في أمسية بطعم الفرح الاسطوري (التغيير) توثق وتسعد وتحتفي بالغناء السوداني مع السر قدور
أسدلت )التغيير( أمس الأول الستار على رتابة الأيام، وأوقدت شمعة الحراك الثقافي وهي تختار أن تكون الإنطلاقة بقيمة إنسانية راقية دونتها في سطر الإعتراف بالجميل والتكريم؛ وكان أن فتحت بابها واسعاً لواحد من نخبة البلد، ورمزاً من رموز إبداعها، الشاعر والمسرحي والإعلامي السر قدور.
إحتفاء (التغيير) الذي جاء مغايراً وخارج إطار المألوف، حمل أسباب اختلافه عن العادة في سموه أعلى درجات التقدير والاعترافات التي سجلتها الصحيفة للرجل الذي استطاع أن يحدث نقلةً في عوالم التوثيق في البلاد، ويخلق سفراً ومرجعاً للأجيال تعود إليه وقتما شاءت. واستطاع أن يوثق لأكثر من (1350) أغنية من خلال برنامجه الرمضاني الشهير (أغاني وأغاني).
الخرطوم : أيــمن كمــون
إبتدر السر قدور حديثه شاكراً الحضور والصحيفة ومقدماً لفكرته التي سيتحدث، وانتظمت كلماته في ثلاث محاور الأول (الثقافة والفنون) والتي سرد فيها أحداث وتفاصيل وتواريخ مرتبطة بواقع الثقافة والفنون، وذكريات لمثقفين ومغنين وشعراء سودانيين، حديث لم يخلُ من العلمية والطرافة وكثير من المعلومات حد التخمة.
عفاف حسن أمين التي رافقته في حكاياته الطويلة هذه مرافقة المثقف العارف المدرك لتفاصيل الوقائع والذي يدري تماماً أسرار المهنة.
السر قدور بدأ ندوته بالحديث عن الفنون والثقافة وسرد سرد المعايش والمعاصر لتفاصيل ما يقول، وقرأ الاسماء الكبيرة التي زينت سماوات الأدب والثقافة من شعراء وموسيقين وفنانيين، وصحفيين ونقاد فنون.
المحور الثاني للندوة تحدث السر قدور عن النقد وصحافة الفنون وهو ما تناول به ما أسماه قضية النقد في السودان وانطباعيته في السودان، وضرورة أن يقرأ الناقد النص المراد اجراء دراسة نقدية عليه جيداً وتوضيح النقاط التي يتحدث عنها برؤية علمية واكاديمية صحيحة بعيداً عن الرأي الشخصي والانطباع الأولى المبني على المزاج الشخصي.
ثالث محاوره دار عن الغناء الهابط والذي قال فيه قدور إن تعريفه للغناء الهابط يختلف عن كل التعريفات السائدة الآن، فهو يرى أن الأغنية الهابطة تلك التي يلازمها هبوط في الأداء من الفنان، وهو لا يؤمن بأن هنالك نصاً شعرياً هابطاً أو لحناً موسيقياً هابطاً، بل هنالك أداء هابط، وهو ما وضع المتحدث في خلاف كبير مع كثير من المتحدثين في الندوة وذلك برغم التصفيق الحار والاعجاب الذي وجده الحديث والندوة ككل من الحضور الذي أمّه كبار الإعلاميين والنقاد.
إحتراف الشجن
يغني المغني وكلٌ يفسر على ليلاه، هو معنى يقود لذات الناحية حيث كلٌ لــ(ليلاه) يغني، موجز لوقائع شهدتها أمسية التغيير الاحتفائية التي أسندت أمر الطرب للمغنيين فكان محمد خضر بشير أول الذين بادروا نحو شد شراع الفرح بالأمسية وهو يجعل الزمان يدور للوراء مسترجعاً بحب حقبة الكبير خضر بشير وهو يسند ذلك للمقولة الراسخة (الولد سر أبيه).
محمد خضر بشير الذي قاد تطواف الطرب والشجن مساء (الأحد) بمباني الصحيفة أرّق نوم الشجن والناس يتغنون معه بتذكار المحبين:
برضي ليك المولى الموالي
وفيك لازم الصبر الجميل برضي
رددوده لـلاشئ غير أن للأغنية تاريخ بعيد مع وجدان المواطن السودان وذاكرته . ذات الناس أفعموا ذلك المساء بيقين المريدين وهم ينشدون في ابتهال غريب:
كيف يجهلوك
كوكب منزه في علوك
بالجمال العادي راحوا يمثلوك
لو بادلوك
عين الحقيقة
وبالبصيرة تأملوك
بالنور أوبالنار
أو بقدر ما صاغ الخيال
ما عادلوك.
إنه الشجن يبلغ منتهاه؛ والناس ذاتهم ذاتهم يذهبون بعيداً بأفئدتهم المنحورة يثملون ويثملون يترنحون سُكارى وما هم بسكارى حين يغني المغني (الله فوق زوزو) وجُلُهم لا يعلمون حتى من هذه الــ (الزوزو).
الأمسية المحتشدة زانها المغني (محمد الجعفري) وهو يشدو مثل العصافير الهائمة بأغنيات من زمانٍ مضىـ أغنيات جعلت المحتفى به ( السر قدور) يميل على جانبه حد قربه من الإنكفاء طرباً وانتعاشاً وانحيازاً لأيام شبابه التي منحها كل ما يمكن من فنون.
الجعفري حمل معول الغناء وهو بــ(أحلام الحب) يقول :
زرعوك في قلبي
يامن كساني شجون
وروك من دمي
ياللادن العرجون
وهيمنة اللحن الملائكي تأخذ الحضور بعيداً بعيداً لأزمنة الحب واحلامه فيرددون بشجو المنجذب (تتا تتا تريا را را ري را را).
الشابة عائشة وهي تقف بعد أن أحال المغنيان اللذان قبلها المكان إلى باحة عظمى للشجن؛ فتغنت بوعي و(شطارة) الفنانين:
عني مالم صدوا وإتاواروا
حظي عاكس والا هم جاروا
واستطاعت أن تفسح لنفسها بذكائها مكاناً في الأمسية وفي قلب الحضور وطربهم ووجدانهم المشتعل.
أحمد عجوز الذي تغني للكاشف بقلب أبيض، وطرب عالٍ أيضاً كان محلقاً في سموات الأمسية ووضاءً مثل سابقيه الذين تغنوا.
أيادٍ بيضاء
النجمة عفاف حسن أمين قادت دفة البرنامج برزانة وشوق وإثارة مهدت بها لأمسية غاية في البهاء، وأضاف حضورها الزاهي وزينتها بالثوب السوداني (توب الفركة) لتضيف على التوابل بهار من جمال يزيد الطعم نكهة أسطورية ومذاقٌ سحري.
أول المتحدثين كانت ربان (التغيير) (سمية سيِّد) التي كانت تقف كأم العروس وتستلهم من نهار يومها الطويل الشاق بعيض ضوء لتزايد على حسن المكان حسناً من ضياء، فتمهلت وهي تستقبل ضيوفها مرحبةً ومستقبلة وتشكرهم حتى قبل جلوسهم على الكراسي.
البروفسور حافظ حميدة الذي يقود دفة رئاسة مجلس إدارة (التغيير) هو الآخر لم يقف المجهود الذي بذله صعوداً وهبوطاً في استقبال ضيوفه وتوديعهم حائلاً بينه والاتساع في المكان سعداً، فأفاض في كلمته وأضاف الكثير.
جميل الصحافة السودانية وأستاذها المكرم عالمياً فيصل محمد صالح كان كعادته في كل خطاباته رصين الحديث، هادئ القسمات واللهجة، واضح التعابير أثنى كثيراً على المحتفى به، لكنه وبوعي المعلم سرد تفاصيل كان لها حضوراً بين الناس، ولكأنما أورثته سنوات العناء الطويلة وصراع الحكومات خبرة توصيل ما يريد دون ضجيج.
وكيل وزارة الإعلام عبد الماجد هارون لن نستطع أن نقول غير أنه أجاد كلمته حد الاحتراف؛ فالرجل كان مذيعاً قبل أن يتقلد مناصب سياسية عليا، وليس غريباً عليه أن يتحدث بتلك الطريقة المتسربلة في أذن المكان باحترافية يحسد عليها.
كبير النيل الأزرق الذي علمها سحر الشاشة والسيطرة على أعين المشاهد السوداني وقادها لمنصة العلو كعباً ومشاهدة تحدث باقتضاب واختصار معافى، شاكراً (التغيير) لتكريمها السر قدور وامتنانها للنيل الأزرق بما قدمت.
كثير من الحضور جاء مدعواً وساعياً لتقديم اعترافه بالجميل للمحتفى به، فكانت مدارس الولي التي كرّمت السر قدور بتزيينه بوشاح بدا فيه الإعلامي المثقف كالأمير، ولم تقف (ماما نفيسة) عند ذلك الحد، بل جاشت تعابيرها ثناءً وامتداحاً للشاعر وما قدمه طوال سنواته الذاخرة، معلنة ًعن تقاسمهم هم الثقافة جنباً إلى جنب مع النخب في هذا الوطن.
المرأة السودانية (الشاعرة ميمونة) أفرغت هي أيضاً مواعين عاطفتها وشكرها وهي تأتي لتكرّم مع المكرِمين السر قدور بأزياء ومنسوجات بلدية ابتداءً من الرأس وحتى أخمص القدمين.
وأنا أخط الكلمات قاطعني الزميل (عبدالعليم مخاوي) مطالباً أن أكتب في مشاهداتي هذه (أن الاحتفال كان مخملياً)، فضاحكته ممازحاً وأنا أقول إن مخملية الأمسية ألبسها الحضور البهي ثوب الألق وازدانت ليالي (التغيير) بواحدة من أجمل الفعاليات، ستحفظها الذاكرة وترسمها الأيام ليدونها التاريخ ضمن سفر الأيام الخالدات جمالاً وبهاءً واشتهاءً
التغيير