في ذكرى تحرير الخرطوم .. قصة القصر الرئاسي الذي اغتسل من دم غردون باشا!؟

وربما لأن الحكومة ترى مبرراتها تجاه الصادق المهدي من واقع معارضته لها، ولكن مجالس السودانيين لم تخفِ (همسها) الذكي وإرسال إشاراتها (الماكرة).. بأن الحكومة قامت بتدشين مرحلة تاريخية جديدة من عمر الدولة السودانية، لكن هذه المرة تاريخ يخلو من بصمات الصادق المهدي، وعلى الرغم من الحضور الأنيق الذي جسده نجله العقيد عبدالرحمن الصادق مساعد رئيس الجمهورية حينما تبوأ مقعده في الصفوف الأمامية مع كبار الضيوف والزوار في بهو القصر الرئاسي الجديد!!. [B]عودة إلى تاريخ القصر[/B] في العام 1830 بدأ تشييد القصر الجمهوري بوضع حجر الأساس، ويقال أن مودا البناء التي كانت عبارة عن طوب وطين قد تم جلبها من مدينة سوبا عاصمة مملكة علوة القديمة.
قديماً كان القصر الجمهوري يعرف باسم سرايا الحاكم العام، وسرايا هي لفظ فارسي يعني القصر أو القلعة. لكن من بعد الاستقلال بات يعرف باسم القصر الجمهوري ولم يتم تغيير اسمه إلا في العام 1972م عندما قرر رئيس الجمهورية السابق جعفر محمد نميري تغيير اسم القصر الجمهوري إلى قصر الشعب، وكان هذا الاسم بمثابة امتنان من النميري للشعب السوداني بعد فشل انقلاب هاشم العطا، حيث كان النميري مؤمناً بأن الشعب هو من سانده وحرره من قبضة هاشم العطا. لكن اسم القصر الجمهوري عاد مجدداً بعد انتفاضة أبريل في 1985م بعد أن تولى المشير عبدالرحمن سوار الذهب حكومة الفترة الإنتقالية التي تلت الانتفاضة في أبريل 1985.
[B] مقتل غوردون[/B] يقول البريطاني فيرغس نكول صاحب كتاب ” مهدي السودان ومقتل الجنرال غردون ” .. ” في 26 يناير 1884 عندما استقل غردون القطار جنوباً من القاهرة في رحلته النهائية نحو السودان.. كان يبعد حوالي العام تماماً من حتفه النهائي.
ويقول ونستون تشرتشل رئيس وزراء بريطانيا لاحقاً في كتابه (حرب النهر) : ” أحس غردون بأن وضعه في الخرطوم صار مهدداً بسبب العمليات العسكرية في خط انسحابه المفترض “ويسرد تشرتشل كيف أن بريطانيا قررت إرسال السير جراهام بقوات بريطانية خالصة من الهند وكيف أن عثمان دقنة أحدث وسط قواته خسائراً فادحة شملت خيرة الضباط البريطانيين ولم يخف تشرتشل إعجابه بعثمان دقنة حينما يصفه بالقائد المحنك القادر على تنفيذ انسحابات ذكية بعد خسائر قاربت الـ400 جندي بريطانياً من جيش السير جراهام.. ويسرد فيرغس نكول مجهودات المهدي لحقن الدماء و ومحاولة إقناع غردون بتسليم المدينة حين يقول ” لقد شرع محمد أحمد المهدي في حملة مراسلات مطولة امتدت لزهاء العشرة أشهر لإقناع غردون بالعودة إلى بلاده مكرماً بدلاً من إزهاق باقي عمره في الدفاع عن ما لا فائدة في الدفاع عنه!! ” .. كما بدأ الأمير محمد عثمان أبوقرجة حملة مراسلات مع غردون لتحقيق نفس الغرض من دون نجاح يذكر .. وقد أورد المؤرخ البريطاني الفريد هيك صاحب كتاب (يوميات الجنرال غردون )، أورد .. نص خطاب الأمير عبدالرحمن النجومي لغردون والذي نقله نيكول أيضاً.. وجاء فيه: “لقد مضى زمنٌ طويل وأنت لا تريد الإذعان والتسليم.. ولقد أمدنا الله الآن بالرجال الأشداء الشجعان ومنهم أصحابنا وأحبابنا.. رجال يحبون الموت في سبيل الله تماماً كما تحب أنت الحياة!.. يجاهدونك طمعاً فيما عند الله من ثواب.. الموت أحب اليهم من زوجاتهم ومن كل ما يملكون في هذه الدنيا الفانية.. إن المهدي يعمل لخيرك وصلاحك.. وعلى الرغم من ذلك مازلت أنت في عنادك وتكبرك.. تدير ظهرك لذلك وتعتمد على قواك الزائلة والتي ستتجرد منها قريباً بإذن الله.
وعندما أشارت عقارب الساعة إلى الحادية عشرة من مساء 25 يناير 1885.. كانت أنامل الجنرال غردون المرتعشة تختط آخر أسطر مذكراته.. والتي جاء فيها: “إذا لم تصل القوات البريطانية على وجه السرعة، فإن مدينة الخرطوم ستسقط في يد المهدي.. لقد فعلت كل ما بوسعي فعله من أجل شرف وكرامة بريطانيا.. وداعاً.. وداعاً.. مخلصكم تشارلز غردون، وفي تمام الثالثة من صباح 26 يناير 1885 عقد الإمام المهدي مجلس شوراه الأخير قبل تحرير الخرطوم مع الخلفاء وكبار الأمراء وخلص الإجتماع إلى ضرورة الهجوم على الخرطوم لتحريرها علي ضوء إصرار غردون على عدم التسليم وحقن دماء الناس.. ولتتفرغ قوات الثورة المهدية لمواجهة حملة الإنقاذ في الشمال.. وجمعت قوات المهدية للمهدي ليخاطبها قبل المعركة.. ثم كبر المهدي بسيفه في اتجاه الخرطوم إيذاناً ببدء الهجوم لتحرير عاصمة البلاد، واستطاعت قوات الأمير النجومي والأمير أبو قرجة والأمير ود نوباوي احتلال الخرطوم في وقت وجيز.. وفي خضم هذه اللحظات التي عادةً ما يصحبها الكثير من الانفلات الثوري الذي يصعب السيطرة عليه.. قتُل غردون خلافاً لأوامر المهدي الصريحة بالحفاظ على حياته.
الأدب الإنجليزي يوثق مقتل الضابط الإنجليزي غوردون في السودان، وتلك الشجاعة والبسالة التي اتسمت بها جيوش أنصار الإمام المهدي، كل ذلك كان محل اهتمام المثقفين والأدباء الإنجليز وأجبرهم نحو الكتابة الأدبية عن ذلك الحدث ومن ثم توثيقه.
الروائي والشاعر الإنجليزي والحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1907 روديارد كيبلنج (1865- 1936)، بدوره نظم قصيدة توثيق تاريخي لشجاعة البجا.. باسم (فيزي وزي). وكيبلنج هو شاعر الإمبراطورية البريطانية الذي تغنى بانتصاراتها وهي في أوج مجدها الفيكتوري. غير أنه في هذه القصيدة يعبر عن إقدام وبسالة الجنود السودانيين، أبطال معارك الشرق بقيادة الأمير عثمان دقنة وقد بهرته شجاعتهم التي ليس لها مثيل وإجادتهم لفنون الحرب ونجاحهم في كسر صفوف الكتيبة البريطانية.. وبرغم ما في القصيدة من تعالي إمبريالي إلا أنها تظل “شهادة حق وصدق” – والفضل ما شهدت به الأعداء.. وهي توثيق لصفحة من سجل الوطنية والجندية السودانية في الذود عن تراب الوطن، كذلك تشهد القصيدة على نماذج رائعة من الوطنية والتضحية والفداء يحق لأجيالنا المعاصرة أن تفخر بها، وتستمد منها العزيمة على بناء مستقبل زاهر للوطن.. فزي وزي تعبير استخدمه الأوروبيون للإشارة إلى السودانيين من قبيلة “البجا” في شرق السودان.. وربما يكون المعنى الحرفي له هو: ذوو الشعر المتجعد الكثيف.
[B]نص القصيدة[/B] لقد خبرنا الحرب مع رجال عديدين عبر بحار ممتدةكان بعضهم شجعانا بواسل وكان بعضهم غير ذلك
منهم البايثان والزولو والبورميون
غير أن البجا كانوا أكثرهم روعة
لم نجد منفذا لاختراق صفوفهم أبدا
بينما ظلوا يرمون خيلنا ويمزقون حراسنا في سواكن
وكأنهم يلاعبون جندنا لعبة القطط الموسيقية
********
إنني أهدي إليكم أيها “البجاويون” هذه الكلمات المخلصة
تقديراً لكم في وطنكم السودان
إنكم وإن كنتم (متخلفين)
غير أنكم ترتقون أعلى مرتبة يكون عليها المحاربون
إننا نصدر لكم هذه البراءة شهادة حق وصدق
وإن رغبتم في أن تكون ممهورة بالتوقيع
فنحن يشرفنا اللقاء بكم في الزمن الذي يروق لكم
********
قد عرفنا مفارقات ساحات الوغى في حربنا مع الكيبر
وتصدينا لسهام البوير الطائشة عبر المسافات
وارتعشنا عند ملاقاة البورميين
ولمسنا المهارة المتميزة التي يحارب بها الزولو
غير أن كل هذا لم يكن سوى جعجعة ليست بذات أثر
أمام إقدام وجسارة البجا
********
لقد أشادت الصحف بتماسكنا
غير أن الحقيقة تظل دوماً باقية وناصعة
وهي أنه في حرب الرجال للرجال
قام البجا بدحرنا تماماً
********
لكم أيها البجاويون ولأزواجكم وأبنائكم
نعترف بأن التوجيهات كانت أن نقهركم
ولقد تحقق ذلك بفضل بنادق المارتيني
التي ظلت فوهاتها تقذف بالشرر نحو صدوركم
في معركة غير متكافئة وغير عادلة
لكنكم رغم ذلك تمكنتم من اقتحام الصفوف
********
لم تحملوا أوراق هوية
ولم تزين صدوركم الأوسمة والنياشين
وهذا يلقي علينا واجب أن نقوم نحن بالشهادة على البسالة
وعلى براعة الحرب بالمهند ذي المقبضين
وأنتم تصولون وتجولون وسط الأحراش
حاملين رماحكم ودروعكم وأكفانكم
********
حقاً أن يوماً في المعركة مع البجا
تظل سعادته باقية لعام
********
أيها البجاويون
هذه القصيدة مهداة لكم ولمن رحل من أصدقائكم
وإن لم نكن نحن أيضاً قد فقدنا رفاقاً
لعاوناكم على التأسي
غير أن الحرب كر وفر
سجال بين الأخذ والعطاء
********
كانت معركة متوازنة
فقدكم كان هو الأكبر
غير أنكم نجحتم في بعثرة صفوفنا
********
هم هبوا نحو اللهيب المستعر والدخان المتصاعد
وقبل ارتداد الطرف حلوا أمام وجوهنا
تنفذ منهم رائحة التراب والزنجبيل
وبدت أجساد قتلاهم
مثل الزهور البرية
وبدت كالبط وكالحملان ومثل عرائس المولد
********
لكم أيها البجاويون في وطنكم السودان
لكم أيها (المتخلفون) الذين تبوءوا أرقى مراتب المحاربين
لكم أيها البجاويون يا أصحاب الهامات الشامخة
لكم أيها الفقراء السود يا ذوي العزائم العالية
يا من نجحتم في كسر صفوف كتيبة بريطانية أهدي هذه القصيدة .
الجريدة
إعداد: عبدالناصر الحاج
صحيفة الجريدة[/JUSTIFY]







الموت لبريطاني ولكل من دعمها في الماضي