رأي ومقالاتمقالات متنوعة

د. مصطفى عثمان إسماعيل : مشاهد ومواقف (3) .. دكتور “الترابي” الذي عرفته

الترابي المتسامح (2)

تحدثنا في المقال السابق عن نماذج من تسامح “حسن الترابي” وهو لا يمارس هذا التسامح من ضعف ولا يمارسه حينما تمُس مبادئه وقناعاته، وأكثر ما يمارسه في ذلك المتعلق بذاته، لذلك هو لا يبحث ولا ينتظر اعتذراً لكي يُظهِر هذا التسامح. فالتسامح قيمة إنسانية عززها وعظمها الإسلام، والتسامح قيمة أخلاقية.. والرسول “صلى الله عليه وسلم” يقول “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وهذا يؤكد أن الأخلاق في البشرية قيمة قديمة بقدم التاريخ، وأقدم من بعثة النبي “صلى الله عليه وسلم”. والتسامح مدخل مهم للتعايش في مجتمع متنوع متعدد الأعراق والثقافات والديانات. في المقابل هناك الرغبة في الانتقام وعدم العفو. لعلي أذكر هنا إشارة إلى (موقعة أحد) حينما مُثِل بجسد سيدنا “حمزة بن عبد المطلب” عم رسول الله وأسد الله وأسد رسوله، وقف النبي “صلى الله عليه وسلم” حزيناً، وأقسم قائلاً: ( لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بسبعين منهم وفي رواية بثلاثين منهم). فأنزل الله سبحانه وتعالى قرآناً يأمر الرسول “صلى الله عليه وسلم” بالكف عن ذلك، بل أمره بالصفح والمسامحة. يقول الله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ* وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) صدق الله العظيم
ويروى أن السلطان العثماني في القرن الخامس عشر نوى الانتقام من الأسبان لأنهم قتلوا المسلمين في الأندلس وأبادوهم، لكن المفتى منعه وقال له إن الدين الإسلامي يمنع الانتقام وقتل الأبرياء. والتاريخ الحديث يروي لنا المشاهد الفظيعة عن انتقام الصرب من البوسنيين لأنهم أعلنوا كيانهم المستقل. أروي مشهداً آخر من مشاهد التسامح عند “حسن الترابي”، معروف أن الأخ الكريم الدكتور “غازي صلاح الدين” من مهندسي مذكرة العشرة الشهيرة، ومن القيادات التي دعمت بقوة حل البرلمان والانحياز إلى صف الرئيس “البشير”، وما تبع ذلك من إجراءات. عندما حدث الخلاف الأخير بين الدكتور “غازي” ومجموعته وقيادة المؤتمر الوطني، إبان أحداث سبتمبر وتبع ذلك فصل الدكتور “غازي” ومجموعته، وسمعت بأن الدكتور “غازي” ينوي تكوين حزب آخر ذهبت إليه في منزله وتحدثت إليه طويلاً، وعندما فشلت في إثنائه عن الخروج من المؤتمر الوطني، رجوته ألا يؤسس حزباً آخر حتى لا نزيد الصف الإسلامي انقساماً، وأن ينضم إلى حزب المؤتمر الشعبي بقيادة الدكتور “الترابي “. الأخ الدكتور “غازي” قال (هل تعتقد أن الدكتور “الترابي” سيسامحنا عمّا فعلناه فيه)، قلت نعم معرفتي بـ”الترابي” تقول ذلك. خرجت من منزل الدكتور “غازي” وذهبت إلى منزل الدكتور “الترابي” الذي استقبلني على الفور وانتحيت به جانباً وشرحت له ما دار بيني والدكتور “غازي” ورجوته ألا يخيِّب ظني. رد عليّ بابتسامة قائلاً إنت تعرفني جيداً وسأتواصل مع دكتور “غازي” ولن نرجع لصفحات الماضي. بعد ذلك أبلغني الراحل بأنه التقى الدكتور “غازي” عدة مرات، وحاول أن يقنعه بعدم تأسيس حزب لكنه فشل في إقناعه، غير أنه سيظل على اتصال به وأنه عفا وسامح عن كل ما حدث.
“غازي صلاح الدين” من كوادر الحركة الإسلامية المتقدمة ينطبق عليه قول الشاعر:
إذا كانت النفوس كباراً ** تعبت في مرادها الأجسام
موقف آخر للتسامح عند “حسن الترابي” بعد انتهاء مرحلة حكم الرئيس الراحل “جعفر نميري” لاقت الحركة الإسلامية أذى كثيراً في فترة حكم الرئيس “نميري” خاصة المرحلة الأولى التي سيطر عليها الشيوعيون، حيث قضى الدكتور “الترابي” سبع سنوات في السجن. في هذه الفترة فضل عدد من الإسلاميين أصحاب الوظائف الكبيرة الابتعاد عن الحركة الإسلامية لأسباب مختلفة. كنت مسؤولاً عن القطاع الصحي وفيه عدد من هؤلاء الذين ذكرتهم. بعد سقوط (نظام
نميري) بثورة أبريل، خلال الفترة الانتقالية برئاسة المشير “عبد الرحمن سوار الدهب”، نشطت الأحزاب السياسية للاستعداد للانتخابات. في ذلك الوقت رغب عدد من الذين هجروا الحركة الإسلامية أيام “نميري” في العودة مرة أخرى فترددنا في قبولهم، فذهبت للراحل الدكتور “الترابي” لأبلغه بالموضوع وموقفنا من ذلك، كان موقفه مغايراً تماماً ووجهني بقبول أي شخص يرغب في العودة إلى الحركة الإسلامية دون أي قيد ودون أي عراقيل قائلاً: يجب أن تجدوا عذراً لكل من يريد العودة، واجعلوا العفو والتسامح عنوان هذه المرحلة. ونتيجة لهذا التوجه عاد كثيرون إلى صفوف الحركة الإسلامية، وهذا موقف نهديه إلى قياداتنا السياسية اليوم للملمة صفوف أحزابنا الممزقة والترفع عن الصغائر، وجعل العفو والتسامح شعار المرحلة، وليت مؤتمر الحوار الوطني يتبنى مثل هذه الدعوة.. يقول الشاعر:
إذا كُنتَ في كُلِّ الأمورِ مُعاتِباً — صَديقُكَ لَمْ تَلقَ الذي لا تُعاتِبُه
فَعِشْ واحِداً أو صِلْ أخاكَ فإنَّهُ — مُقارِفُ ذَنبٍ مَرَّةً ومُجانِبُه
بعد عودة “د. الترابي” للسودان قادماً من “كندا” بعد تلك الحادثة الأليمة والمؤامرة التي كان بطلها ومظهرها “بدر الدين”، بقي “د. الترابي” بمنزله شهوراً مستشفياً. في مرة من المرات طلبني عبر سكرتيره، ذهبت إليه وأدخلتني حرمه المصون الأستاذة “وصال المهدي” إلى غرفته، فجلست إلى جواره فقصَّ عليَّ ما حدث بالتفصيل إلى حين عودته إلى السودان وتفسيراته لكل ذلك، وليس المجال الآن لشرح كل ذلك… وقفت كثيراً عند عبارة ختم بها حديثه وأنا أودعه، قال أما عن الحق الشخصي وما فعله “بدر الدين” فقد سامحته وعفوت عنه، ولكن لأولئك الذين أرادوا أن يسكتوا صوتي ويوقفوني عن الدعوة إلى الله فيا ويلهم مني فسأكون أرفع صوتاً وأكثر جرأة وسيجدونني أضعاف أضعاف ما كنت عليه.. انظروا… مسامحة وعفو وعدم إضاعة الوقت في الحق الشخصي وإصرار للمضي قدماً وبقوة في الطريق الذي يؤمن به وهكذا كان. موقف آخر في التسامح والعفو أختم به مقالي هذا، كان ذلك في المؤتمر العام الأخير للمؤتمر الوطني، فقد وجهنا الدعوة للمؤتمر الشعبي من ضمن من وجهنا لهم الدعوات من رؤساء الأحزاب السياسية، ولم نكن متأكدين من حضور “د. الترابي” إن كان سيحضر أم لا، كنا نعتقد أن الراحل سيكلف شخصاً آخر ليمثل الحزب، فالخلاف لم يزل قائماً بين المؤتمرين الوطني والشعبي، لكن لم يكن ظننا في محله، إذ حضر الراحل “د. الترابي” للمؤتمر في معرض الخرطوم الدولي، واتخذ مكانه في مقاعد رؤساء الأحزاب السياسية. كان البرنامج قد أعد سلفاً وكان الدكتور “جلال الدقير” رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي هو المتحدث المعتمد باسم الأحزاب السياسية. سألني سكرتير الدكتور “الترابي”، هل هناك كلمة للدكتور “الترابي”؟ استشرت المنصة وكانت تضم الرئيس “البشير” ونائبه لرئيس الحزب البروفيسور “إبراهيم غندور” ومقرر المؤتمر الدكتور “محمد المختار الحسين”، وجاءني الرد بالموافقة. فكرت في العنوان الذي نقدمه به وكان يجلس أمامي النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق أول ركن “بكري حسن صالح”، فأشار عليّ بفكرة صائبة بأن نقدمه باسم الأحزاب غير المشاركة في الحكومة وهذا ما تم. كانت كلمة الراحل قصيرة لكنها معبرة وتحوي معانٍ كثيرة. عندما وقف ليتكلم ارتفعت الأصوات بالهتافات والشعارات والأناشيد في موقف مهيب لم أتمالك فيه دموعي.. كانت أولى كلماته “هذه الوجوه ليست غريبة عليّ”، واستمر في كلمته القصيرة يقاطعه الحضور بالهتافات. الشاهد أنه لم يشر إلى الماضي ومرارته ولو بكلمة أو إشارة، بل تكلم عن المستقبل عن الإخوة وعن التسامح بين بني الوطن.. هكذا كان “الترابي” يرحمه الله رحمة واسعة.
قال فيه السفير “عبد الله الأزرق في قصيدته شيخ الإحسان:
يا أيها الشيــــخ العظيم تحية ** تهديكها الأخلاق في عرفان
فلأنت أكرم مهجة في عصرنا **بل أنت للأخلاق أكرم بان
ولأنت أحسن من أشاد بناءها** بمبادئ الإسلام في إتقان
يقول تعالى ولمن صبر وغفر (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الشورى الآية رقم (43)
نواصل

· وزير خارجية السودان الأسبق، أستاذ العلوم السياسية – جامعة أفريقيا العالمية

‫2 تعليقات

  1. جزاك الله خيرا احسنت فنعم الطالب لمعلمه ومن الاصل يحفظ الامين الحق لاهله فكنت كذلك جزاك الله خيرا