منوعات

لماذا وكيف يفشل التغيير عربيا؟

لك الله أيتها الشعوب العربية. مرت عقود طويلة وحلم التغيير لم يتحقق رغم تكرار المحاولات وجسامة التضحيات. وما زال السؤال الذي طرح منذ أكثر من قرن قائما: لماذا تأخر العرب والمسلمون ويتقدم غيرهم؟

لن يتسع المقال للمقارنات الصادمة والمخجلة مع شعوب لا تفوقنا في شيء وبعضها كان خلفنا، ولكن توفرت لها قيادة وطنية كسبت ثقة الشعب بالصدق والإخلاص ثم بالإنجازات، ونجحت في بلورة الحلم وتحفيز الشعب لتحويله إلى حقيقة، وهنا مربط الفرس.

فلماذا تعاقد العرب مع الإخفاق والجمود، وظلوا يدورون في حلقة مفرغة ما إن يكسروها حتى تلتئم وتستحكم، كما حدث مؤخرا مع موجات الربيع العربي الكاشفة إذ سلطت المجهر -ولو بأثر رجعي- على أكثر من نصف قرن من التيه ضاع هدرا بدون تفسيرات مقنعة أو دروس مستخلصة، وبدون تقويم أو محاسبة، ولذلك تكررت الأخطاء، وأحيانا على يد نفس الأشخاص، فكان أن شهدنا مؤخرا إعادة للنكسة التي شهدها الآباء والأجداد إبان الاستقلال، عندما تحولت حركات تحرر إلى أحزاب تطبيع للأوضاع ثم إلى أنظمة تابعة فاسدة ومستبدة، ولم يتحقق شيء من الأهداف التي ثارت من أجلها الشعوب.

“تاقت الشعوب العربية للتحرر والنهوض فاصطدمت بالاحتلال، فأجلته فلم يتطور الجلاء إلى استقلال، وفشل مشروع بناء الدولة الحديثة، فترك ذلك آثارا سيئة لعل أخطرها الإحباط وفتور الحس الوطني وانخفاض سقف الطموحات والعزوف عن الشأن العام”

وضاعت عقود من النضالات والتضحيات والمعاناة في خضم صراع على سلطة (في دولة تابعة) أسرت من اقترب منها بدل أن يحررها، وأفسدته بدل أن يصلحها، وغيرته أو كشفته على حقيقته بدل أن يغير بها الأحوال. صراع على السلطة من أجل السلطة تحركه دوافع أيديولوجية أو فئوية وأيد خفية، كرس منظومة جذورها التبعية وثمارها الاستبداد والفساد، وأصبح السقف الأمن والجمود، ولا يهم إن كانت الحصيلة الكارثية نتيجة عمالة أو ضحالة نخب مهووسة بالحكم تتنازع أو تتقاسم حكم أوطان تابعة قبل تحريرها، تخذل شعوبها وتتنكر لمبادئها وتستحل كل وسيلة لقاء مكاسب شخصية وحزبية تافهة تشبع بها نرجسيتها.

أما لماذا التركيز على التشخيص وعلى الماضي، فلأنه لا يمكن شق طريق المستقبل إلا بفهم الحاضر (أين نحن؟)، الذي بدوره يحتاج إلى فهم الماضي ومطباته (كيف ولماذا وصلنا إلى هذه النقطة؟).

هما مسلكان لا ثالث لهما: مسلك التغيير ومسلك التطبيع، وكثير من الأحزاب بدأت أحزاب تغيير ثم تغيرت. هذا النكوص المتكرر والخطير وتحول رواد التغيير إلى وكلاء للخارج وأدوات لتطبيع الأوضاع بمجرد اقترابهم من السلطة؛ جعل الشعوب تسير سيرا دائريا، تصنع فرصا تتفنن النخب في تضييعها.

تاقت الشعوب العربية للتحرر والنهوض فاصطدمت بالاحتلال، فأجلته فلم يتطور الجلاء إلى استقلال، وفشل مشروع بناء الدولة الحديثة، فترك ذلك آثارا سيئة لعل أخطرها الإحباط وفتور الحس الوطني وانخفاض سقف الطموحات والعزوف عن الشأن العام والفجوة بين النخب المتصارعة وبين الشعب.

وظلت الشعوب عقودا تراوح بين صراع مدمر على السلطة وجمود قاتل، والجمود هو أم الأمراض السياسية والاجتماعية، حيث ينتشي الطرف المنتصر ويتفرغ لتعزيز سلطته وتأبيدها وتطبيع الأوضاع التي جيش أتباعه والشعب لتغييرها، وفي حالة عجز الأطراف عن حسم الصراع ففي التوافق على تقاسم السلطة مندوحة، فتغيرت الوجوه والمظاهر ولم تتغير المنظومة والسياسات ولم تنكسر الحلقة المفرغة.

فهل كانت الصدامات والمواجهات المتكررة حتمية أو مستحقة أو مدروسة أو مجدية؟ هل كانت من أجل المبادئ والحرية والديمقراطية والشعب والوطن؟ من يتحمل مسؤولية الحصيلة الكارثية على الوطن وعلى الشعب رغم إحجام هذا الأخير عن الانخراط في صراع أدرك بفطرته أنه عبثي؟ أما وقد حدث ما حدث، من الذي أعطى الحق لأحزاب أن تتخلى وتتنازل عن مشروع وأهداف وتغيير دفع ثمنها الباهظ مسبقا؟

الخلاصة أن التغيير فشل بسبب هوس النخب والأحزاب بالسلطة الذي كرس التبعية في كل الحالات: الهيمنة والصراع والتوافق. وفي ظل التبعية لا تقوم ديمقراطية حقيقية، ولا تنجح أي محاولة للتغيير لا يكون على رأس أولوياتها مقاومة التبعية التي هي سبب كل المصائب والإخفاقات، ولا يتحقق ذلك إلا بحركة وطنية وتعبئة شعبية، ذلك لأن التبعية احتلال مقنع، وهي جذر الفساد والاستبداد، ولا يمكن معالجة الأعراض دون الجذور، وكيف ينهض من لا يملك قراره ويعيش على المساعدات.

وفي الدولة التابعة مصدر السلطة في الخارج. وبالتالي فالسياسيون والأحزاب أمام خيارين متناقضين وطريقين متعاكسين يخدع نفسه من يحاول الجمع بينهما: إما المراهنة على الشعب والالتحام به وتحفيزه وقيادته نحو التحرر والنهوض والديمقراطية بعد أن يصبح الشعب بحق مصدر السلطة، أو المراهنة على الخارج للوصول إلى السلطة بالانتخاب أو بالانقلاب، ومن يصل إلى السلطة بتزكية وتسهيلات خارجية لن يكون سوى وكيلا مكبلا مهمته تدجين الشعب وتثبيت التبعية بوعي أو بدونه، ولن يستطيع أن يحدث أي تغيير، وتستمر القوى الخارجية في إسناده إلى أن يستنفد أغراضه وتحترق ورقته فيستبدل.

“لم يعرف التاريخ والعالم نخبا سياسية أرخص وأكثر ضحالة وأنانية وأقل نزاهة وكفاءة وإخلاصا ووطنية وأكثر قابلية للتطويع والتوظيف وأكثر استعدادا لخيانة أوطانهم وخذلان شعوبهم؛ من النخب السياسية العربية، بصرف النظر عن النوايا، إلا من رحم ربي”

كثيرة هي الأحزاب التي سارت في الطريق الأولى ولكن بعدت عليها الشقة، فانضمت إلى المتسابقين نحو الخارج مدفوعة باللهفة على السلطة وبالتذاكي (بمنطق تمسكن حتى تتمكن، وما تمسكن أحد ثم تحرر أبدا) وباسم الواقعية وإكراهات السياسة، فسلمت بالتبعية وأسقطتها من الخطاب والبرامج رفعا للفيتو وللحرج.

ولكن كيف تم تدجين أحزاب من مختلف الاتجاهات قامت على أسس مبدئية متينة ناضلت وضحت من أجلها أجيال؟ الإجابة أن تلك الأحزاب فاقدة للمناعة والحصانة ضد الاستدراج، لأنها في الأعم الأغلب غير وطنية وغير ديمقراطية وغير شفافة، ولاءاتها وأجنداتها أيديولوجية أو طائفية، أممية أو إقليمية، وإليك التفاصيل.

لا توجد أحزاب أو تنظيمات أو أنظمة عربية ديمقراطية إلا شكلا لتلطيف حكم الفرد أو القلة. ففي الظاهر تجد مؤسسات وانتخابات واختلافات ولكن في الأخير القرار بيد فرد، لأن المال بيده، وكذلك المعطيات الحساسة والعلاقات الخارجية بيده يحجبها عن أصحابه فيصبحون مجرد مساعدين يشيرون عليه بما يريحه بسبب قلة الكفاءة وللحفاظ على مواقعهم، وهكذا تتشكل بطانة تعزل الرئيس عن الواقع فلا يتحمل خبرا سيئا أو رأيا مخالفا أو منافسة، ونادرا أن يتخذ حزب عربي قرارا يخالف هوى الرئيس، وإن حدث فرأي الرئيس هو الذي ينفذ. وذلك مانع آخر يحول دون قيام ديمقراطية حقيقية في البلاد العربية، وأحزاب كهذه لا يمكن أن تستنهض شعبا بل تكرس التملق والمحسوبية.

والقوى الخارجية تفضل التعامل مع هذه الأنظمة والأحزاب لأنها أسهل ترويضا خصوصا أن الرئاسة فيها مدى الحياة. ولقد أخضعت الإمبراطورية الإسبانية أميركا اللاتينية بهذه الطريقة: تخضع رئيس القبيلة بالترغيب أو بالترهيب ثم توظفه في تدجين القبيلة وإخماد أي نفس مقاوم أو متمرد، ولا يزال الأسلوب معتمدا لإخضاع الأحزاب والشعوب، فقط الطريقة أصبحت أقل فجاجة وأكثر سرية، وإن كانت مكشوفة بنتائجها، تدل عليها التحولات المباغتة والمريبة في العلاقات والمواقف.

ويا ليت الأحزاب العربية كانت فقط غير ديمقراطية، ولكنها أيضا في الأعم الأغلب غير وطنية، تعلي المصلحة الحزبية أو الطائفية فوق مصلحة الوطن والشعب، والاعتبارات الأيديولوجية أو الطائفية عندها هي الحاكمة، وهو ما يجعلها أكثر قابلية للاستدراج والتوظيف، حيث يستدرج القادة ثم الأتباع من باب تعصبهم ووفائهم الشديد لفكرة أو طائفة هي عندهم أكبر من الوطن، وهم مستعدون للتضحية -بل يضحون فعلا- بأنفسهم من أجلها، يستدرجون بلا حرج أو تردد إلا في البداية ربما.

ولا تغرنك المسحة الوطنية السطحية والمتكلفة التي لا تمنع من التفريط في السيادة والمصلحة الوطنية ومن التكيف مع التبعية والفساد. وقد حدث مرارا وتكرارا أن استباحت أحزاب عربية تدعي الوطنية كل الوسائل بما فيها التخريب والتعويق والتآمر في معارك حزبية بحتة.

ثم إن جل الأحزاب العربية ظلت بسبب القمع في غالب الوقت سرية مغلقة، والسرية قاتلة للديمقراطية والشفافية، ومدمرة لشخصية الإنسان وأخلاقه وفكره حيث تغرس فيه التلون والتقنع وعقلية القطيع، والانغلاق ساعد في تحويل تلك الأحزاب إلى شبه طوائف، والقمع وطول التهميش أضعف لدى الشعوب العربية عامة ولدى الفئات المضطهدة خاصة حتى الحس الفطري بالانتماء للوطن الذي تحول إلى مجرد سكن.

ثم إن هذه الأحزاب تعتقد أنها لا تريد للوطن وللشعب إلا الخير، وتعتقد أن الخير كل الخير في أن يحكم الحزب، وهكذا يصبح كل ما لا يتحقق هذا الخير إلا به مشروعا بل واجبا.

ومن يتآمر على البلاد العربية لا يحتاج إلى جهد كبير لأن الفرقاء العرب يفعلون ببعضهم البعض وبوطنهم أكثر مما يفعل الأعداء، ولأن هوسهم بالسلطة مع ضعف الفرامل والمناعة يجعلهم يتسابقون في عرض خدماتهم، لا يطلبون سوى شيء من التمكين أو التمويل لأنفسهم ولأحزابهم، أو يحرضون ضد خصومهم العرب في الداخل والخارج (كما كان يفعل ملوك الطوائف)، بل خاض العرب معارك وحروبا لحساب غيرهم أهدر فيها كثير من المال والدم.

ولم يعرف التاريخ والعالم نخبا سياسية أرخص وأكثر ضحالة وأنانية وأقل نزاهة وكفاءة وإخلاصا ووطنية وأكثر قابلية للتطويع والتوظيف وأكثر استعدادا لخيانة أوطانهم وخذلان شعوبهم؛ من النخب السياسية العربية، بصرف النظر عن النوايا، إلا من رحم ربي. ذلك ما “ميز” العرب عن أي بلد تقدم.

فلا غرابة أن ترفض المخابرات الغربية الإفراج عن الملفات والوثائق السرية المتعلقة بتعاملها مع الأحزاب العربية رغم مرور المدة القانونية، وما رشح ونشر مذهل، وما خفي كان أعظم وأقدم.

“دفعت شعوبنا ثمن إجلاء المحتل وعانت الاستبداد ودفعت ثمن تغيير الأنظمة ثم وجدت نفسها في المربع الأول تحول بينها وبين التحرر والنهوض نخب عاجزة ومن ورائها قوى خارجية، وهي وضعية أسوأ وأعقد من وضعية الاحتلال حيث العدو واضح والقضية بينة والمواجهة مباشرة دون وكلاء”

فنحن إذن إزاء أحزاب -بسبب طبيعتها وبسبب التبعية- قابلة للاستدراج والتوظيف، وعاجزة عن إقامة ديمقراطية حقيقية وعاجزة عن الالتحام بالشعب لقيادة عملية التحرر والنهوض، التي تتطلب زعامة وطنية عصية على التطويع يلتف حولها الشعب ويخوض معها المعركة ضد التبعية والتخلف أيا كان الثمن والتضحيات، وذلك يتطلب وطنية صادقة ونكرانا للذات ووضوحا مع الناس وحرصا عليهم، أي عكس الموجود.

فلا غرابة أن تعتبر الأحزاب العربية تجربة النهضة في تونس تجربة ناجحة وظلت تباركها وتتبرك بها، فقط لأن النهضة وصلت إلى السلطة وظلت في السلطة أو حولها.

في هذا الخضم تبدو تجربة العدالة والتنمية المغربي استثنائية، فهذا حزب إسلامي وطني حتى النخاع، لم يصب بهوس السلطة، واختار العمل العلني والوضوح فسلم من الازدواجية وأمراض السرية، تمسك بوطنيته ومشروعه ومنهجيته ورهانه على الشعب في كل الأحوال، ولعل ذلك كان سر نجاحه في تجربة الحكم.

ومن المفارقات أن حزبا لم يكلف شعبه شيئا شعاره الإصلاح في إطار الاستقرار وبصلاحيات محدودة في نظام ملكي يقدم على إصلاحات جريئة، بينما أحزاب كلفت أتباعها وشعبها ثمن التغيير وأتت بها إلى الحكم ثورة، فإذا بها تتهيب وتتكيف مع الأوضاع أو تتهور.

الخلاصة أن شعوبا دفعت ثمن إجلاء المحتل وعانت من الاستبداد والصراعات ودفعت ثمن تغيير الأنظمة ثم وجدت نفسها في المربع الأول تحول بينها وبين التحرر والنهوض نخب عاجزة وانتهازية من ورائها قوى خارجية، وهي وضعية أسوأ وأعقد من وضعية الاحتلال حيث العدو واضح والقضية بينة والمواجهة مباشرة بدون وكلاء، وتلك كارثة بكل المقاييس.

لا شك أن الأوضاع لن تتغير إلا إذا تغير الإنسان الذي عاش عقودا بل قرونا طويلة بين استعمار واستبداد واحتراب أحدثت دمارا شاملا في العقول والنفوس، لم تهتم النخب والأحزاب بإصلاحه من الجذور، بقدر اهتمامها بأدلجة الناس وتجنيدهم وكسب أصواتهم.

ولا شك أن من بين كل الأحزاب والمحاولات أهم محاولة للتغيير وأكثرها تأثيرا في الإنسان العربي منذ عقود كانت الحركات الإسلامية، فكيف ولماذا فشلت في إصلاح المجتمع ودفع البلاد على طريق التحرر والنهوض رغم نجاحها المنقطع النظير في إحياء الدين ونشر التدين، ذلك سؤال بحاجة إلى مقال آخر.

الجزيرة