صلاح الدين مصطفى : الرئة الوحيدة للعاصمة السودانية الخرطوم: «غابة السنط» هبة الطبيعة البكر وملتقى طيور قارات العالم
ترتفع درجة حرارة الصيف في العاصمة السودانية الخرطوم وتصل لأكثر من 45 درجة، ويلجأ الناس إلى غابة السنط التي تقع على الضفة الشرقية للنيل الأبيض بالقرب من ملتقى النيلين في مساحة تقدر بحوالي 1500هكتار «الهكتار وحدة مساحة تساوي 10،000 متر مربع».
لا تعتبر الغابة مجرد منطقة ترفيهية فقط، فهي تحمل تاريخا طويلا بأشجارها الضخمة، وتعاقب عليها أجيال من السودانيين لفترة تزيد عن المئة عام، وهي تمثل بذلك ذاكرة جمعية للوجدان السوداني بما استضافته من مناسبات سعيدة وجلسات أنس أسرية ولقاءات لروابط طلاب الجامعات والقبائل والمناطق السودانية المختلفة.
السنط في الثقافة السودانية
تشكل شجرة السنط بُعدا مهما في الثقافة السودانية، خاصة عندما يصنع من أخشابها (باب) يسمى باب السنط. وقد خلد العديد من الكتاب والشعراء هذا الباب في كتاباتهم السردية وقصائدهم الشعرية، وهو يدل على الأصالة والعراقة، إضافة لمتانته وجودته وأبعاده الجمالية.
وتمثل الغابة أعرق وأكبر منطقة طبيعية في ولاية الخرطوم. تم ضمها في العام 1939 إلى منظومة المحميات الطبيعية، وهي عبارة عن نطاق تقليدي حيوي طبيعي. تتكون معظم أشجارها من السنط الذي يتميز بمقاومته العالية لمياه الفيضانات التي تغمر الغابة في الفترة من تموز/ يوليو وحتى أيلول/ سبتمبر بالإضافة إلى بعض الأعشاب والحشائش التي تنمو في أجزاء متفرقة من الغابة.
خصوصية نادرة
ويقول معتصم بشير نمر، رئيس الجمعية السودانية لحماية البيئة، إن منطقة المقرن في الخرطوم تتميز بخصوصية نادرة، إذ يلتقي فيها النيلان (الأبيض والأزرق) وهما قادمان من المناطق الاستوائية والهضبة الأثيوبية، وعلى مستوى معايير اليونسكو فإن هذا الموقع يكتسب صفة العالمية.
ويرى بشير أن هذه الخصوصية جعلت جمعية حماية البيئة السودانية تولي هذا الموقع اهتماما كبيرا، الأمر الذي جعلها تتبنى اتجاها عاما يقضي بجعل المنطقة كلها مكشوفة ومفتوحة على النيل لتكون متنزها حضريا خاصة أن الخرطوم أصبحت مليئة بالكتل الاسمنتية، ويحتاج الإنسان الساكن فيها لمناطق طبيعية بكر تنعش وجدانه.
ويقول، إن هذه المقومات أدت لحجز الغابة الوحيدة الموجودة في المنطقة منذ ثلاثينات القرن الماضي، مضيفا أن المنطقة الممتدة من كوبري النيل الأبيض وحتى مدينة الشجرة جنوبي الخرطوم، تم حجزها بواسطة قانون الحياة البرية لتصبح حرما للطيور وتبرز أهميتها في كونها تقع ضمن ما تصنف عالميا بأنها أراض رطبة.
الطيور المهاجرة
ويضف أهمية أخرى للمنطقة التي تشكل نقطة مهمة تأوي إليها مجموعة كبيرة من الطيور المهاجرة (عابرة القارات) وهي في طريقها من وإلى آسيا وأوروبا وبعض بلدان أفريقيا. وتوجد فيها الطيور المستوطنة في مناطق السافانا الفقيرة وتعتبر بذلك حقلا دراسيا للعلماء وطلاب الجامعات والمهتمين بقضايا البيئة، وتشكل حلقة مهمة في التوازن البيئي في المنطقة وتساعد في تلطيف الجو وامتصاص الغازات والسموم التي تفرزها السيارات والمصانع.
أهمية بيئية
وبحسب الهيئة القومية للغابات فإنها تعتمد الطاقة الشمسية، وتسمح بمرور القليل من التدفق لتوفر حماية الغطاء الأرضي والكائنات الدقيقة المتواجدة فيه. ولا تقتصر على كونها غطاء شاسعا أخضر لكن لها دورا اقتصاديا وصناعيا بل واستجماميا أيضاً، كما أنها تمنع تدهور التربة وتآكلها، وتساهم كمصدر متجدد للطاقة والمواد الخام، وأوضحت دراسات علمية أن كيلو مترا مربعا واحدا من الغابة يطلق في اليوم الواحد حوالي عشرة أطنان من الأوكسجين.
وتحد الغابات من ظاهرة الاحترار العالمي أو ما يعرف بالاحتباس الحراري – المعروف بازدياد درجة الحرارة السطحية المتوسطة في العالم مع زيادة كمية ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وبعض الغازات الأخرى في الجو. وإضافة لما سبق فإن الغابات تحمي ينابيع المياه، وتحافظ على استقرار الجبال، وتقوم بدور حيوي كبير في امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون والغازات الضارة الأخرى من الجو وإطلاق الأوكسجين النقي، وفلترة الهواء وترسيب الغبار والأجزاء المعلقة الضارة، حيث اتضح أن هكتارا واحدا من الغابة قادر على ترسيب تسعة أطنان من الغبار مما يؤدي إلى خفض نسبة الغبار بحوالي 30 – 40٪ في جو الغابة. ويعود ذلك إلى كبر مساحة المسطح الورقي الذي يتراوح بين 50 – 150 ألف متر مربع/هكتار، كما أنها تعتبر بيئة وموطناً طبيعياً للحيوان والنبات حيث تضم حوالي 2/3 من كائنات الكرة الأرضية، لذلك فهي تساعد على حماية التنوع البيولوجي من الانقراض.
الجانب الترفيهي
الجانب الترفيهي لغابة السنط لا يخفى على أحد، فهي مكان جيد للرحلات وقضاء أيام العطلات والأعياد، حيث تتميز بإطلالة مباشرة على النيل الأبيض في جانبها الغربي، وتتكون من أشجار غزيرة ومتشابكة وأرضية تغطيها الظلال وتصدح الطيور في الأشجار مضيفة أجواء رائعة.
وتشكل الغابة متنفسا ورئة طبيعية لكل سكان العاصمة وامتداداتها، والذي يعبر كوبري النيل الأبيض (الجديد) يلاحظ الحركة الدؤوبة إلى منطقة الغابة عبر السيارات الخاصة والعامة، خاصة في أيام الجمع والعطلات والمناسبة مثل احتفالات رأس السنة وعيد الاستقلال، حيث تتميز هذه المنطقة، إضافة لجمال الطبيعة، بعدم تكلفة الترفيه فيها مقارنة بمناطق الخطرم الأخرى، حيث لا تحتاج لرسوم لدخولها.
إعادة تطوير الغابة
مدير غابات السودان السابق، أوضح في منتدى أقامته الجمعية السودانية لحماية المستهلك في وقت سابق، أن الغابة بوضها الحالي محدودة الاستخدام باعتبار أن المياه تغمرها لمدة سته اشهر، وأبان أن المساحة المستخدمة تمثل 4٪ من مساحة الغابة البالغة 400 فدان. وكشف انه خلال الثلاثين سنة الماضية نفذت الهيئة حوالي 18 منشطا لإعادة تطويرها، آخرها الاتفاق مع شركة السنط ليكون ثلثي الغابة حضرية وثلث لاقامة ملعب (غولف)، وذكر أن الاتفاق لم يتم.
ويقول معتصم بشير نمر، رئيس الجمعية السودانية لحماية البيئة، إن التوسع العمراني يشكل خطرا كبيرا على الغابة، مشيرا إلى محاولات عديدة لإدخال تنمية عمرانية في المنطقة المحيطة بها وهنالك دعوة لإقامة بنايات تجارية ضخمة، مؤكدا أن الجمعية ظلت تقاوم هذه النزعات والاتجاهات ورفضت إقامة مثل هذا النوع من المشاريع باعتباره تغولا يهدد البيئة الطبيعية. وأضاف أن المصلحة العامة وحق الأجيال المقبلة في الطبيعة يجعلنا نرفض قيام أي مشروع يؤثر على القيمة البيئية لهذه المنطقة.
وطالب مختصون بيئيون بإيجاد ضمانات قوية على المستوى السياسي لتأمين غابة السنط حتى لا تتعرض لتغير مسارها وهويتها الطبيعية مع ضرورة البحث عن مصادر تمويل خارجية لتهيئة الغابة لتصبح مكانا سياحيا بالمواصفات العالمية. ودعا آخرون منظمات المجتمع المدني للضغط على الحكومة بغرض المحافظة عليها، ونظافتها وحمايتها من بعض التفلتات الأمنية، خاصة في المناطق الموغلة فيها والتي أصبحت في بعض الأوقات أوكارا للجريمة.
ومنذ عام 1990 أصبحت الغابة واحدة من أهم الأنشطة السياحية التي تهدف لتحقيق التنمية المستدامة بالنسبة لولاية الخرطوم، وطالب ناشطون إبعاد الغابة من ضغط السياحة الجماهيرية التي ساهمت في العديد من أقطار العالم في تدمير البيئة الطبيعية، وذلك بابتداع أساليب ومفاهيم سياحية جيدة تتناسب واحتياجات الإنسان في الوقت الراهن، ويتم ذلك من خلال الاهتمام بغابة السنط وتوظيفها لخدمة السياحة البيئية وتنمية وتنوع النشاط السياحي في الولاية وتكون هذه التنمية بالمحافظة على المخزون الطبيعي الذي حظيت به وتنظيم الرحلات بحيث لا تؤثر سلباً على المحيط الحيوي للغابة.
خدوش على الوجه الجميل
ويقول معتصم نمر، إنه ورغم كل المقومات التي تم ذكرها فإن غابة السنط في ولاية الخرطوم لا تزال مهملة بشكل كبير ومكبا للنفايات في بعض أجزائها وتحتاج لتأهيل بمعايير دقيقة، ويضيف إن العديد من منظمات المجتمع المدني وضعت خططا ومشاريع لتأهيل الغابة وتطويرها وكذلك مجلس البيئة والتنمية الحضرية، والمجلس الأعلى للبيئة «الاتحادي» الذي قام بدراسة مهمة جدا حول إعتماد غابة السنط ضمن الأراضي الرطبة في العالم.
والأراضي الرطبة هي أماكن من اليابسة مغطاة بمياه ضحلة، كالجيوب المائية، وحواف الأنهار والبحيرات، وكذلك فقد تكون أراضٍ منخفضة تتعرض للانغمار بالماء بشكل متكرر. والأراضي المبللة تعج بأنواع الكائنات الحية المختلفة مثل الحيوانات والنباتات الميكروسكوبية والأسماك والطيور والحيوانات البرمائية والثدييات.
وتوفر الأراضي الرطبة الغذاء والمأوى والأمن لأعداد هائلة من الطيور المهاجرة والمقيمة والعابرة ولكنها تتعرض للكثير من المشاكل منها عمليات التجفيف لتحويلها إلى أراض زراعية، أو لإقامة مناطق سكنية أو طرق سريعة أو تنزح مياه البحيرات لاستخدامها في ري الأراضي الجافة وتوليد الكهرباء بجانب استخدامها مكانا للصرف الصحي وإلقاء الملوثات فتتعرض للتلوث وتصبح غير صالحة لمعيشة الكائن الحي، وهو ما عانت منه غابة السنط لفترات طويلة.
هواجس ومعارك إعلامية
وبين تطوير الغابة والتغول عليها تدور هواجس كثيرة وتبدأ معارك إعلامية وإن كانت خفية أو مؤجلة إلى حين، وتحاول حكومة ولاية الخرطوم تطمين المواطنين والناشطين بحرصها على حماية الغابة وفي آخر اجتماع لمشروع تطوير الشاطئ الشرقي للنيل الأبيض، ضمن مشروع الملتقى للتنمية العمرانية المملوك لولاية الخرطوم وشركاء من القطاع الخاص، ناقش الاجتماع وسائل المحافظة على غابة السنط وتطويرها كمحمية طبيعية مجاورة للمشروع، وتطرق الاجتماع للعديد من الدراسات البيئية والهيدرولوجية والمساحية التي أجريت للمشروع من قبل الاستشاري الماليزي والاستشاري البريطاني الذي أجرى دراسة الحماية النهرية.
ويقع المشروع شرق وجنوب غابة السنط في مساحة كبيرة ويضم منشآت تجارية، وخدمية، وسياحية، وسكنية ومساحات خضراء تطل مباشرة على النيل، ورغم التأكيد على أن هذا المشروع يعتبر ضمن مشاريع البيئة الخضراء التي أوصى بها المخطط الهيكلي العمراني لولاية الخرطوم، فإن كثيرا من الناشطين ومنظمات المجتمع المدني التي تعمل في مجال حماية البيئة تتخوف من أن يؤثر على طبيعة المنطقة بما فيها غابة السنط.
وفي الجانب الآخر ظل المجلس الأعلى للبيئة والترقية الحضرية والريفية في ولاية الخرطوم يقيم العديد من المنتديات بالتعاون مع وزارات الزراعة والغابات واتحادات الطلاب في الجامعات والشباب والمرأة وكيانات المجتمع المدني وذلك في مجال نشر وترسيخ الوعي البيئي في المجتمع السوداني، كما أكد ممثلو المجلس التشريعي في ولاية الخرطوم استعدادهم لدعم كل المشاريع التي تهتم بالبيئة ومن بينها مشروع غابة السنط.
وتنال غابة السنط اهتماما إعلاميا كبيرا لوجودها في منطقة مقرن النيلين في العاصمة، ويعد تصنيف الغابات السودانية والاهتمام بها ضاربا في القدم حيث كان أول تصنيف للغطاء الطبيعي في السودان في القرن التاسع عشر وقد وضعه عالم النبات الالماني شفاينفورث عام 1868.
ويظل التحدي الماثل هو الاحتفاظ بها محمية طبيعية وتطويرها، ويقول رئيس جمعية حماية البيئة، إن جعل الغابة محتفظة بتقاليدها الطبيعية والقيام بتحديثها في جوانب أخرى لتصبح مواكبة للعصر، معادلة صعبة تحتاج لجهود جبارة من جهات عديدة وفي مقدمتها الجمعية السودانية لحماية البيئة..