أمير تاج السر : في وداع 2015
تخلصنا من عام 2015 أخيرا، ذلك العام الذي حدثت فيه تغيرات كثيرة، ولم يكن في رأيي عاما جيدا لكثير من الذين أعرفهم، وحتى المشاريع الخاصة التي ربما تحققت فيه للبعض، فهي مشاريع عادية، وروتينية، كان يمكن أن تتحقق في أي عام آخر. وبرغم ذلك وحسب التجارب التي يتم خوضها، فإن العام الذي يمضي، في الغالب أفضل من ذلك الذي يأتي، والتغيرات القاتمة في الدنيا، أكثر من التغيرات البراقة، ونرى الآن في كل يوم جديد، وطنا يموت بجدارة، ووطنا يحتضر، ووطنا يسير في ذات السكة، التي باتت تسلكها الأوطان، وغالبا لا دواء ولا فائدة من أي محاولات تبذل هنا وهناك لإنقاذ تلك الأوطان. كان العام 2015، غاصا بالأسى، وتأتي الحالة السورية، والحالة الليبية، في قمة ذلك الأسى، وشهدنا الهجرات المغامرة التي تتسلق البحر، والأمل معا، وقد تصيب أو تخيب. كان الطفل السوري إيلان، هو الصورة التي انتشرت، وعلقت بمخيلة كل من شاهدها، ولا أظنها تمحى، لزمن طويل، الطفل الصغير، الوسيم، بملابسه الزرقاء والحمراء وحذائه على قدميه الصغيرتين، نائما على شاطئ البحر المر، ميتا بمذاق النائمين، ودرسا في ضخ الأسى، ربما يستوعبه مشعلو الحروب، والذين يحولون الأوطان إلى جمر، يصبح البحر العميق، المرعب، أخف وطأة منه. أظن أن العالم قد ابتأس كثيرا أيام أن طفت صورة إيلان الصغير، واختصرت مأساة الهجرة المميتة إلى بلاد إن انتهت الهجرة إليها بالفعل، ربما تستقبل من وصل، وربما تعطف عليه، وربما لا ترحمه هي الأخرى. كنت أتابع أصدقاء وصديقات من أهل الكتابة، ركبوا البحر أيضا أو هاجروا بصحارى وأصقاع، كالذين عبروا الأراضي الروسية، زاحفين إلى أوروبا، وأخاف من ضياعهم. ولا أجرؤ على التساؤل: لماذا تركبون الخطر؟ فثمة إجابة واحدة كما أعتقد: ثمة خطر، أخف من خطر، مثلما أن هناك قضاء أخف من قضاء.
ولأن الحروب هي وعاء الرعب الرئيسي، والطاردة للناس من بلادهم، وربما تفقدهم بيوتهم، وأنشطة رزقهم التي كانوا يمارسونها، بالكامل، إن ظلوا ولم يرحلوا، فقد تذكرت حروبا كثيرة، حدث فيها ذلك، وتذكرت حرب إريتريا للتحرر من سطوة إثيوبيا في نهاية الثمانينيات، وبداية التسعينيات من القرن الماضي، وتذكرت لاجئة إريترية رائعة اسمها أببا، قدمت إلى مدينة بورتسودان، وعملت في بيع الشاي، وتعرضت بالضبط لما قد تتعرض له المرأة الجميلة، بلا وطن، وشاهدتها ميتة بطعنة سكين في المستشفى حيث كنت أعمل، جلست لأكتب قصتها، أو قصة متخيلة تناسبها، وكان نشاطا دامعا، قمت به في هذا العام الذي رحل.
على المستوى الثقافي، لم نكسب كثيرا، هناك إصدارات لكثير من المبدعين، في شتى ضروب الكتابة، بعضها يرتقي ليكون في قوائم القراءة، وبعضها لا أعتقد أنه يستحق. إصدارات عربية، وترجمات من لغات أخرى، وكلام كثير، ولقاءات هنا وهناك، ومعارض كتب، ومؤتمرات ثقافية، ولا أرى نموا كبيرا، في جسد الثقافة، لا أجدها طالت، ولا أجد وزنها قد ازداد كثيرا، ليقترب من وزن الرياضة مثلا. بالعكس، نحن بتدهور بلاد كثيرة، كانت شعوبها تقرأ، وبالأزمات الاقتصادية، التي لحقت ببلاد أخرى، شعوبها أيضا تقرأ، كان لا بد أن نخسر، ولولا جائزة كتارا المهمة، التي أوجدتها مؤسسة الحي الثقافي القطرية، وكانت احتفاليتها الأولى في شهر نيسان (أبريل) الماضي، لما كان هناك إنجاز كبير نملكه.
كنت تحدثت عن القراءة، والإبداع بوصفهما نشاطين، من لحم الثقافة، في إحدى الكليات الجامعية، ووجدت من يعارض فكرتي، من الذين حضروا، ويردد أن الثقافة ليست فقط فيما ذكرت، ولكن أي شيء، الأكل والشرب ثقافة، العري، والملابس، ثقافة، الحرب أيضا ثقافة، والسلم ثقافة. وبالطبع لا اعتراض، ولكن نتحدث عن الثقافة البسيطة المتاحة، أو التي يمكن استيعابها، وقراءتها بمتعة، فليس مطلوبا من القارئ أن يبحث عن أصل ثوب الساري، الذي ترتديه النساء الهنديات مثلا، ولا من أين جاءت عمامة السيخ الجهمة التي تشبه لحاهم الجهمة أيضا، أو هل كان الراهب المستنير، مؤسس البوذية، اسمه بودا أم بوذا؟ هكذا.
في منتصف العام 2015، خسرنا شعراء عظاما مثل محمد الفيتوري وعبد الرحمن الأبنودي، وفي نهاياته خسرنا جمال الغيطاني وإدوار الخراط، وقبلهما مات الألماني العظيم غونتر غراس، وكان لكل واحد من هؤلاء الراحلين، حضور مزده، تأنق به في الساحة الأدبية، قبل أن يترجل. تجليات الغيطاني، ووقائع حارة الزعفراني الجميلة، ثلاثية الخراط الإسكندرانية، الطبل الصفيح وتقشير البصلة، ومئات التساؤلات الممتعة: من أين يأتي هؤلاء الناس بهذه العناوين اللافتة، الجذابة؟ والإجابة الحاضرة دائما: من موهبة في كل شيء حتى صناعة عناوين النصوص.
حسنا، انتهى عام 2015 وبدأ عام 2016، ما هي أمنياتك للعام الجديد؟
سؤال يواجهني نهاية كل عام، ويواجه كثير من الناس، بالتأكيد، حتى أولئك الذين لا علاقة لهم بالكتابة، مثل ولد تسأله أمه: ما هي أمنياتك للعام القادم؟ مثل فتاة يسألها خطيبها، ويعرف أنها تتمنى أن يتم الزواج بأسرع وقت: ما هي أمنياتك للعام القادم؟ هكذا.
كنت أعرف في مدينة بورتسودان، حيث نشأت، شخصا يحب سؤال الأمنيات هذا، بشدة، عنده بنت اسمها أمنية، وأخرى أماني، وثالثة أمنيات، ودائما السؤال في فمه وعلى طرف لسانه، حين يلتقي الآخرين: ما هي أمنيتك لهذا اليوم؟ لهذا الأسبوع؟ لهذا الشهر؟ لهذا العام؟ وبالطبع ثمة سخرية، وعدم تجاوب من كثيرين، لكنه لا يقلع، والذين قد يتجاوبون، ويردون، لا توجد لديهم أمنيات على الإطلاق، فلم يترك الواقع الصعب، الذي يعيشونه، والمستقبل المتخيل أنه أصعب، دربا للأمنيات أن تسلكه. لقد سألني صاحب هذا السؤال، وأنا طالب في الثانوي: ما هي أمنياتك للمستقبل: قلت أن تحبني فتاة بطريقة الحب في السينما العربية. عاد وسألني في آخر أيام لي في المدينة قبل أن أسافر، وكان مريضا جدا، تأزم قلبه، وضاقت الشرايين، وراقدا في عنبر متسخ بالمستشفى، لكنه مبتسم: ما هي أمنيتك للأعوام القادمة؟ قلت: أن أصبح شاعرا جيدا، مثل محمد عفيفي مطر ومحمود درويش، وألقي قصائدي أمام الآلاف، وكنت حقيقة مولعا بالشعر وتمنيت أن أصبح شاعرا معروفا، لكن ذلك لم يحدث مع الأسف، وبمرور الوقت أصبحت تلك الأمنية بالذات، لا وجود لها، وإن صادف أن أطلت برأسها، فهي إطلالة فقيرة، تذبل وتنتهي.
الآن أسأل من كثيرين، بعضهم زملاء، وبعضهم تلاميذ، وبعضهم صحافيون: ما هي أمنياتك للعام الجديد؟
قلت أن تكتمل معرفتي بالأشياء التي ما زلت أجهلها، أن يعم السلام الأرض، أن تلتم جروح الأوطان الجريحة، أن تنتعش تلك التي في الإنعاش، ويعود الفارون إلى بيوتهم، وحياتهم، بلا تشرد ولا رعب، وأن أكتب شيئا جديدا، بعضا من سيرتي، وسيرة المكان الذي عشت فيه سنوات طويلة، وأحببته، وأعني مدينة الدوحة التي سكنتها، والوكرة التي عملت فيها وما زلت، وأعرف سكانها كلهم، أواصل الموجودين، وأحتفظ بذكريات طيبة مع الذين رحلوا.
نعم هي أمنيات بعضها ممكن تحقيقه، وبعضها لا أعتقد.
كاتب سوداني
أمير تاج السر