زمن لا يحتمل تطاول الصغار
كنت أشاهد برنامجا توثيقيا عن احد رجالات الادارة الاهلية في السودان …. التقرير كان يتحدث عن حكمة الرجل وحنكته في حل كثير من القضايا والمشاكل المتعلقة بأفراد قبيلته ..بهدوء وصبر …دون استلال لسيف ولا اراقة للدماء …قال المذيع جملة استوقفتني طويلا …(كان ذلك في زمن …لا يحتمل تطاول الصغار )…قلت لنفسي (وهل هناك زمن ..يحتمل تطاول الصغار؟؟؟؟)…لا أعتقد ..الكبير ..كبير ..هذا امر لا يختلف عليه اثنان …وقد كنت دائما ..كلما وردت اخبار اقتتال القبائل في ما بينها ..في اي جزء من بلادي الحبيبة ..وارى صور لشباب غض ذهبت حياته ثمنا لأفكار غريبة وعنصرية بغيضة…. اتساءل قائلة (وين الكبار ؟؟؟ اليس فينا رجل رشيد ؟؟؟)
اذكر انني كنت قد قرأت قبل فترة ليست بالقصيرة ..تقريرا عن قبائل الرحل والكيفية التي تنتقل بها القبيلة ومعها حيواناتها من منطقة الى اخرى ..بحثا عن مكان أفضل للرعي ..لفت نظري ان هناك خطوات تتم قبل النزول بأرض قبيلة اخرى ..منها انه تتم مخاطبة كبير تلك القبيلة واعلامه بعدد الناس والحيوانات التي يرعونها …وان ذلك الكبير هو الذي يجب اخذ موافقته على المرور في مسارات محددة بحيث لا تهدد الزراعة وايضا حتى لا تختلط القطعان مع بعضها … تبقى قبيلة الرحل.. ما شاءت من الزمن ..تلتزم بما تم الاتفاق عليه ..وتجد كل ترحاب من القبيلة المضيفة ..ثم يؤذن مؤذن الرحيل وتسير الركبان حاملة قصص وذكريات جميلة ووعود باللقاء في المرة القادمة بمشيئة الرحمن … .. (ذلك زمن لم يكن يحتمل تطاول الصغار).
كان لرجالات الادارة الاهلية من عمد ومشايخ مكانة يعرفها القاصي والداني ..ويقصدهم كل من لاقته صعوبة ..او جرى عليه ظلم من احد من افراد قبيلته او قبيلة أخرى …يجلس العقلاء والاجاويد من الجهتين ..ويبدأ الحوار ..ولا ينتهي الا بحل المشكلة ورضاء الطرفين ..وكان القرار الذي يتوصل اليه مجلس الجودية ملزما للكل حتى ولو اتى بغير ما تهوى انفسهم …(ذلك زمن لم يكن يحتمل تطاول الصغار).
هل تطاول الصغار فعلا ؟؟ …و تبعا لذلك انهارت قيم وأعراف ..وأصبحت المشاجرة التي كانت تحل بالجودية ومجالس العقلاء ..قتالا يتنادى له افراد القبيلة ..وتراق فيه الكثير من الدماء ..حتى صار الامر عاديا ..وامسى القتلى مجرد عدد يكتب في الصحف ورقم يذاع عبر التلفزيون …كأنهم لم يغنوا فيها بالأمس …كأن ليس وراءهم أم ثكلى وأب مكلوم ..ولم تكن لهم احلام وامنيات ..فهل صرنا في زمن تطاول الصغار ؟؟؟
أين ذهب رجالات الادارة الاهلية ؟؟ أين العمد والمشايخ ؟؟ هل تم تهميشهم أو تغييبهم ؟؟ و الا لماذا اصبحت أخبارنا كلها عبارة عن تتبع لخيوط الدماء التي سالت بين اخوة كانوا الى وقت قريب يتشاركون الماء والكلأ ؟؟ ..يتزاوجون ويتناسلون فيما بينهم؟؟ ..ما الذي حدث؟؟ ومن الذي أفسح المجال (لتطاول الصغار؟؟) … يا من أعد ذلك التقرير التلفزيوني الجاذب …ليس ذلك الزمن فحسب ..ولكن هذا الزمن وكل زمن …لا يسمح بتطاول الصغار …وووووصباحكم خير.
د. ناهد قرناص