شجرة في وسط بيتنا القديم ..!!
شجرة النيم النديانة والوارفة الظلال كانت تحكي سيرة هذه الأسرة.. حينما تم تهديم بيت الجالوص القديم أصرت حاجة بتول ألا تتضمن خطط إعادة التعمير قطع هذه الشجرة المباركة.. جلست الحاجة تحت ذات النيمة تسترجع الذكريات.. أيام الفقر و الثراء تتقاطع معها أيام الحزن و الفرح.. تزحف الحاجة بتول نحو العقد السابع ولكن الذاكرة مازالت تعمل بكفاءة عالية تتذكر حتى التفاصيل الدقيقة التي غطاها الزمن وتعاقبت عليها الأيام.
لم تكن قد بلغت العشرين حينما أنجبت التوأم حسن وحسين.. الأسطى عبدالتواب لم يمنحها حق اختيار الأسماء.. لم تكن لتعترض.. وقتها كانت تظن أن تقديرات الأسطى هي الأصح على الإطلاق.. بعد أن أمضت أربعين ليلة مع أسرتها عاد بها إلى هذا البيت الصغير في حي السجانة.. كان قريباً من مكان عمله في السكة حديد.. في بيت الإيجار هذا أنجبت سمية وسعاد.. كلما طرق صاحب الدار على الباب يسأل عن الإيجار زاد شوقها إلى تملك هذا البيت.. زادت الرغبة حينما غرست شجرة النيم.. جارتها مسك اليمن كان تذكرها دوماً أن هذا البيت سيعود يوماً لصاحبه.. لم تكن تقدر أن تمد لسانها.. استأجرت شغالة منزلية وبدأت تعبئ لها «الداردمة» في حافظة مياه بلاستيكية لتسرح بها في محطة القطار.. اتفقت مع صاحب مطعم شعبي ليشتري منها «الكسرة».. كلما وفرت جنيهاً شعرت بأنها اقتربت من تحقيق الحلم الذي لم يتحقق إلا عندما بلغ حسن وحسين المدارس المتوسطة.
كانت الأيام تمضي بسرعة حينما تزوجت الصبيتان ظنت أن ذاك قمة الفرح.. وحينما أصاب حسين كلية الطب بجامعة الخرطوم شعرت بأن الله عوضها عن أيام الصبر والشقاء.. بكت بكاءاً خالجه نحيب حينما صارحها حسن أنه لا يرغب في مواصلة الدراسة ويفضل أن يلتحق في وظيفة عمالية بهيئة السكة حديد.. ذات الدموع هطلت مدراراً حينما توفي عبدالتواب.. خرج من بيته ذات مساء في طريقه إلى النادي الأهلي كعادته الراتبة وعاد محمولاً على الاكتاف.. كلما ظفرت به من شريك العمر كلمة «عافي منك يا بتول» وبعدها أغمض الحاج عينيه.
اقترب حسن من أمه ذات المطارق.. دنا من كوب القهوة الذي أعدته له حاجة بتول على عجل.. تأوهت حاجة بتول وهي تنظر بإشفاق إلى ابنها المحمول بنصف دستة من العيال.. حسن الوحيد الذي لم يخرج عن طوعها.. زوجته من ابنة شقيقها ذات الحظ القليل من الجمال.. حسمت الجدال حينما قالت له «من يتزوجها يا حسن إن لم تفعل أنت ذلك».. سامية وسعاد أخذتهما دنيا الاغتراب.. مازالت سامية في جدة وعادت سعاد من ليبيا بعد انهيار الدولة.. خسر القذافي الحكم وبدأت حاجة بتول تستشعر أن الخطر بدأ يقترب من مملكتها.. أبناؤها يبحثون عن ميراث والدهم.. ولكن حاج عبدالتواب لم يشترِ هذا المنزل.. بتول بمحض إرادتها سجلت البيت باسمه.
حينما نظرت بتول إلى عيون ابنها حسن شعرت به يخفي شيئاً ما.. ظنتها أخباراً سيئة من ابنها الطبيب الذي شغلته الدنيا والمهنة.. لم تعد تراه إلا على نحو نادر.. حسين صاحب اقتراح تهديم البيت وإعادة بنائه على أساس متعدد الطوابق حتى يسع الأسرة كلها.. كلما اقتربت الفكرة من التنفيذ كانت حاجة بتول تعترض على التحديث.. كانت تعتقد أنهم يتربصون شراً بشقيقهم البائس.. الدنيا علمتها أن اجتماع الناس في حيّز ضيق يفجر الأزمات.. كانت تستخدم كافة الحيل من ادعاء رؤية والدهم في المنام إلى التحايل بقومة نفس مفاجئة.
غرست حاجة بتول يدها في شعر ابنها المهموم.. أرسلت كلمات حازمة و حاسمة لتبعد حفيدها عبدالتواب من المسرح بعد أن اقترب من والده بصورة مفاجئة.. حينما رجع بصرها كرتين على ابنها حسن لم يجد غير أن يستسلم.. أخرج من جيبه ورقة صغيرة.. مررها ببطء إلى كف والدته التي لا تحسن القراءة.. أمسكت حاجة بتول الورقة باهتمام ثم نظرت إلى جزع الشجرة السميك.. نظر حسن إلى الأرض وأخبرها بأن المحكمة تطلب حضورها للبت في أمر توزيع ورثة المرحوم عبدالتواب عمر.. ارتفع نفسها بشكل مفاجيء.. ظن حسن أن أمه دخلت في فاصل من التمثيل ولكن النوبة استمرت بشكل متزايد.. هاتف شقيقه دكتور حسين فوجد الرقم لا يمكن الوصول إليه.. استنجد بشقيقته سعاد صاحبة الدعوى فوجد هاتفها مشغول بمكالمة أخرى.. نادى بصوت عالٍ على ابنه عبدالتواب الذي استجاب ولكن لحظتها توقف النفس العالي وارتمت حاجة بتول على جزع شجرة النيم التي غرستها ذات يوم.
عجيب أمرك أو خيالك يا ظافر !!!! هذه القصة أو الحكاية بكامل تفاصيلها و وقائعها حدثت لأسرتنا حيث كنا نقيم فى منزلنا فى السجانة جنوب زريبة العيش القديمة فى سوق السجانة .. وقائع الحكاية نفسها تماما عدا الاسماء – و فارق أن والدنا كان يقضى أمسياته فى نادى ديم سلمان و ليس النادى الأهلى- و توفت والدتنا المرحومة كمدا و غيظا من القرار القضائى بفرز انصبة الميراث .. بيتنا الآن تم هدمه واعادة بنائه و يشغله الآن مغلق (XXX) لبيع الاجهزة الكهربائية و مغالق مواد بناء —-يا استاذ عبدالباقى هل كنت احد ابناء جيراننا فى السجانة فى ذلك الزمان أم هذا من صنيع خيالك البديع — و لك تحياتى …