عالمية

لماذا تريد أمريكا اغتيال السيسي؟

قلت أكثر من مرة، ليس بناء على معلومات، بل بناء على استنتاج جــــوهري له قوة الحقيقة الساطعة، أن أمريكا تتربص بالرئيس عبد الفتاح السيسي، وربما تفكر جديا في اغتياله، وبهدف ردع تحول مصري خطر على السياسىة الأمريكية في المنطقة.
قلتها قبل أسابيع وشهور من إشارة الرئيس إلى الخطر نفسه، حين تحدث في خطاب عام أخيرا عن تحذير الأمريكيين له من خطر الاغتيال، وقد جاء التحذير في صورة بدت متعاطفة مع الرئيس، ونقله أعضاء من الكونغرس الأمريكي زاروا قصر الرئاسة، وحذروا السيسي مما سموه «مصير السادات». وليس سرا أن خطط اغتيال جرى تدبيرها بالفعل للرئيس، وأن محاولات متكررة توالت، وجرى إحباطها في مراحلها الأولية قبل الشروع في التنفيذ، ولم تعلن عنها الإدارة المصرية، وبدا المتورطون فيها ممن يسميهم الأمريكيون بجماعات الإسلام السياسي، وهي جماعات على اتصال وثيق مع المخابرات الأمريكية، والتنسيق العلني والخفي ظاهر، ومن أول اللقاءات الرسمية في دار الخارجية الأمريكية، وإلى الحصار النشيط المحموم الذي يمارسه البيت الأبيض لإعاقة حكم السيسي، وإلى توزيع الأدوار المكشوف بين عواصم الولاء للأمريكيين في المنطقة، وإلى إنشاء العشرات من منابر الإعلام المعادي، وإلى الدعم المتصل لجماعات الإرهاب والتفكيك في الداخل المصري، وعلى ظن أن الحملة قد تؤدي إلى «خض ورج» الوضع المصري، وإشاعة فوضى عارمة، توفر سياقا ملائما لنجاح تدابير اغتيال السيسي، وفيما يبدو كأنه صدام في الظلام، وحيث لا تعرف هوية ولا يد القاتل بالضبط.
وقد تبدو القصة تصورا خياليا، لكن المسافة بين الخيال والواقع قريبة جدا في مصر، فأمريكا موجودة بكثافة في مصر، والمحطة المركزية للمخابرات الأمريكية موجودة في سفارتها بمصر، وأكثر من 30 ألف أمريكي موجودون تحت عناوين مختلفة، من خبراء السلاح إلى غرف التجارة، ومن جهاز المعونة إلى مؤسسات التمويل الأجنبي، ومن جماعات رجال الأعمال إلى دوائر التواصل مع جماعات السياسة والإرهاب، وبشبكات عمل تضخمت واستقرت، عبر قرابة أربعين سنة من الاحتلال الأمريكي السياسي لمصر، ومن تحول السفارة الأمريكية إلى دار للمندوب السامي، وبتداخلات جرى نسجها مع طيف واسع نسبيا من المصريين، يتوزع أفراده على صفات الجنرالات ورجال الأعمال والليبراليين و»الإسلاميين»، تجمعهم حالة تربص بالرئيس السيسي، وارتياب عظيم في نواياه، ورغبة في التخلص منه، وبعد أن فشلت محاولات الاحتواء، وإعاقة تطور الظاهرة الوطنية الجديدة في الحكم المصري.
ورغم أن اسم الرئيس «السادات» ذكر عرضا في التحذير الأمريكي المبطن، إلا أن الإشارة بدت من باب التمويه، الذي سايره الرئيس السيسي بذكاء تكتيكي لافت، فالأمريكيون لايخافون ـ بالطبع ـ من تكرار نسخة السادات في شخص السيسي، بل يتخوفون من السيسي لأنه شخص مختلف عن السادات بالــــذات، فقد كان السادات ـ بعد حرب أكتوبر 1973 ـ عنوانا لاستقدام الهيمـــنة الأمريكية على مصر، ثم تأكد العنوان مع مبارك خليفة السادات وتابعه، ثم جهود أمريكا لتدجين الإخوان على مدى سنوات، واستخدامهم في درامـــا التحــولات المصرية بعد ثورة خلع مبارك، وإرساء المزاد على ورقة حكم الإخوان، التي نزعها قدوم السيسي بعد ثورة 30 يونيو 2013، وبدون أن يتمكن الأمريكيون من التفاهم معه، رغم أن لغته السياسية بدت هادئة ومنضبطة وصديقة جدا، لكن أفعاله راحت تتوالى في الاتجاه المعاكس الصادم للأمريكيين، وتؤدي باطراد إلى ما يشبه الطلاق البائن مع حالة الوصاية الأمريكية في مصر.
وقد لا تثير السياسة الاقتصادية الراهنة للسيسي قلق الأمريكيين، فالرجل يوالي إلى الآن السياسة نفسها التي قد تروق للأمريكيين، ولم يقدم إلى الآن على إجراءات لتصفية نفوذ المليارديرات، بل يركز على ما يسمى بالاستثمار والمستثمرين، ويقدم إغراءات وحوافز وإعفاءات وتسهيلات غير مسبوقة لرجال الأعمال، ويزيد في أعباء وتكاليف حياة الفقراء والطبقات الوسطى، ويكاد يوحي بأنه لا شيء جديد في مصر، وقد يبدو ذلك كله مما يطمئن الأمريكيين، لكن الطمأنينة الأمريكية لا تبدو مستريحة ولا مستقرة ولا كاملة، ولا تدفع «جماعات أمريكا» في مصر إلى التعاطف والثقة بالسيسي، والسبب ظاهر في ما نقدر، فثمة جديد مقلق في رأسمالية السيسي، وهو اعتماده الزائد المطرد على الدور الاقتصادي والإنتاجي للجيش، وعلى دور جهاز الخدمة الوطنية والهيئة الهندسية للقوات المسلحة بالذات، وفي ما يمكن تسميته برأسمالية الجيش، التي توظف الآن ـ بحسب السيسي نفسه ـ ما يزيد على مليون مهندس وفني وعامل مدني، وعبر قرابة ألف شركة مدنية تعمل بإشراف هيئات الجيش، والظاهرة تتقدم وتتوسع في المشروعات الكبرى الإنشائية والزراعية والصناعية، وفي صورة رأسمالية دولة جديدة، تحاصر «رأسمالية المحاسيب» الموروثة عن السادات فمبارك، التي كانت هي الأساس الاقتصادي نفسه لحكم الإخوان ومليارديراتهم. وأي مراقب موضوعي سوف يصل إلى الاستنتاج التالي، وهو أن الصدام محتمل جدا بين رأسمالية السيسي الجديدة و»رأسمالية المحاسيب» القديمة، والأخيرة لاتزال تسيطر على مواقع مؤثرة في الإعلام واقتصاد الخدمات واقتصاد المضاربة والنهب الموروث، وتتربص بالسيسي، رغم كلامه الذي يبدو مريحا لمصالحهم، وتشعل الحرائق والأزمات من تحت أقدامه، وفي تحالف موضوعي مع البيروقراطية الفاسدة التي لاتزال تتحكم، ومع أجهــــزة أمنية نافذة لم يصبها التغيير بالقدر الكافي، تحاول كلها احتواء السيسي، وتصويره زورا في صورة مبارك الأصغر سنا، وفي اتفاق موضـــوعي لا يخفي مع جماعة الإخوان المنافسة لا المتصادمة ولا المتناقضة مع جماعة مبارك، وهو ما تعرفه الإدارة الأمريكية، وتتحرك على أساسه، وتحاول التوفيق بين جماعاتها المتنافسة في مصر، وتوحيد الجهد في حرب باردة وحامية ضد الرئيس السيسي، الذي يفاجئ الأمريكيين كلما رغبوا في الاطمئنان إليه، ليس فقط باحتمالات الصدام الاقتصادي الاجتماعي المؤجل إلى إشعار آخر، بل بالصدام الوطني المتحقق في اطراد، والذي يخرج مصر نهائيا من عباءة الوصاية الأمريكية.
نعم، أكثر ما يقلق ويغضب ويفزع أمريكا من السيسي، ليس اختياراته الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، وإن كانت واشنطن تتخوف من احتمالات قد ترد في ما بعد، فالنهوض الاقتصادي لمصر، وحتى لو جرى بطريقة رأسمالية لا تراعي اعتبارات العدالة الاجتماعية، هذا النهوض في ذاته، مقلق لواشنطن، التي رسمت سياستها في مصر على أساس لا يخفى، وهو أن تبقى مصر على حافة غرق، أن تبقيها في وضع اختناق وشيك، أن تبقيها طافية على سطح مياه الغرق، فلا هي تنجو ولا هي تغرق، ولا هي تكف عن الاستغاثة وطلب المساعدة والمعونة، وتلك هي الحالة اللعينة التي تردت إليها مصر في زمن انحطاطها التاريخي الطويل، الذي كان مقرونا بهيمنة الأمريكيين على مصائرها، والتحكم في الجيش والاقتصاد المصري من خلال جهاز المعونة الأمريكية، وتضخيم وجود الأمريكيين المراقب والموجه لأحوال مصر، وبادعاء المعونة الضامنة لما يسمى معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، وكلها سلاسل قيود تتعرض للتفكيك التدريجي الآن، فقد أظهر السيسي نوعا من اللامبالاة بتهديدات واشنطن، ولم يبد قلقا من تهديدات خفض أو قطع المعونة، وحول سلاح واشنطن إلى «قنبلة فشنك»، تشبه حرب القنابل التي توضع الآن في كل مكان بمصر، وبهدف ترويع وتدمير حياة المصريين، وقد تسقط قتلى وجرحى، لكنها تمد إرادة المصريين بذخيرة لا تنفد، وتزيد من التفافهم حول الخيار الوطني..
نعم مجددا، قد لا تكون أمريكا مفزوعة من اختيارات الاقتصاد الراهنة في مصر، وإن كانت تتخوف بالبداهة من احتمالات تطورها، لكن فزع واشنطن الأكبر سببه الاختيارات الوطنية للسيسي، وعزمه الأكيد على كسب الاستقلال الوطني للقرار المصري، وعودة مصر إلى دور يليق بها في منطقتها وعالمها، وإنهاء وصاية واشنطن، وهو ما بدا ظاهرا في إنجازات تحققت بإيقاع متسارع، بينها نجاح تكتيك السيسي في إلغاء مناطق نزع السلاح بسيناء، وعودة قوات الجيش المصري إلى ملامسة خط حدودنا التاريخية مع فلسطين المحتلة، ثم انفتاح مصر الاستراتيجي على الصين وروسيا، وفتح الباب واسعا لتسليح متطور للجيش المصري، والقفزات المدروسة في صناعة السلاح المصرية، وإحياء المشروع النووي السلمي المصري بعد توقفه لأربعين سنة خلت، وكلها تطورات قد يصح تلخيصها في ملاحظة منيرة، فقد تحرك الجيش المصري لثلاث مرات في الأربع سنوات الأخيرة بعد الثورة، تحرك الجيش لنصرة ثورة الشعب في 25 يناير 2011، وكانت أمريكا وقتها تعلم وتوافق، وتحرك الجيش لنصرة ثورة 30 يونيو 2013، وكانت أمريكا تعلم وتعترض، ثم تحرك الجيش لمرة ثالثة في ضربة ليبيا، وبدون أن تعلم أمريكا أو توافق، وهو ما يشعر واشنطن أن قرار القاهرة أفلت نهائيا من الوصاية الأمريكية، وأن قرون استشعارها في مصر فسدت وتحطمت.
لكل ذلك وغيره، فليس مستبعدا أن تتصرف أمريكا بمنطق الثأر مع السيسي، وأن تدبر خططا جديدة لاغتياله، لكن عناية الله تحفظ الرجل، وتحفظ مصر المحروسة.

٭ عبد الحليم قنديل – كاتب مصري

القدس العربي