عالمية

كيف استطاعت سنغافورة أن تتحول من قِزمٍ مُقفر إلى مارد اقتصادي عملاق

قبل خمسين عامًا، كانت سنغافورة بلدًا «متخلفًا»، يرزح سكَّانه في فقر مدقع، مع مستويات عالية من البطالة؛ إذ كان يعيش 70% من شعبها في مناطق مزدحمة ضيقة، وبأوضاع غاية في السوء، وكان ثلث شعبها يفترشون الأرض، في أحياء فقيرة، على أطراف المدينة. بلغ معدل البطالة 14%، وكان الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد أقل من 320 دولار أمريكي، وكان نصف السكان من الأميين.

اليوم هي واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد بنسبة لا تصدق؛ إذ وصل إلى 60 ألف دولار أمريكي، مما يجعلها سادس أكبر معدل للناتج المحلي للفرد في العالم، وفقًا لبيانات وكالة الاستخبارات المركزية، مع معدل للبطالة بلغ 2% فقط. وتمتلك سوقًا حرًا على درجة عالية من التطور والنجاح، وهي واحدة من المراكز التجارية الرائدة في العالم، ومقصد رئيس للاستثمارات الأجنبية.

سطرت سنغافورة أكبر قصة نجاح اقتصادي في العالم، وأصبح صعودها الاقتصادي نموذجًا يحتذى به دوليًا، بالنسبة إلى بلد يفتقر إلى الأراضي والموارد الطبيعية، ولكن من خلال تبني سياسات منفتحة على الخارج، وتطبيق «رأسمالية السوق الحرة»، والتعليم، وسياسات واقعية صارمة، استطاعت سنغافورة التغلب على عيوب الجغرافيا، وتصبح رائدة في التجارة العالمية، مع صغر حجمها الذي يبلغ 719 كم2. في الأسطر القادمة نتوغل في التاريخ والجغرافيا؛ لنعرف كيف استطاع هذا البلد أن يحقق هذه المعجزة الاقتصادية.

البداية في الاستقلال

منذ أكثر من مائه سنة، كانت سنغافورة مستعمرة قابعة تحت السيطرة البريطانية، وبعد فشل القوات البريطانية في حماية المستعمرة من اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية، آثار ذلك غضب واستياء شعب المستعمرة السنغافورية، وأجج ذلك المشاعر العدائية للاستعمار، مما أدى بعد ذلك إلى استقلالها.

انفصلت سنغافورة في 31 أغسطس (آب) 1963 عن التاج البريطاني، واندمجت مع ماليزيا؛ لتشكيل «اتحاد ماليزيا» the Federation of Malaysia، ولكن بعدها، ومع من خروج المستعمر الإنجليزي امتلأت سنغافورة بالصراعات الاجتماعية خلال العامين التي كانت فيهما جزءً من الاتحاد الماليزي، وكان الجانبان يتصارعان على استيعاب بعضهما البعض عرقيًا، وامتلأت الشوارع بأعمال الشغب، والعنف؛ بسبب سوء الأحوال المعيشية، ودخلت أعداد كبيرة من الصينين إلى سنغافورة، حتى تفوقوا على الوجود الماليزي بمعدل 3-1؛ مما أدى إلى إنزعاج الساسة الماليزيين في «كولاالمبور» خوفًا على تراثهم ونسيجهم الاجتماعي، وخوفًا من أن تمتلئ ماليزيا بالصينيين. لذلك، وكوسيلة لضمان بقاء الماليزيين أغلبية في ماليزيا، وبدء التخلص التدريجي من التوجهات «الشيوعية»، التي كانت قد بدأت في الانتشار آنذاك؛ فقد صوت البرلمان الماليزي على طرد سنغافورة من اتحاد ماليزيا.
وبالتالي نالت سنغافورة استقلالها الرسمي يوم 9 أغسطس (آب) 1965، وأصبح «يوسف بن إسحاق» أول رئيس لها، و«لي كوان يو» ـ بصلاحيات واسعة ـ رئيسًا للوزراء. بعد الاستقلال تفاقمت المشاكل الاقتصادية، وجزء كبير من السكان بلغ 3 مليون كانوا عاطلين عن العمل، وكان أكثر من ثلثي الشكان يعيشون في الأحياء الفقيرة، والمستوطنات العشوائية، على أطراف المدينة. فضلًا عن وقوع الجزيرة بين دولتين كبيرتين تُكنان مشاعر غير ودية لها، هما: «إندونيسيا وماليزيا». بالإضافة إلى افتقارها إلى الموارد الطبيعية، والصرف الصحي، والبنية التحتية المناسبة، وإمدادات لا تكفي من المياه.

البحث عن الطريق

في سبيل ذلك، ومن أجل تحفيز التنمية، سعى رئيس الوزراء «لي كوان» إلى طلب المساعدة الدولية، ولكن توسلاته لم تتلق أي رد. ترك العالم سنغافورة لتعيل نفسها بنفسها. الآن أدرك السيد«لي» أن النهوض لن يتآتي إلا بالاعتماد على الذات، وبالعمل الجاد، فبدأ في النظر إلى أهم مشكلاته الطارئة، وهي: البطالة المنتشرة بشكل كبير في الدولة، ولكن خلال الحقبة الاستعمارية كان الاقتصاد يتمركز على التجارة الوسيطة، وهذا النشاط الاقتصادي لم يعد يقدم إلا فرصًا ضئيلة للعمل، كما أنه بخروج القوات البريطانية التي كان لها تأثير ملحوظ في الاقتصاد السنغافوري، تفاقمت مشكلة البطالة بشكلٍ أكبر، ما زاد من الضغوط الشعبية لخلق فرص عمل جديدة.

وكان الحل الأكثر جدوى لمشاكل الاقتصاد السنغافوري وللبطالة هو الشروع في تنفيذ برنامج شامل للتصنيع، مع التركيز على الصناعات كثيفة العمالة. ولكن حتى هذه فقد واجهت صعوبات، تمثلت في أنه لم تكن لسنغافورة تراث صناعي من قبل؛ إذ كان الغالبية العظمى من السكان قادريين على العمل في التجارة والخدمات فقط؛ لذلك لم يكن لديهم خبرة أو صفات تمكنهم من المضي قدمًا في مجال التصنيع. علاوة على ذلك، وجود سوق محلي صغير جدًا، وجيران يصعب إقامة علاقات تبادل تجاري معهم.

تحت كل هذه المشاكل والصعوبات اضطرت سنغافورة للبحث عن فرص فيما وراء حدودها؛ لتبدأ في تنفيذ خطتها في التنمية الصناعية. وتأثرًا بقدرة إسرائيل على القفز فوق جيرانها العرب الذين كانوا يقاطعونها آنذاك؛ إذ استطاعت أن تقيم علاقات تجارية مع أوروبا وأمريكا، وبالتالي علم السيد «لي» وزملاؤه أنهم مضطرون إلى التواصل مع العالم المتقدم، وإقناع الشركات المتعددة الجنسيات بالتصنيع في سنغافورة.

البداية

قامت الحكومة السنغافورية بإنشاء «مجلس التنمية الاقتصادية the Economic Development Board»؛ ليتولى هندسة جذب الاستثمارات الأجنبية، ولكن من أجل جذب المستثمرين كان على سنغافورة أن تخلق بيئة آمنة، ومنظمة، وخالية من الفساد، وأن تخفض معدلات الضرائب، وأن تزيل أيه عوائق من النقابات العمالية. ولجعل ذلك ممكنًا كان على مواطني البلد أن يتنازلوا عن جزء من حريتهم لصالح حكومة أكثر استبدادًا؛ لتضبط الفوضى، وتبدأ مسار التنمية الصناعية التي تخطط له.
بدأ السيد «لي» على الفور في عملية التطهير وخلق البيئة الجاذبة للاستثمار، فكان أي شخص يُقبض عليه في تجارة المخدرات مثلًا، أو في واقعة فساد، يعدم على الفور، كما قام حزب «لي»، وهو حزب العمل الشعبي «PAP» بقمع جميع النقابات العمالية المستقلة، ووحد ما تبقى منها تحت مظلة واحدة تسمى «المؤتمر النقابي الوطني NTUC»، كما تم سجن أي شخص يهدد الوحدة المؤسسية أو السياسية، وذلك بسرعة، وبدون إجراءات قانونية، مع أنها كانت مقررة لأي شخص في مثل هذه الظروف. عمَّت الصرامة في البلاد، وأصبحت قوانين ملائمة الأعمال التجارية، جذابة جدًا للمستثمرين الدوليين. على النقيض من جيرانهم؛ إذ كانت الأجواء السياسية والاقتصادية لا يمكن التنبؤ بها، كانت سنغافورة تتسم بالشفافية ووضوح الرؤية والهدف مع الاستقرار الكبير، فضلًا عن مميزاتها المتعلقة بالموقع، وبدء إنشاء نظام للموانئ، كانت سنغافورة مكانًامثاليًا للتصنيع والتصدير للخارج.

قطف أولى الثمار

وبحلول عام 1972، أي بعد مضي سبع سنوات فقط من الاستقلال، كان ربع شركات التصنيع في سنغافورة إما شركات مملوكة للأجانب بالكامل أو مشتركة، وكان كلًا من الولايات المتحدة واليابان من أكبر المستثمرين في سنغافورة؛ نتيجة للمناخ الثابت، والمستقر، في سنغافورة، والظروف المواتية للاستثمار، والتوسع السريع والكبير للاقتصاد العالمي، في الفترة بين 1965 – 1972 فقد شهد الناتج المحلي الإجمالي للبلاد نموًا مضاعفًا بشكل سنوي، وحدث تدفق كبير للاستثمارات الأجنبية، وبالتالي بدأت سنغافورة في التركيز على تنمية الموارد البشرية لديها، بالإضافة إلى الاهتمام بالبنية التحتية، فقامت بإنشاء العديد من المدارس الفنية، ودفعت الشركات الأجنبية على تدريب عمالها غير المهرة في مجال «تكنولوجيا المعلومات» و«البتروكيماويات» و«الإلكترونيات». أما العمال الذين لم يتمكنوا من الحصول على وظائف صناعية، فقد ألحقتهم الحكومة في قطاع الخدمات، كالسياحة والنقل. كان لاتباع استراتيجية أن تقوم الشركات متعددة الجنسيات بتدريب وتثقيف القوى العاملة لديها عظيم الأثر على الاقتصاد السنغافوري. في العام 1970 أصبحت سنغافورة تصدر بشكل أساسي المنسوجات والملابس والإلكترونيات الأساسية. وبحلول العام 1990 كانت تقوم بتصنيع الشرائح الإلكترونية الدقيقة، وتقدم الخدمات «اللوجستية»، وتجري البحوث في مجال «التكنولوجيا الحيوية» و«الأدوية» و«تصميم الدوائر المتكاملة» وكذلك «هندسة الطيران». وبحلول العام 2001 أصبحت الشركات الأجنبية تمثل 75% من الإنتاج الصناعي و85% من الصادرات الصناعية.

وبفضل مجلس التنمية الاقتصادية والإجراءات الصارمة المطبقة على الأرض، زاد رأس المال في سنغافورة 33 مرة بحلول العام 1992، أي زيادة بعشرة أضعاف لنسبة العمالة من رأس المال. وارتفع مستوى المعيشة بشكل مطَّرد، وزاد عدد العائلات التي انتقلت من مستوى الدخل المنخفض إلى المتوسط. ودخلت شركات النفط الكبرى، مثل «شل» «Shell و «إيسو Esso»، وأنشئت المصافي النفطية، ومصانع التكرير، وبحلول التسعينات أصبحت ثالث أكبر مركز لتكرير النفط في العالم، بعد « هيوستون ونوتردام»، وثالث أكبر مركز لتجارة النفط بعد «نيويورك ولندن»، وأصبحت منتجًا رئيسًا للبتروكيماويات على مستوى العالم.

استطاع السيد «لي» الذي عنون أحد مجلدات مذكراته بـ «من العالم الثالث إلى العالم الأول»، استطاع ورفاقه أن يستفيدوا الاستفادة القصوى من موقع سنغافورة الاستراتيجي؛ إذ تعد مدخلًا إلى «مضيق ملقا» الذي من خلاله ـ ربما ـ يمر 40% من التجارة البحرية في العالم، مما جعلها تقع في واحدة من أكثر المناطق حيوية في العالم.
كما عمد السيد «لي» إلى بناء حكومة صغيرة وفعالة ونزيهة، وهي صفات غائبة في معظم الدول المجاورة لسنغافورة؛ مما جعلها محورًا طبيعيًا للشركات المتعددة الجنسيات، كما شجعها ذلك على التوسع والازدهار. كما كانت تصدر استطلاعات للرأي بانتظام؛ من أجل قياس ومعرفة الصعوبات التي تواجه ممارسة الأعمال؛ وبالتالي البدء فورًا في إزالتها، وحل جميع المشاكل.

التحليق مع الكبار!

تضاعف الناتج المحلي الإجمالي؛ إذ ارتفع خلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2010 من 163 مليار دولار سنغافوري إلى 304 مليار، كما بلغت معدلات التضخم والبطالة أقل من 2% و3% كل عام على التوالي خلال هذه الفترة.

استطاع السيد «لي» أن يحول سنغافورة من بلد ذات دخل منخفض إلى بلد ذات دخل مرتفع، من خلال نمو قطاع التصنيع بحلول عام 1970، ثم بعدها وصلت سنغافورة إلى مرحلة التشغيل الكامل للاقتصاد في العام 1980 وانضمت إلى صفوف «هونج كونج وكوريا الجنوبية وتايوان» فيما عُرف بعد ذلك بـ «نمور آسيا الأربعة»، انضمت إليهم كواحدة من الدول الواعدة في مجال التصنيع.

وبتطبيق مجموعة من سياسات الاقتصاد الكلي السليمة، والتي تهدف إلى الحفاظ على بيئة مواتية للاستثمار طويل الأجل في الاقتصاد، وسياسة مالية تم توجيهها في المقام الأول لتعزيز النمو الاقتصادي على المدى الطويل، ونتيجة للموقف المالي الجيد وفوائض ميزانية متسقة على مر السنين، فقد حققت سنغافورة مستوى عاليًا من الاحتياطات الأجنبية؛ لتصنف بأقوى تصنيف ائتماني طويل الأجل للديون السيادية في آسيا
سنغافورة اليوم

سنغافورة اليوم عبارة عن مجتمع صناعي فائق، وتستمر التجارة الوسيطة لتلعب دورًا رئيسًا في اقتصادها. كما يعتبر ميناء سنغافورة الآن من أكثر الموانئ ازدحامًا حول العالم، متجاوزًا «مينائي هونج كونج وروتردام». أما من حيث حمولة البضائع المتداولة فقد أصبحت الثانية عالميًا كأكبر المناطق ازدحامًا، بعد «ميناء شنغهاي».

صناعة السياحة في سنغافورة من الصناعات المزدهرة أيضًا، وتجذب أكثر من 10 مليون زائر سنويًا، وتمتلك سنغافورة حديقة للحيوان، ويوجد بها رحلات «سفاري» ليلية، ومحمية طبيعية. مؤخرًا تم افتتاح اثنين من أغلى الفنادق المتكاملة في العالم، وهما «مارينا باي ساندز Marina Bay Sands» و «منتجعات ورلد سنتوسا Resorts World Sentosa»، كذلك أصبحت صناعة السياحة الطبية وسياحة الطهي في البلاد من الصناعات الرائدة؛ وذلك بفضل تراثها الثقافي، وتقدم التكنولوجيا الطبية بها.

نما القطاع المصرفي بشكل مذهل في السنوات الأخيرة؛ إذ يعتبر النظام المصرفي في سنغافورة من النظم الأقوى في العالم، وتمتلك سنغافورة رابع أكبر سوق صرف أجنبي في العالم، بعد لندن ونيويورك وطوكيو، كما انتقلت العديد من الأصول التي كانت في سويسرا إلى سنغافورة؛ بسبب الضرائب الجديدة التي فرضتها سويسرا مؤخرًا. كما ازدهرت صناعة التكنولوجيا الحيوية، وكذلك شركات الأدوية، مثل شركة «جلاكسو سميث كلاين GlaxoSmithKline» وشركة «فايزر Pfizer» وشركة «ميرك Merch»، وجميع هذه الشركات قامت بإنشاء مصانع لها في سنغافورة.

على الرغم من صغر حجمها، إلا أنها الشريك التجاري الخامس عشر للولايات المتحدة، كما قامت بإنشاء اتفاقيات تجارية قوية مع العديد من الدول في أمريكا الجنوبية وأوروبا وآسيا أيضًا. هناك حاليًا أكثر من 3 آلاف شركة من الشركات متعددة الجنسيات تعمل في البلاد، ما يمثل أكثر من ثلثي الإنتاج الصناعي، وإيرادات التصدير المباشر.

مع مساحة إجمالية صغيرة، وقوى عاملة من 3 ملايين شخص فقط، فإن سنغافورة قادرة على إنتاج ناتج محلي إجمالي يتجاوز 300 مليار دولار أمريكي سنويًا، أي أعلى من الناتج المحلي الإجمالي لثلاثة أرباع العالم مجتمعين. كما ارتفع متوسط الأعمار إلى 83 سنة؛ مما يجعلها رقم 3 عالميًا في أعلى متوسط للأعمار. أما مستويات الفساد والجريمة فتعد الأقل على مستوى العالم؛ إذ تطبق القوانين بشكل صارم. وتعتبر سنغافورة من أفضل الأماكن للعيش على وجه الأرض، لمن لا يمانع بالطبع في تطبيق القواعد الصارمة هناك. كما توفر البلاد أحسن بيئة تنظيمية ملائمة للأعمال التجارية في العالم. وتأتي من بين الاقتصادات الأكثر تنافسية عالميًا.
سلطات نقدية واعية

كما أن السلطات النقدية في سنغافورة MAS والمتمثلة في البنك المركزي السنغافوري وسلطة الرقابة المالية قادرين على التركيز على الهدف الأساسي المتمثل في ضمان استقرار الأسعار والحفاظ على الثقة في العملة المحلية؛ إذ يمثل سعر صرف الدولار السنغافوري أمام الدولار الأمريكي حاليًا «1 دولار سنغافوري = 0.74 دولار أمريكي» أو «1 دولار أمريكي = 1.36 دولار سنغافوري».

كما أن هناك إعادة تقييم باستمرار للاستراتيجيات الاقتصادية على المدى الطويل في سنغافورة، وسياسات يمكنها التكيف بسرعة مع التغيرات والتحديات العالمية. ويتم اتخاذ تدابير مركزة الآن لتطوير سنغافورة؛ كمركز مالي عالمي المستوى، على سبيل المثال، فقد سمحت السلطات النقدية للبنوك المحلية وقطاع التأمين بزيادة نسبة مشاركة الأجانب، كما اعتمدت السلطات النقدية نهجًا أكثر انفتاحًا في الإشراف على، وتطوير القطاع المالي، كما تم تنفيذ مبادرات مختلفة لتطوير سوق الدين وإصلاح حوكمة الشركات.

بالجملة ساهمت هذه الإجراءات ـ جنبًا إلى جنب ـ مع الاستقرار السياسي، والاستقرار على مستوى الاقتصاد الكلي، في سنغافورة، مع مستوى ممتاز في قطاع الاتصالات، وبنية تحتية رائعة، وموقع جغرافي استراتيجي، وقوة عاملة ماهرة ومتعلمة. أدى كل ذلك إلى التطوير السريع في سنغافورة، وخلق بيئة عمل «ديناميكية»، ومركزًا ماليًا عالميًا. ويصنف الاقتصاد السنغافوري حاليًا في المرتبة 39 في قائمة أكبر الاقتصادات على مستوى العالم، على الرغم من مساحتها الصغيرة التي يطلق عليها ـ أحيانًا ـ «المدينة الدولة» لصغر حجمها، وعدد سكانها القليل الذي لا يتجاوز الآن 5.4 مليون نسمة؛ إذ يبلغ ناتجها المحلي في 2016 حوالي 295 مليار دولار أمريكي.

كما بلغت وارداتها في العام 2014، والتي يتميز أغلبها بمواد أولية يُعاد تصنيعها 464 مليار دولار سنغافوري، وبلغت صادراتها في نفس العام 519 مليار دولار سنغافوري. وتعتبر ماليزيا المصدر الرئيس للصادرات السنغافورية؛ حيث تستوعب أسواقها 18% من هذه الصادرات.

دور القطاع العام في البنيان الاقتصادي

يعمل القطاع العام في سنغافورة كمستثمر وكمحفز للتنمية الاقتصادية وتهيئة بيئة مثالية للإبداع والابتكار؛ فالحكومة السنغافورية تمتلك اثنين من صناديق الثروة السيادية هما «تيماسيك القابضة Temasek Holdings» و «جي آي سي الخاصة المحدودة GIC Private Limited»، حيث يتم استخدامهم لإدارة أصول واحتياطيات البلاد. في البداية كان دور الدولة موجهًا أكثر لإدارة الصناعات؛ من أجل التنمية الاقتصادية، ولكن في العقود الأخيرة، تحولت أهداف صناديق الثروة السيادية في سنغافورة إلى نطاق تجاري، كما تسعى الحكومة إلى تعزيز الأنشطة ذات القيمة المضافة الأعلى في قطاعي الصناعات التحويلية والخدمات.

تلعب شركات القطاع العام دورًا كبيرًا في الاقتصاد، بداية من العام 2012 بلغت أعلى 6 شركات مرتبطة بالحكومة، وتسمى GLCs، حوالي 17% من القيمة الإجمالية للبورصة السنغافورية SGX. كما أن هذه الشركات المملوكة للدولة كليًا أو جزئيًا، تعمل على أسس تجارية واحترفية، ولا تُمنح أية ميزة تنافسية على الشركات المملوكة للقطاع الخاص. كما تبرز هذه الشركات في قطاعات استراتيجية للاقتصاد، مثل الاتصالات والإعلام والنقل العام والدفاع والموانئ والمطارات، وكذلك البنوك والشحن والطيران والبنية التحتية والعقارات.

وبحلول العام 2014 أصبحت «تيماسيك القابضة Temasek Holdings» تمتلك 69 مليار دولار سنغافوري من الأصول، بما يمثل 7% من القيمة الإجمالية للشركات المدرجة في سنغافورة.
الهيكل التجاري لسنغافورة

تعتبر الصادرات، وبخاصة في مجال الإلكترونيات والكيماويات والخدمات، بما في ذلك موقع سنغافورة، كمركز مالي إقليمي لإدارة الثروات، تعتبر المصدر الرئيس للدخل بالنسبة للاقتصاد؛ إذ يُمكنها هذا الدخل من شراء الموارد الطبيعية والسلع الأولية التي تفتقر إليها. تعاني سنغافورة من شح المياه، وبالتالي فهي مورد ثمين هناك، كما أنها محدودة الأراضي الصالحة للزراعة؛ وبالتالي تعتمد على التكنولوجيا الزراعية المتطورة جدًا؛ لتعويض النقص في الأراضي الزراعية؛ من أجل الإنتاج الزراعي.

كما تشجع الحكومة الادخار والاستثمار من خلال سياسات مثل «صندوق الادخار المركزي the Central Provident Fund» والذي يستخدم لتمويل احتياجات الرعاية الصحية والتقاعد لمواطنيها. ومن أجل الحفاظ على مكانتها الدولية وتعزيز واستدامة الازدهار الاقتصادي، وبقائها كإحدى الدول الرائدة عالميًا؛ فقد اتخذت سنغافورة تدابير عديدة لتشجيع الابتكار وتشجيع رجال الأعمال على تدريب القوى العاملة لديها، وجذب المواهب الأجنبية من أجل زيادة الإنتاجية.

كان هذا التقرير مجرد لمحة بسيطة عن بلد استطاع أن يضرب أروع مثال، ليتحوَّل من مجرد شيء منبوذ مليء بالبطالة والفقر، إلى عملاق اقتصادي له وزنه وقيمته على المستوى الدولي الآن. بعبقرية، وصلاح حُكام، ومساندة ودعم الشعب، وبإرادة حقيقية في الإصلاح والتغيير.

ساسة بوست

‫2 تعليقات

  1. بالأمانة , المساواة , الغيرة على وطنهم , التربية الوطنية التي علمتهم أن من يسرق وطنه فهو إنسان خسيس لا يستحق الحياة مع البشر .

    بالمناسبة معظم الدول التي تقدمت و لحقت بركب الحضارة لا تمتلك ولا ربع موارد السودان ولكن إدارة الموارد أهم من امتلاكها , ومنذ عام 1956 وحتى اليوم السودان يبارح مكانه , فقط مع تقدم واضح في التصنيع والزراعة و السدود عهد مايو 69 بقيادة الرئيس نميري رحمه الله حيث قامت عدد من مصانع السكر و الأسمنت و الغزل والنسيج والحلويات و الصابون وتطوير مشروع الجزيرة إلخ أما بعدها و قبلها أيضا قامت معاول الهدم . بل أن البعض أصروا أن تهدم بعض المباني الوطنية البارزة مثل البرلمان و الصداقة باعتبار أن نميري نزل إلينا من السماء وليس هو ذلك النوبي الأصل الأصيل.