نبيل غالي

قام بثني الصفحة.. وصعد


*مضى على غيابه 25 عاماً، لا أدري لماذا تذكرته الآن؟!

*أيها المترع بالطفولة كنت أغبط نفسي على معرفتي بك في هذه العاصمة..

*التي غمست وجهها في أدوات التجميل!

*أن ألتقيك وأنت تهوم كفراشة، كانت تلك من لحظات السعادة النادرة.

*ولكن يبدو أنني كنت موعوداً بالفرج الموءود!

*عبر سكون المكتب انطلقت الكلمات من فم الزائر في ذاك النهار الملتهب.

*(حسن المنصور توفي في حادث حركة).

*لحظتها كنت أعتقد أن حاسة السمع لدي قد ضعفت وأن الاسم المذكور ليس له أي علاقة بك.

*ولكنني تأكدت بعدها أنك قد رحلت بالفعل، وتلك كانت لحظة زلزلة..

*من الذي احتضر، أنت أم العصر الذي كنت تعيش فيه؟

*لقد افترس الموت طموحاتك الأخيرة ولم يتركك حتى لتمشي فيها خطوة واحدة.

*كانت الهجرة من هذا الوطن هي الأفق الذي تطلعت إليه بحثاً عن نشيد إنساني لا تضيق فيه سبل العيش.

*وكم كنت أردد لك هذا البيت من شعر الزهاوي: (إنا غريبان ها هنا وكل غريب للغريب نسيب)!

*بالرغم من رحيلك.. كنت أفتش عن وجهك بين الوجوه التي كانت تقف بالمحطة الوسطى بأم درمان كل صباح.. ألم يقل جان كوكتو: “إن الشعراء يتظاهرون بالموت فقط!”؟

* أبحث عن ملامحك وابتسامتك وانطلاق ضحكتك في حبور وأنت تشاهدني في محاولة لتسلق عتبة باب بص وأفشل في الوصول حتى العتبة الأولى..

*وتقنعني بأن ننسحب بهدوء من هذا الهدير البشري إلى تلك (القهوة) لنرتشف كوبين من الشاي..

*على كرسيين وحيدين فقدا أرجلهما الأمامية من ثم كان الكرسيان يتوكآن علينا!!

*يربت على كتفي، وهو يقول: “إن ما نقرأه من شعر بالصحف والمجلات لدينا يشبه حال هذه الكراسي!!”.

*وأنتظرك لعلك تخرج فجأة من بين هذه الجموع المنتظرة (المواصلات) متشحاً بضحكتك..

*وأصرِّح لمن يعرفونك بأن رحيلك عنا ما هو إلا إجازة مؤقتة ولكن..

*لم تكن عتبة ذاك البص وحدها هي التي لم أستطع تجاوزها وإنما عتبة ذلك المقهى أيضاً التي أضحت في غيابك جبلاً شاهقاً!

*أعترف أنني لم أعايشك بالقدر الكافي الذي أستطيع فيه الحديث بعد نهايتك الفاجعة..

*ولكن حسبي تلك الأوقات التي اصطفيتني فيها مرافقاً.. ولم تضرب فيها قبة لتستقر..

*كم هو متسع هذا الوطن ولكن كبرياءك كان أكثر اتساعاً..

*أن تؤاخي بين النبض والدم ذلك كان ديدنك..

*ولم تستطع (القُرحة) أن تقف حائلاً أمام معانقتك للأمسيات الشعرية.. راجلاً تأتيها وراجلاً تؤوب منها!!

*كنت مثل ذاك الرجل الذي حكم عليه بالإعدام بالشنق في عهد الثورة الفرنسية..

*وكان يقرأ كتاباً عن سوفوكليس.. وكانت ينتظر دوره..

*وعندما حان دوره ليصعد فوق منصة الإعدام..

*قام بثني الصفحة التي كان يقرأ فيها وصعد..

*وكأنه سوف يستمر في القراءة !!