حوار متفرد مع الشاعر العراقي أحمد مطر
أجراه علي المسعودي لمجلة «الحدث» الكويتية ونشر في يوليو 1998م
٭ إذا كان «بدر شاكر السيَّاب» قد مزق جسد القصيدة، وشكله من جديد، فإن «أحمد مطر» مزق خريطتها، ونقلها من شرفات العشاق وحدائق المحبين وشواطئ المشتاقين، إلى السجون والمعتقلات وأقبية الظلام، وجعلها تشاهد وتشهد على عذاب المُعَذَبين.. ولؤم المعذِبين.
كانت القصيدة العربية، طوال ما مضى من زمن، أداة تطريب ولهو ومرح، حتى جاء «أحمد مطر» ليجعلها بياناً ثورياً، وصفعة تفاجئ وجه النائم.. وتدير وجوه الطغاة.
وقد اعتادت القصيدة العربية، طوال ما مضى، أن تدخل قصور الأغنياء مطأطئة الرأس، خاضعة، خاشعة، مادحة.. حتى جاء «أحمد مطر» وحولها إلى سكين في الخاصرة.. وطلقة مفاجئة تعكر انتباه حرس الجبابرة.
ركزت الأسئلة على مسيرة شاعر قال يوماً «كشفت صدري دفتراً.. وفوقه.. كتبت هذا الشعر بالسيفِ».
عن مسيرة شاعر أسس لمناخ جديد في القصيدة العربية، وجمع بين صلافة الكلمة وصلابتها.. برقة الإحساس الدامي.
عن مسيرة شاعر أصبحت «لافتاته» رايات تنغرز في صدور الجيل العربي الشاب من الماء إلى الماء.. الجيل الذي يحلم بأرض لا تأكل أبناءها، وبمهجرين يعودون إلى أوطانهم حاملين آمالهم.. لا محمولين في التوابيت.
إن شاعراً قادراً على اختزال كل الحزن وهذه المأساة في مقطع شعري محبوك بطريقة تصويرية هائلة.. لا بد أن تكون مستعداً بما يكفي لكي تجابهه بأسئلتك.
أترككم مع أحمـد مطر.
> دعنا نترك أشياء كثيرة تحتاج إلى مقدمات.. وندخل عبر سؤال مراوغ مثل هذا: «مطر.. مطر.. مطر.. أي حزن يبعث المطر؟»
الفقر والسيَّاب والحزن وأحمد مطر.. أي علاقة بين ذلك كله؟
< أما جوابي فلن يكون مراوغاً.. وأبتدئ فأقول إن البيتين المذكورين هما من مقطعين مختلفين.. وأنت جمعتهما إمعاناً في تكرار «مطر» لتقول، ضمناً، إن «مطر» يبعث الحزن.. حسناً.. ألم يقل الشاعر في ختام مقطعه: كالحب كالأطفال كالموتى هو المطر»؟
المطر، إذن، يبعث أشياء كثيرة غير الحزن، خذ مثلاً أن كلمة «مطر» لم ترد في القرآن الكريم إلا تعبيراً عن «الغضب».. لكنها تصبح «غيثاً» في مواضع الرحمة، وتصبح «ودقاً » أو «سحاباً» أو «ماء» إذا مس الأرض الهامدة اهتزت وربت.
اعطني مثل هذه الأرض الخصبة الحبلى ببذور النماء، أُعطك غيثاً.. واعطني سنبلة لا تنحني إذا لم تكن مثقلة ببذور الثورة، وخذ مني الرضاء كله.
أما العلاقة بين من وما ذكرت فهي أن الفقر استفرد بالسيَّاب، وان السيَّاب استنجد بالحزن، وان الحزن استحثه على الغضب، وان الغضب احتاج إلى سلاح.. فلم يكن أمام شاعر أصيل إلا أن يشهر «أنشودة المطر».
وأحمد مطر هو قرين هذا الميت جوعاً وتشرداً وقهراً في بلد هو من أغنى بلدان العالم.. فكلاهما نشأ في البصرة وكلاهما فر إلى الكويت، وكلاهما مر بلندن.. الفارق هو أنني قد أجد أكثر من عذر للسيَّاب في تحولاته وانكساراته، لكنني لن أغفر لنفسي أبداً، إذا ألقيت «لافتتي» وأوقفت مظاهرتي، قبل أن أرى بكل جلاء أن خاتمة «أنشودة المطر» قد تحققت فعلاً.. سوف لن أهدأ حتى يهطل المطر.
> «عباس وراء المتراس يقظ منتبه حساس..» برغم أنهم دمروا كل شيء وراءه وهو «يقظ، منتبه، حساس».. كان ذلك سابقاً.. الآن أيضاً دمروا كل شيء.. ولكن هو.. أما زال يقظاً منتبهاً، حساساً»؟
< عباس الذي في بالك كان نعمة.. كان لديه، على الأقل، متراس وسيف وبرقية تهديد.
سقى الله أيامه.. لو كنت أستطيع لأرسلت إليه سيفاً جديداً حتى يتسلى بتلميعه في وقت فراغه الطويل.. ألم تسمع أن «العبابسة» أقالوه من وظيفته ؟.. قالوا إنه محافظ متحجر، يظن أن القضية ستنتصر بمجرد اغتصاب زوجته، وقتل أولاده، واحتلال بيته.. هكذا دون أن يكلف خاطره حتى بالتفكير في نزع ثيابه وجلده.. فما بالك والقضية تتطلب منه أن ينبطح بأقصى ما يستطيع من ضبط النفس، حتى لا يقلق راحة اللص الراكب.. بل وعليه أن يحتاط للأمر، فيعطيه مقدماً.. «دعاء الركوب» وهأنت ترى أنهم يعلمونه اليوم، ما كان ينبغي له أن يفعل لكي يكون على مستوى القضية.. وإنها لثورة حتى النصب!
> نريد أن نهرب من الواقع إليك.. فنجد الواقع أرحم بكثير مما تكتب: كآبة وحطام وانسحاق مهول.. مخابرات وتجسس ومخافر بين الكلمة والأخرى في شعرك.. دعني أقول لك إن السجن أهون من القراءة لك!!
< الواقع أرحم مما أكتب؟! إذا كنتم ترون هذا فعلاً فلا تهربوا إلي.. مشكلتكم ليست من اختصاصي. اهربوا حالاً إلى طبيب العيون.. أنتم بحاجة إلى نظارات بعرض المغني بافاروتي وبطول الرئيس عبده ضيوف.
الواقع زنزانة موصدة مكتظة بالدخان الأسود، وكل ما فعلته هو أنني وصفت هذا الواقع، ودعوت إلى الخروج منه، فما ذنبي إذا كان الوصف يزعج اختناقكم؟ وما حيلتي إذا أمسيتم ــ لفرط التسمم ــ تعتقدون أن الدخان هو جزء من مسامات أجسامكم؟!
هاك قطرة واحدة من طوفان الواقع الأرحم: فتى هارب من الجيش، يحكم عليه بالإعدام، يفرض على أبيه أن يطلق عليه الرصاص، وأن يدفع ثمن الرصاصات، وأن يقيم حفلة بدل المأتم، وأن يرفع صوت آلة التسجيل بأغنية لأم كلثوم بدلاً من القرآن، ثواباً عن روح المرحوم.
> هل تظن أن أحداً، على مر التاريخ، حظي برؤية شيء كهذا في أسوأ الكوابيس؟ الشيطان نفسه، مهما بالغ في حك قرنيه، لا يمكنه أن يوسوس بمثل هذا الواقع الرحيم. فكيف يمكنني، أنا الإنسان الضعيف، أن أوسوس بواقع أسوأ منه ؟
< إن من يريد الهروب حقاً، من هذا الواقع، ليس أمامه إلا كسر الباب مهما كانت العواقب.. ولا توجد طريقة أخرى إلا أن يهرب المرء دون أن يتحرك. والشخص الوحيد الذي يمكنه ذلك هو الحشاش. أما من يجد السجن أهون من القراءة لي، فهو واحد من اثنين: أما أنه لا يعرف السجن، أو أنه لا يعرف القراءة!!
> يقول قاسم حداد: «نترك النسيان يأخذنا على مهل.. لئلا نفقد السلوى» أما أنت فتنسى النسيان، وتحب العيش في عالم كوارثي كئيب، حتى وأنت في لندن لم ترقق أوروبا مفرداتك، ولم تجمل قصائدك بخد ناعم، وقوام فارع، وصدر مغرور.. أخبرنا بالله عليك.. إلى متى هذه الكآبة ؟
< أما النسيان، على الإطلاق، فقد تركته لأهل الحداثة، إنهم يحتاجون إلى كثير منه لكي يجعلوا القارئ ينسى الشعر نهائياً. وأما «نسيان» قاسم حداد فأغلب ظني أنه ليس النسيان الذي تعنيه، إذ لا أعتقد أن قاسم حداد ممن ينسون ذاكرتهم. وأما أنني أحب العيش في الكوارث، فهذا غير صحيح.. أنا مرغم على هذا العيش.. إذا كنت تسميه عيشاً. وإذا كانت ثمة علاقة حب فهي من طرف واحد، وهذا الطرف ليس أنا. تقول إن أوروبا لم ترقق مفرداتي.. وأود أن أسألك: كيف ترقق أوروبا مفردات الإنسان؟ تكويها على البخار.. أم تذوبها في «الإينـو»؟
أعرف أن هناك كثيرين ما أن تطأ رؤوسهم حذاء لندن، حتى ينزعوا جلودهم مثل أكياس الرحلات، ويستبدلوا بقلوبهم مكعبات الثلج.. لكن من أنبأك أنني واحد منهم؟
أنا يا صديقي، رجل أحمل قضية أمتي في كل خلية مني.. أنا وطن على هيئة إنسان.. لندن ليست أكبر مني، ومباهجها ليست أكثر من آلامي.
> إذا لم تكن مفرداتي رقيقة، فلأن مشاعري رقيقة.. إن حساسية مشاعري تطلب من الهواء أن يكون أقل صلابة.. فماذا تتوقع مني وأنا أستعرض عشرات الديناصورات المثـقلة بالألقاب؟
< ثم من قال لك إن الجمال لبس كعبه العالي ومضى ليستقر إلى الأبد على أرصفة «الماي فير»؟ أليس جميلاً عنفوان الخيول البرية وهي تقتحم كبرياء الريح؟ أليس جميلاً ضرام التنور وهو يحتضن كف الجائع برغيف ساخن؟ أليس جميلاً حد المقصلة وهو يقطع رأس الجلاد؟
إن النعل العتيق يبدو أجمل من الوردة، عندما يصفع وجه الطاغية الجبار.. جمال المفردة لا تحمله المفردة.. جمالها يقرره موضعها في سياق الجملة.. وقصائدي الطيبة لا تطلب أطناناً من المساحيق.. إنها لا تتكلف.. وجهها الطبيعي على بساطته أجمل. هي تعرف تحمير الخد، ومشق القامة، وشد الصدر، لكنها تعرف، أيضاً، شيئاً آخر له مفعول السحر، ما إن يمس الكلمة حتى يذوب الجمال على قدميها غراماً. هذا الشيء اسمه «الصدق»، وهو شيء من دونه يصبح الجمال قبيحاً.
أتعرف لماذا لا يستعمله الكثيرون على رغم علمهم بروعة مفعوله؟ إنه مرتفع التكاليف جداً.. وعلى من يريد اقتناءه أن يكون مستعداً لدفع آخر قطرة من دمه. إعلم، إذن، أن كآبتي هي جزء من هذه التكاليف.. وعليه فلا تسألني إلى متى هذه الكآبة.. وجه سؤالك إلى منظمة الدول المصدرة للضغط.
> كدت تشكل مدرسة شعر خاصة بك، ولكنك أنهيت نفسك بالتكرار.. ومن ثم الغياب التام.. «لافتات» تدور حول المعنى ذاته.. ولو اكتفيت بأول إصدارين، لكان ذلك كافياً بالنسبة إلى القارئ. إنك تقدم «حقنـاً» متماثلة ومتطابقة.. حتى أصبحت لدينا مناعة مما تكتب وعما تكتب.. متى تغير أو تتغير؟
< على رسلك.. أنتم لستم فايروسات زكام لكي تكتسبوا مناعة من «الحقن»... اسمع.. إنني عندما شرعت في الكتابة، لم أضع في ذهني أية خطة لإنشاء مدرسة في الشعر.. ولا حتى «حضانة». كانت عندي صرخة أردت أن أطلقها، وكلمة حق أردت أن أغرزها في خاصرة الباطل.. وقد فعلت. قال النقاد والباحثون الجامعيون إن شعري «قد» شكل مدرسة، وأنت تقول إنه «كاد» يشكل، وأنا في كل الأحوال لا يسعدني حرف التحقيق، ولا يحزنني فعل المقاربة.. ثلاثة أشياء، فقط، كانت تلح علي في هذا السبيل: هي أن ألتزم قضية الإنسان.. أي إنسان، بعيداً عن مكاسب القبيلة، وبمنأى عن حول الآيديولوجيا. وأن يكون التزامي الفني موازياً تماماً لالتزامي الإنساني. وأن أسعى من خلال هذا إلى تأكيد سماتي الخاصة، بحيث تكون لحبري رائحة دمي، ولكلماتي بصمات أصابعي. وأعتقد أنني قد حققت هذه الأشياء. وباستطاعتي القول، مطمئناً، إنك إذا عرضت قصيدتي على قارئي، فلن تحتاج إلى وضع اسمي عليها، لكي يعرف أنها قصيدتي.
لا تقل لي «أنهيت نفسك». إنني حاضر، حتى في أقصى حالات غيابي، وإلا فما الذي دعاك إلى محاورتي؟.. ثم إنني لا أعرف عن أي تكرار تتحدث؟ هل هو تكرار الدوران حول القضية الأساسية التي آمنت بها، أم هو تكرار المعاني الجزئية فيها والصياغات، وزوايا النظر، وأشكال الصور؟ الأرض تكرر دورتها حول الشمس كل يوم، لكنها لا تكرر نفسها حتى في لحظتين متتاليتين. هناك في كل لحظة مسقط ضوء على صورة. الشعر العربي يكرر موضوع الحب منذ الجاهلية.. والقضية برمتها هي عبارة عن رجل يعشق امرأة، وامرأة تحب رجلاً.. هل تستطيع القول إن الموضوع قد اختلف عن هذا يوماً ما؟ لكن هذا الموضوع لم ينته بالتكرار، لأن هناك دائماً زاوية جديدة للنظر، ونبرة جديدة للبوح، وثوباً جديداً للمعنى. ولو كان الأمر كما تقول، فما حاجتي إلى الاكتفاء بأول إصدارين ليكتفي القارئ؟ لماذا لم أكتف بأول إصدار فقط؟ أو لماذا لم أكتف بأول قصيدة؟ أصدرت ست مجموعات، والسابعة في الطريق، وبرغم ذلك فإن القارئ لا يبدو مكتفياً.
قل رأيك كيفما كان.. هو حقك الذي قامت الشرائع كلها من أجل صيانته. لكن أرجوك.. لا تتكلم باسم قارئي. خذ حقك، ودع لقارئي حقه.. قارئي هو حبيبي وسندي وقرة عيني.. هو خط دفاعي الأول والأخير، والسد العالي الذي يعصمني من الطوفان. وإنني إلى هذا السد المنيع أُسند ظهري باطمئنان.
تسألني متى أغير أو أتغير؟ وأجيبك: إنني أغير يومياً، فكل قارئ جديد يعني أنني تقدمت خطوة في طريق التغيير.. أما أن أتغير، فهذا ما أعاهدك على أنه لن يتحقق إلا بموتي.الانتباهة