مصطفى عثمان إسماعيل : “الترابي” ما بين تأييد محبيه وانتقاد معارضيه
دكتور “الترابي” الذي عرفته
“الترابي” ما بين تأييد محبيه وانتقاد معارضيه
الدكتور “حسن الترابي” شخصية شغلت الأوساط السياسية والأكاديمية والعقائدية ردهاً من الزمن، فكانت محوراً للجدل ما بين مؤيد ومخالف، وما بين كل موقف وآخر وفئة وأخرى مساحات كبيرة من التدارس والمدح والقدح وما بين التأييد والانضمام وبين الإقصاء والاتهام، وقد بدأ الأمر منذ بزوغ شمس “الترابي” في بداية الخمسينيات إلى حين رحيله في الأيام القريبة الماضية.
التقدمية والحداثة التي تبناها “الترابي” في فكره السياسي وكتاباته الدينية وتبحره الجريء في أصول الدين وفروعه وخوضه المباشر في المَسَكوت عنه من قضايا الحكم والتشريع والإدارة وجدليات الشورى والخلافة وهيكلية البناء سواء بناء المجتمع أو بناء الفرد المسلم، كل ذلك كان محل نظر وتمحيص، فالكل ينتظر الإنتاج الفكري للدكتور “الترابي” بلهفة سواء مؤلفاته أو ندواته وحتى حديثه لوسائل الإعلام، وقد كان للمرأة نصيب كبير كما أسلفنا في كتابات سابقة. الفكر التجديدي الذي تبناه “الترابي” لم يرُق للكثير من الناشطين في الحقول التي ينشط فيها كالسياسة والحقل الأكاديمي والحقل القانوني والحقل الديني والفكري، لم يحبس “الترابي” نفسه في قالب واحد، وإنما كان متنوع المعارف عميق التناول شجاعاً في طرحه وتناوله جيد الاستماع، وعظيماً في استخلاص الرؤى وتلخيصها، متبحراً في علوم القانون والشريعة والقوانين الوضعية، ذا مقدرة عالية في المقارنة والتجسير بين الفقه والقانون والتشريع.
رغم أن المشروع الفكري لـ”الترابي” يقوم على فكرة محورية أساسها تجديد الدين، وهو التجديد القائم على فهم الواقع والتغيرات والتجارب الإنسانية والتوفيق بين الثابت المطلق والمتغير النسبي، وهي نفس المنطقيات التي اتخذتها الحركات الإسلامية عنواناً لمشروعاتها الفكرية… فإن الأفكار والآراء التي قدَّمها “الترابي” تحت نفس العناوين جاءت في معظمها مختلفة بخصوصية تحسب له لكل ما شاع واستقر في أوساط هذه الحركات، بل ولدى المؤسسات الدينية الرسمية أيضاً.
هذه الصورة التي رسمها “الترابي” عن نمط حياته حرَّكت الكثير من الأقلام ما بين مُحب وكاره ومُنتقد وناقد وما بين إعجاب وانبهار، فلا شك أن للرجل ذخيرة علمية مهولة ومتنوعة، فهو قارئ جيد كمّاً وكيفاً في مجالات القانون والفقه والتشريع، بالإضافة إلى اللغات التي يجيدها وهي أربع لغات حية، وهي العربية وهي لغته الأم واللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
استطاع الشيخ “حسن الترابي” أن يبني قاعدة جماهيرية مَهولة من الأتباع والمحبين داخل وخارج السودان، لم تبدأ شعبية “الترابي” عقب وصول الحركة الإسلامية للسلطة كما يشيع البعض، بل قبل ذلك بكثير، لكن محاضراته الشهيرة في جامعة الخرطوم والتي كانت بمثابة الشرارة لثورة أكتوبر والتي حاول التيار الاشتراكي نسبها إليه، كانت هي نقطة الانطلاقة الحقيقية للدكتور “الترابي” والتحليق في سماوات الفكر والسياسة وسط حفاوة واحتفاء من صفوة المجتمع من طلاب الجامعات والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات، أفلح “الترابي” في فترة وجيزة من اجتذاب أكبر قدر من الأتباع والمؤيدين، وكانت أية كلمة تصدر منه في أي موضوع أو مناسبة بمثابة القرار واجب التنفيذ، كما تحظى أفكاره بالاحترام ولا أقول القداسة لدى أتباعه وتلاميذه، وقد خلق من هؤلاء الأتباع قاعدة قوية لبناء دولة حديثة بمشروع إسلامي طموح، وقد كانت البداية قوية ومبشرة، وكانت محط الأنظار مما تسبب في قلق كبير لمحيطه العربي والأفريقي، فحصل التململ في دول الجوار مثل (مصر وأثيوبيا وليبيا وتشاد ويوغندا)، لتبدأ مرحلة جديدة من الاستنزاف والتعطيل للمشروع الإسلامي السوداني، والقارئ الكريم يعلم الحيثيات والأساليب والمحاولات التي اُتُبِعت لإيقاف هذا المشروع الطموح.
المنتقدون يشنون هجوماً عنيفاً على فكرة التجديد ويرون فيه محاولة من الشيخ “الترابي” لطمس الملامح الأساسية لأصول الفقه الإسلامي والإتيان بفقه جديد نابع من اجتهادات “الترابي” وآرائه ورؤاه ومن أقوالهم: الترابي لا يتردد في كتابة “تجديد الفكر الإسلامي” عن الهجوم على الفكر الإسلامي ووسْمه بالإغراق في التجريدية، والخروج من التاريخ، والانفصال عن الواقع، ويعتبر أن هذا الفكر “القديم” كان استجابة لعصور مضت لم تعد موجودة الآن؛ ومن ثم فهو بحاجة إلى تجديد شامل يتجاوز الشكليات والمظاهر التي افتتن بها كثير من المفكرين الإسلاميين والمعاصرين؛ الذين لا يتردد “الترابي” في الهجوم عليهم، ووصفهم بالقصور وضعف القدرة على التنظير والتفكير؛ مثلهم مثل بعض منظري الحركات الإسلامية التي يطولها اتهام الترابي بالجمود والقصور الفكري، كما أن بعض قادتها – في رأيه – أهل ثقافة وإدارة وسياسة أكثر منهم أهل علم وفكر وتأمُّل.
لكن خلافهم معه لا يعدو خلافاً علمياً فكرياً، حتى مُنتقديه يكِنون له احتراماً عميقاً ويعترفون له بتميزه وأثره الكبير على الساحة السياسية والإقليمية، بل والدولية فقد كان نشاطه السياسي في السودان محل اهتمام دولي، وكان مجرد ذكر اسمه يثير الانتباه في الدوائر الغربية، ويعتبره الغرب من أخطر المفكرين الإسلاميين التقدميين لما يعلمون عنه من كاريزما قيادية كبيرة وتأثير كبير على محيطه العربي والإقليمي، بالإضافة إلى غزارة علمه وتميزه الأكاديمي الذي يعلمونه عنه، وهو الذي تعلم في بلادهم وتميز على أقرانه من أبناء الشرق والغرب، وأخطر ما أزعج الغرب الالتفاف الكبير الذي حُظي به “الترابي” داخل السودان ومقدرته الاتصالية الفعالة والتنظيم المدهش في فتح قنوات الاتصال مع الجماعات الإسلامية في “تركيا ومصر وتونس والجزائر واليمن وإيران والصومال وفلسطين والشيشان” وغيرها من الدول الإسلامية.
لا أريد أن أسترسل كثيراً في الكتابة عن مؤيدي “الترابي” ومواقفهم من أفكاره وأطروحاته واجتهاداته، فهذا أمرٌ تعرّضت له في كتاباتي السابقة، كما تعرض له آخرون وقد أتعرض له مستقبلاً، ولكني أريد أن أستعرض نماذج من منتقدي “الترابي” خاصة أولئك الذين اشتطوا في نقدهم له، وسأتجاوز النقد الموجه لبرنامجه وسلوكه السياسي، باعتبار أن العمل السياسي فيه فسحة للاجتهاد والاختلاف خاصة عندما لا توجد ثوابت ومرجعيات يستند إليها.
وكما ذكرنا سابقاً، فالتراث الديني عند “الترابي” فيما بعد التنزيل (أي القرآن والسنة) كله من كسب المسلمين، ولابد حسب رأي “الترابي” أن يتطور مع الأزمان تبعاً لاختلاف البيئات الثقافية والاجتماعية والمادية.
يقول السيد “عشري أغا” في مؤلفه عن “الترابي”: تتجاوز آراء “الترابي” في قضية السنة النبوية في كثير من جوانبها التصور الأصولي السلفي المعاصر، فهو لا يعترف بخبر الآحاد كحجة في الأحكام، ويفُرق بين الملزم وغير الملزم من أوامر النبي ونواهيه، ولا يعطيها كلها حد الإلزام، ويُفرق بين ما ورد عن النبي “صلى الله عليه وسلم” كرسول ومشرع، وبين ما ورد عنه “صلى الله عليه وسلم” كبشر لا يلزمنا بشيء، ويطالب بإعادة النظر جملة مع علوم الحديث، ويدعو إلى إعادة صياغتها بعد تنقيح مناهج الجرح والتعديل ومعايير التصحيح والتضعيف، ومن بين ما يقترحه في هذا الصدد إعادة تعريف مفهوم الصحابة، وعدم الاعتراف بقاعدة أساسية عند المحدثين تنص على أن كل الصحابة عدول، وهو ما أثار ثائرة السلفيين حتى اعتبره البعض من منكري السنة النبوية، بل وصل بأحد الكتاب وهو من قيادات الأخوان بالسودان أن يؤلف كتاباً أسماه (الصارم المسلول في الرد على الترابي شاتم الرسول).