عائشة سلطان : الخيط الرفيع جداً
سأكون قد غادرت دبي باكراً هذا الصباح، بينما بعضكم يفتح الصحيفة ويقرأ المقال، لم أنس قبل أن أحزم حقيبتي، تلك الأسئلة حول الشك والثقة وما بينهما، والتي قفزت ببال أكثر من قارئ حول مقال الأمس، وهم يناقشونني بالأمس، حضر إلى ذهني فجأة فيلم »الخيط الرفيع« لفاتن حمامة، وسألت نفسي عن حقيقة الخيط الرفيع، أو الخط الفاصل بين كل المفاهيم والقناعات وكليات الإيمان التي تربينا عليها وحكمت حياتنا.
ما الخيط الفاصل بين الثقة والغرور مثلاً، بين الحب والصداقة، بين التعاطف والاستغلال، بين الكرم والتبذير، بين المجاملة والنفاق، بين التدين والتطرف، بين الحذر من الآخر وشيطنته وبين الحرص على من نحب وحرصنا على حمايته بشكل يصادر قدرته على صنع واتخاذ القرار، بين احترام الذات وبين الرغبة في حنان الآخرين، بين التربية بالحب والحب المشروط كوسيلة تربية؟
كيف نوفر الحماية والأمان ونعبر الشك والسذاجة والاستلاب والمراهقة الفكرية، إلى الثقة والقوة وصلابة المواقف والنضج الفردي ومواجهة الاستلاب العاطفي في مواقف كثيرة؟
لا يمكننا تجاهل التربية وصناعة التراكم وفائض الخبرة الحياتية بطريق التجربة والخطأ، لقد عبرت المجتمعات الإنسانية الكبرى طرقاً دامية وصعبة، لتصل إلى أقصى رقيها وتحضرها، ليس بالصراخ أو الوصاية أو الغوغائية بل بالتعلم والمكاشفة والمضي للأمام.
إن إعلاء منظومة القيم والإحساس بالمسؤولية أمران لا يمكن إغفالهما، وكذلك تربية الذوق والذائقة، والاتفاق على مبدأ حرية الاختيار والقرار، فإن لم يعلمنا أهلنا وكتب المدرسة والمعلمون كل ذلك، وإن لم ينقلوا لنا خبراتهم وتجاربهم لسبب أو لآخر، لأنهم لا يعرفون ربما، أو لأنهم يخجلون من تواضع تجاربهم، أو لا يمتلكون تجارب يعتدون بها وينقلوها لأولادهم، أو ربما لأنهم تربوا بطريقة معينة ويريدون تطبيقها علينا، فما علينا سوى أن نتعلم على نفقتنا الخاصة ونمر بمحنة التجربة والخطأ، لكن بقلوب وعيون مفتوحة، تماماً كما نفعل حين نريد أن نقوي مهاراتنا في العزف والرياضة والرسم.
لابد من الدخول إلى تنور التجربة، لنميز ونعرف الفرق بين من يحبنا فعلاً ومن يستغل حبنا له ليدوس على النقاط الضعيفة فينا، ولأننا نخاف من أشياء كثيرة بحكم التربية – كما ذكرنا في مقال الأمس – فإن فقد الحب أو ما نتوهمه حباً، وفقد الحبيب أو من نتوهمه حبيباً، يشكل واحدة من علامات الشخصية المهزوزة المستلبة إزاء من يمنحها أمان الحب ولو وهماً، فالوهم هنا أفضل ألف مرة من الفراغ والحياة بلا إنسان يملؤنا بالتقدير وعبارات المديح، كثيرون يقعون بسهولة فريسة الاحتيالات الساذجة التي لا يقبلها عقل طفل، ويتهاون أمام كلمات غرام تسكب في آذانهم أو عبارات تقييم عالية للشهامة والكرم، فتجدهم يدفعون ما لديهم بمنتهى الكرم والسذاجة!
هناك حب مشروط تلقوه في طفولتهم، جعلهم متأرجحين بين الثواب والعقاب، بين التقدير والتوبيخ كل يوم، ما جعلهم يفقدون إحساسهم بالأمان العاطفي، لذلك حين يقدم لهم شخص ما عاطفة غير مشروطة بإنجاز، فإنهم يصدقون ويقعون في المصيدة، ثم يحين وقت الدفع لاحقاً.
البيان