أمسية يوم (الأربعاء) المنصرم أمهلت السلطات السودانية المدير القطري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في السودان (72) ساعة لمغادرة البلاد.
وأكدت مصادر متطابقة أن المدير القطري للبرنامج الأممي في السودان “إيفون هيلي” ـ هولندية ـ بعثت (الأربعاء) الماضي برسائل إلكترونية لكل العاملين في البرنامج تشكرهم على حسن التعاون معها خلال فترة عملها في السودان، ولم تصدر الجهات ذات الصلة في الخرطوم أي توضيحات بشأن الخطوة ولم تمض ساعات من قرار الحكومة على طرد “إيفون هيلي” حتى أردفت قرارها السابق بقرار آخر صدر في حق منسق الشؤون الإنسانية للامم المتحدة في السودان “علي الزعتري”، وأمر من السلطات السودانية بمغادرة البلاد وصدر أمر الإبعاد وهو قرار سيادي بحق المسؤول الأول للأمم المتحدة في السودان صباح أول أمس (الخميس) بعد أقل من (24) ساعة على قرار السلطات بإبعاد المدير القطري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في السودان “إيفون هيلي” ـ هولندية ـ ومطالبتها مغادرة خلال (72) ساعة.
ورفض “الزعتري” وهو أردني الجنسية، التعليق على القرار كما لم يصدر عن الحكومة السودانية اي توضيح بشأن القرار. بينما أكدت مصادر بالأمم المتحدة أن الرجل عازم على الرحيل بحلول الثاني من يناير المقبل. ونشرت مواقع الكترونية ذات صلة بالأمم المتحدة رسالة الكترونية بعث بها “الزعتري” إلى العاملين في المنظمة الدولية جاء فيها: (يؤسفني أن أبلغكم أن الحكومة طلبت مني اليوم مغادرة السودان سأفعل ذلك يوم 2 يناير المقبل). وفي أبريل الماضي قررت السلطات طرد المسؤولة عن مكتب صندوق الأمم المتحدة للسكان في السودان بعد اتهامها بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد وقالت وزارة الخارجية وقتها إن “ديلارجي” لم تلتزم بقوانين البلاد كما تدخلت في الشؤون الداخلية وهو ما لا يتوافق مع وضعها مسؤولة في الأمم المتحدة.
المواجهة
وبدأت أزمة بين الحكومة السودانية و”الزعتري” في الثاني من ديسمبر الحالي عندما نقل المركز السوداني للخدمات الصحفية أن الرجل أدلى بتصريح أساء فيه للشعب السوداني ولقيادة الدولة خلال حوار مع إحدى الصحف النرويجية زعم فيه أن السودان بلد يعيش في أزمة إنسانية وإقتصادية وأن المجتمع فيه أصبح مرتبطاً بالمساعدات الإنسانية، لكن “الزعتري” نفى ما نسب إليه وأنكر تلك الأحاديث. وقال في تصريحات صحفية إن الحديث المنسوب إليه غير صحيح كلياً. وزاد: (لا يعقل أن أسيئ للسودان). ومع اعتراف المسؤول الأممي بإجراء مقابلة مع صحيفة نرويجية في أوسلو إلا أنه رجح أن يكون خلطاً صاحب الترجمة من اللغة الإنجليزية التي تحدث بها خلال المقابلة إلى اللغة النرويجية، كما لم يستبعد ان يكون المركز السوداني للخدمات الصحفية أساء نقل وترجمة حديثه عن الصحيفة النرويجية.
“كي مون” يحتج
وقالت الأمم المتحدة في بيان صدر أمس الأول (الجمعة) إن المسؤولين هما “علي الزعتري” المنسق المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في السودان و”إيفون هيلي” مديرة البرنامج في السودان. وقال “ستيفان دوجاريك” المتحدث باسم الأمم المتحدة في البيان أن الأمين العام “بان كي مون” أدان قرار الخرطوم طرد المسؤولين. وأضاف قائلاً: (يناشد الأمين العام حكومة السودان الرجوع عن قرارها على الفور ويحثها على التعاون بشكل كامل مع جميع وكالات الأمم المتحدة الموجودة في السودان). ولم يتضح على الفور سبب الطرد لكنه يأتي بعد شهر من دعوة “البشير” قوات حفظ السلام في البعثة المشتركة بين الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد) للمغادرة ووصفها بأنها (عبء أمني).
الخارجية تكشف الأسباب
أصدرت الخارجية أمس الأول (الجمعة) بيانا رداً على بيان “كي مون” قالت فيه: (تأسف حكومة السودان لتعجل الأمين العام للأمم المتحدة في إدانته لقرار الحكومة السودانية إبعاد كل من السيد “علي الزعتري” المنسق المقيم للشؤون التنموية والإنسانية بالأمم المتحدة في الخرطوم و”إيفون هيل” المدير القطري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالخرطوم دون الوقوف على الأسباب الحقيقية التي دعت الحكومة السودانية لذلك الإجراء. إن إشارة بيان الأمين العام للأمم المتحدة إلى معاقبة السودان لموظفي المنظمة العاملين في السودان إشارة غير موفقة وغير مقبولة). وكشفت الحكومة السودانية مسبباتها لإبعاد المنسق المقيم للشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة في البلاد “علي الزعتري” والمدير القطري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي “إيفون هيل” وانتقدت ما سمته “الإدانة المتعجلة” لقرارها من قبل الأمين العام للمنظمة الدولية “بان كي مون” قائلة إنها لن تتوانى في طرد أي دبلوماسي أو موظف أممي يتجاوز مهامه وتفويضه وصدر الإبعاد بحق “الزعتري” ـ أردني الجنسية ـ (الخميس) الماضي بعد أقل من (24) ساعة، على قرار إبعاد المدير القطري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في السودان “إيفون هيلي” ـ هولندية. وقال بيان للمتحدث باسم الخارجية السودانية “يوسف الكردفاني” إن قرار إبعاد المذكورين من الأراضي السودانية قرار سيادي. وحذر من أن الحكومة لن تتوانى عن إبعاد أي دبلوماسي أو موظف دولي يتجاوز مهامه المرسومة أو إطار تفويضه الوظيفي. وأوضح أن قرار الإبعاد استند إلى أحكام المادة التاسعة من اتفاقية “فينا” للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 التي تنص على أن (للدولة المعتمد لديها في أي وقت وبدون ذكر الأسباب أن تبلغ الدولة المعتمدة أن رئيس أو أي عضو من طاقم بعثتها الدبلوماسي أصبح شخصاً غير مرغوب فيه). كما أنه استند إلى الأعراف الدبلوماسية الراسخة. وأكد بيان الخارجية أن الحكومة السودانية اتخذت قرار الإبعاد في حق “الزعتري” نظراً لأنه أساء إلى الشعب السوداني وقيادته السياسية عبر تصريح صحفي لإحدى الصحف النرويجية في خطوة تناقض مهامه كموظف دولي رفيع للأمم المتحدة بالسودان. وقالت الخارجية إنه تم استيضاح “الزعتري” حول الأمر ومنح الفرصة الكافية لإبراز التسجيل الصوتي للحوار الصحفي الذي أجرته معه الصحيفة النرويجية على أساس أن الصحيفة حرفت أقواله إلا أنه لم يفعل. وتابع: (المعلوم عرفاً وقانوناً أنه لا يجوز لأي موظف دولي مهما كان أن ينصب نفسه قيماً وحكماً على أداء رئيس دولة ويسيء لشعب بأكمله وهو المطلوب منه خدمة شعوب الأمم المتحدة بتجرد ومهنية عالية).
خبراء الدبلوماسية يعلقون
(المجهر) سألت السفير “الخضر هارون” للتعليق حول هذه التطورات، فقال: (النظر لقرار طرد موظفي الأمم المتحدة من الناحية القانونية المجردة من أي اعتبارات أخرى نقول إنه حق من حقوق دولة المقر وفق ما جاء فى المادة التاسعة من اتفاقية فيينا لعام 1961 وهى اتفاقية تؤطر للعمل الدبلوماسي الثنائي بين دولتين وتعضدها المادة (25) من اتفاقية فينا لعام 1975 المنظمة للعلاقة بين الدول وبين المنظمات الدولية ذات الصفة الكونية كالأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عنها. هذا من الناحية القانونية البحتة، لكن الدول تتحاشى اللجوء إلى إعمال هذا الحق لاعتبارات دبلوماسية وسياسية وما يترتب على الطرد سياسياً طرد مثله في حالة العلاقات الثنائية بين دولتين بإعمال حق المعاملة بالمثل, يعتبر الطرد دلالة على توتر العالقات بين الدولتين بما يتبع ذلك من التأثير السلبي على جملة العالقات الاقتصادية والتجارية والثقافية بينهما. والتخلص من الدبلوماسيين بالإبعاد له عدة وجوه فهناك اعتبار الموظف الدبلوماسي أو الموظفة شخصاً غير مرغوب أو غير مقبول وفي هذه الحالة تخطر دولته للقيام بسحبه وآخر الإجراءات هو الطرد. لذلك يتدرج الإجراء بلفت النظر المتكرر للموظف الدبلوماسي الذي يسئ استخدام صلاحيات عمله ثم تخطر الدولة أو المنظمة التابع لها قبل اتخاذ الإجراءات المذكورة وكل ذلك تفادياً لنتائج مثل هذا الإجراء والتخفيف من آثاره السالبة على العلاقة، أما بخصوص التعليق على الإجراء المتخذ في شأن منسق الشؤون الإنسانية والإنمائية المقيم، والمدير القطري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي من الناحية السياسية والتوقيت فإني لم أتمكن من معرفة ما بدر منهما على وجه الدقة في ما نشر في وسائل الإعلام وعما إذا كان قد تم لفت نظريهما أو وضعت الأمم المتحدة في الصورة لمقتضيات عملهما من قبل في ما يتصل بما اعتبرته الحكومة تجاوزاً قبل ذلك لتفادي الإشكالات مع الأمم المتحدة. في غياب ذلك ليس بإلإمكان تقييم صواب القرار من عدمه).
تكهنات المستقبل
في ظل هذه المواجهة يبقي من الصعب تحديد شكل اتجاهات طرفي النزاع هل سيتواصل مسلسل التصعيد أم تتراجع الحكومة أمام ضغوط المنظمات الأممية أم تتمسك بمواقفها الخاصة بطرد كل من يتجاوز دائرة تفويضه أو يتسبب في خروقات تتعلق بالتدخل في الشأن الداخلي للبلاد أم تظهر تسوية جديدة وصفقة يتم بموجبها دفع الأمور نحو التحسن.. أسئلة يصعب الإجابة عليها والأيام القادمات كفيلة بتوضيح المزيد من الحلقائق حول الحرب الدبلوماسية بين الحكومة والأمم المتحدة..

المجهر السياسي
خ.ي[/JUSTIFY]