أرجوك لا ترحل .. !
جاء دكتور عامر إلى الموعد يحمل حقيبة سفره السوداء استعداداً للرحيل.. وجد صعوبة في أن يصل إلى هدفه.. الجماهير المحتشدة سدت شارع النيل المؤدي لفندق السودان حيث يقام الحفل ..عند الخامسة مساءً، احتد مع زوجته هالة.. خيرها بين البيت والفن.. شرحت له أنها اعتزلت الغناء في بيوت الأفراح تقديراً لحبه .. الآن تغني في الأماكن العامة وتطرح من حين لآخر ألبومات حتى تحفظ اسمها في عالم الفن..لم يكن طبيب الأسنان الحاذق في حاجة لحل وسط..كان يشعر أن حبيبته ستتنازل عند حافة الهاوية.
كل الحضور كان ينظر إلى ساعته، اقترب موعد الحفل ..همهمات تسري هنا وهناك بأن الأستاذة لن تحضر..سمع دكتور عامر أحدهم يحاول التنبؤ بالسيناريوهات الصعبة إن لم تحضر الأستاذة.. الرجل الخمسيني توقع موجة عنف ربما تريق دماء.. شاب مراهق أكد أنه قرأ في (الواتساب) أن الأستاذة تعيش خلافات مع زوجها الذي يحاول حرمانها من الفن..شيخ كبير خطف الحديث قائلا “الأستاذة ثروة قومية ليس من حق أي شخص منعها من الغناء”.. هنا شعر دكتور عامر بالتوتر ..تحسس النظارة السوداء التي كان يرتديها لتخفي ملامحه.. ماذا إذا اكتشف الجمهور أنه بينهم في هذه اللحظة.
حاول أن يغادر المكان، ولكن الخروج عكس التيار يشبه المستحيل ..فجأة سمع جلبة وضوضاء.. صوت صفير هادر.. حينما نظر إلى الأفق رأى اثنين من مواترالشرطة تسبق عربة مرسيدس سوداء تشق طريقها بصعوبة..إنها سيارة زوجته.. ارتفعت موجة الغضب في دواخله وسيطرت عليه روح التحدي..حاول أن يعترض موكب الأميرة ويلقي في الهواء يمين الطلاق.. حينما اقترب من السيارة المظللة دفعته الجماهير بعيداً ..شعر لحظتها أن وزنه بين الناس مثل (كيس نايلون) في مهب الريح..استسلم لأقداره ..وقفل عائداً يحمل فقط حقيبة السفر السوداء التي خرج بها من بيت الزوجية الباذخ.
صورة أول لقاء تسيطر على ذهنه..كان مستغرقاً في العمل في عيادته الأنيقة ..طرق الباب عم صالح ثم دخل .. هذا يعني أن هنالك أمر طاريء ..قصته مع صالح بدأت منذ أن كان عامر طالباً يتيماً بكلية طب الأسنان..هذا الكهل يتعامل معه بشكل أبوي..يدخر له الطعام حين الازدحام..بل كثيراً ما يدس في يده نقوداً ..حينما فتح الله عليه كان أول قرار توظيف للعم صالح ..ليست للعم صالح وظيفة محددة هنا ..يراقب الأوضاع ثم يجمع الفلوس في نهاية الليل..يقيم مع دكتور عامر في ذات البيت العتيق بالخرطوم ثلاثة.
همس عم صالح بصوت مسموع في أذن الدكتور عامر الذي حاول أن يتجاهل الأمر ويواصل (معافرته) لضرس مريض عجوز..لكن العم صالح لم ينصرف كأنه ينتظر إجابة أخرى..عاد عامر مستفسرًا “الأستاذة منو يا عم صالح”.. ثم واصل “ طيب خليها تنتظر” .. المريض الذي كان يترنح من الألم تدخل محتجا..” يا دكتور كيف أستاذة هالة تقيف في الصف الناس لو عرفت تعمل ليك مظاهرة”..هنا أخذ دكتور عامر الأمر بشكل جاد ثم وجه عم صالح أن يهييء لها مكاناً بالداخل قبل أن يدخلها.
حينما وقفت بالباب كان وراءها نفر من الناس..ردهم الطبيب برفق قبل أن يأخذ بيدها.. كانت الأستاذة تبكي بشدة..ألم الضرس الذي يقهر الجبابرة والطغاة ألم بثغرها الناعم..حينما اقترب منها وجدها مبهرة بشكل غريب..الحزن والدموع زادت الوجه الدائري جمالاً..ابتسم في وجهها وهو يحمل بين يديه حقنة احتوت على مخدر.. بادلته الابتسامة قبل أن تقع عيناه على ما بين يديه.. بعدها دارت معركة اشترك فيها العم صالح والطبيب والرجل الذي يبيع التذاكر.. أخيراً تمكنوا منها ووضعوا الدواء ناحية الداء.. بعدها ابتسمت واعتذرت عن سلوكها البربري وخوفها الطفولي من الحقنة.
من ذاك اليوم تولدت صداقة بين الطبيب والأستاذة ..تقابله من حين لآخر لتشرب معه فنجان قهوة بالعيادة.. لم تكن المقابلة امراً يسيراً لمطربة مشهورة ..حدثته عن معاناتها..سرق الفن عمرها.. فشلت في الزواج بعد أن لامست عتبات الشهرة.. ابن عمها القروي لم يتحمل ذلك فتركها ومضي لحال سبيله.. خاصمها أهلها وتبرأ منها المقربون ..حينما أصابت النجاح والثراء عادوا إليها.. لم تغلق دونهم الأبواب ..ابتسم عامر انها ذات مهنتي.. أنوم في أليل نحو خمس ساعات ..في الصباح الباكر أمضي إلى طلابي بالكلية ..في منتصف النهار أبرمج عملياتي في المشفى ..عند المساء أعود لعيادتي والتي أغادرها بعد منتصف الليل.. بعد أن ماتت أمي لم يتبق لي في هذه الحياة غير العم صالح..هذا الرجل خانته زوجته فاعتزل النساء ..قال عامر لنفسه حقا إن المهن تتشابه.
وصل عامر إلى بيت الزوجية بدلاً عن المطار.. وضع حقيبته على المنضدة ثم اضطجع ليتخذ القرار..كان يفكر ويفكر..في هذه اللحظة دخلت الأستاذة..قبل أن يتفوه بكلمة قالت له” ودعت الجمهور بعد الفاصل الأول واعتزلت الغناء”.. لم يملك غير أن يبكي ويبكي.. اقتربت منه الأستاذة لتجفف دمعه ..تعانقا طويلا وسط الدموع ..همس في إذنها أرجوك لا تعتزلي بالإمكان أن يجتمع الحب والفن تحت سقف واحد.
خليك في الفتن والتحريض احسن لك فانك لم تدهشنا !!!