منوعات

القصة الحقيقية التي أدت لظهور “الفك المفترس”

في يوليو/تموز 1916، أدت سلسلة هجمات مروعة شنتها سمكة قرش في الولايات المتحدة إلى تغيير الثقافة الشعبية السائدة هناك بشأن هذه الأسماك إلى الأبد. في السطور المقبلة، يسترجع مايكل كابوتسو تلك الأحداث التي جعلت الخوف من أسماك القرش هاجساً مستمرا في أذهان الأمريكيين.

في هذا الشهر منذ مئة عام، وبينما كانت معركة السوم محتدمة، حضر الرئيس الأمريكي – وقتذاك – وودرو ويلسون إلى مقر إقامته الصيفي بمدينة آسبري بارك بولاية نيوجيرزي، الواقع على ساحل بديع ذي طابع تراثي، تتبختر رموز النخبة السياسية على الممشى الخشبي الموجود على شاطئه.

ورغم أن ويلسون تعهد بإبقاء بلاده بمنأى عن خوض الحرب العالمية الأولى، فقد أثبت فشله في تنفيذ شعاره الذي رفعه خلال حملته الانتخابية في هذا الصدد، ألا وهو “إبقاؤنا بعيداً عن الحرب”، وذلك بقدر إخفاقه في إبعاد الأمريكيين عن الماء أيضاً.

فقبالة الشواطئ، سبح كائن بحري – لم يكن معروفاً وقتذاك بالنسبة للعلماء تقريباً – يصل طوله إلى نحو 9 أقدام (270 سنتيمتراً). وكان “وحش البحر” هذا مجرد رضيع، لا تزال أسنانه تحمل هذا الطابع الخشن غير المشذب، الذي تتسم به أسنان الصغار.

وأزاحت هذه الواقعة – ولو لوقت قصير – أنباء الحرب والرئيس ويلسون من على الصفحات الأولى للصحف الأمريكية، كما أحدثت أثراً أكبر من كليهما، في الحوليات الخاصة بالوقائع الغريبة التي حفظتها ذاكرة الثقافة الشعبية في الولايات المتحدة.

وأصبح هذا “الوحش” في ما بعد نجماً لأول فيلم سينمائي من نوعه في البلاد، ليضمّن بذلك أن تبقى في الذاكرة عبارة “القرش الأبيض الكبير” – وهو التصنيف الإحيائي الخاص به – في وقت يُنسى فيه مُسمى “الحرب العظيمة”، الذي كانت تُعرف به الحرب العالمية الأولى في الولايات المتحدة.

ففي الفترة ما بين الأول والثاني عشر من يوليو/تموز 19016؛ هاجمت سمكة قرش، تنتمي إلى النوع المعروف باسم “القرش الأبيض الكبير”، خمسة أمريكيين خلال سباحتهم قبالة شواطئ نيوجيرزي.

وانتزعت هذه السمكة، التي كانت لم تصل بعد لطور البلوغ، ضحاياها من قلب هدوء الصيف الحالم الذي كانوا ينعمون به، ليقضي أربعة منهم نحبهم، في سلسلة من الهجمات الشريرة غير المسبوقة، التي لم تتكرر بهذه الوتيرة حتى الآن.

وبذلك، أحدثت سمكة القرش هذه حالة من الرعب والهلع؛ بعدما قطعت 70 ميلاً (أكثر من 112 كيلومتراً) على طول الساحل الأمريكي المطل على المحيط الأطلسي خلال ذروة موسم الاصطياف.

وامتدت هذه الرحلة المروعة من بلدة ساحلية تقع شمالي مدينة أتلانتيك سيتي، إلى أخرى زراعية، تقبع على خليج بعيد عن الساحل، وتتولى إمداد منطقة مرفأ نيويورك باحتياجاتها الغذائية.

ولقي أول الضحايا حتفه في منطقة بيتش هيفن، وكان شاباً يُدعى تشارلز فِنسانت، تخرج لتوه من جامعة بنسلفانيا. ولكن تمزيق سمكة القرش لهذا الشاب، وهو ابن طبيب من فيلادلفيا، لم يحظ باهتمام أحد تقريباً. فمن استمعوا لصرخاته على الشاطئ، حَسِبوا أنه كان يمزح. بل إن علماء تلك الأيام، قالوا إن سمكة القرش تفتقر لذاك “الفك القوي” الذي يمكنها من قضم عظام البشر.

ومثلت هذه الواقعة أولى الحوادث التي قُتل فيها إنسان جراء هجوم لسمكة قرش في التاريخ الأمريكي، لكن أحداً لم يدرك هذه الحقيقة وقتذاك. فلم تكن لديهم، في تلك الحقبة، محطة تليفزيونية معنية بالشؤون العلمية مثل “ديسكفري”، أو أسبوعٌ من البرامج المخصصة لأسماك القرش تحت اسم “شارك وييك” (أسبوع القرش) على هذه المحطة. ولكن كل ذلك كان في سبيله للتغير بفعل هجمات سمكة القرش الفتية تلك.

بعد ذلك قُتلت الضحية الثانية، ليجد مرتادو الشاطئ جثة مخضبة بالدماء، انتُشِلت من أعماق المحيط، وسُجيّت على الرمال، وقد قضمها القرش وقسّمها نصفين. عندئذٍ، فر من وجدوا الجثة من المكان، وهم يصرخون في رعب شديد. وفجأة، استحوذ ذاك “الوحش البحري” على العناوين الرئيسية لصحيفة نيويورك تايمز.

لم تتوقف الهجمات، فقد لقي سباح آخر حتفه نهشاً على نحو مروع في مصب أحد الأنهار، كما قتل شخصٌ حاول مصارعة سمكة القرش الفتاكة، ليُعدَّ هذا الرجل في مصاف الأبطال. وقتذاك، حاول مسؤولو البلديات – التي وقعت فيها هذه الحوادث – إنكار حدوثها من الأصل، خشية خسارة الدخل الذي يدره عليهم تدفق المصطافين على المنتجعات الشاطئية، إلى أن أجبرهم الرعب الذي تملك الناس على إغلاق هذه المنتجعات، واضطر المسؤولون السياسيون إلى الاستعانة بالعلماء للإدلاء بدلوهم حول كيفية مواجهة هذا الخطر.

في تلك الفترة، بذل خبير في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، جهوداً مضنية للتعرف على التصنيف الإحيائي لهذا الكائن البحري الفتاك، قبل أن يولي اهتمامه إلى مخلوق ذي سمعة أسطورية في التهام البشر؛ ألا وهو “القرش الأبيض الكبير”.

وفي خضم موجة الذعر التي أحدثتها الهجمات؛ استل رجال غاضبون بنادقهم وأدوات التذرية والعزق الخاصة بهم، وقادوا عمليات ملاحقة للقرش الفتاك، متعهدين بقتله، وهو ما حدث في نهاية المطاف، على يد بطل أورده مورد الهلاك، خلال مهاجمة السمكة له وهو على متن قاربه.
أغرب من الخيال

هل يبدو كل ذلك مألوفاً؟ بالطبع، إنها القصة الحقيقية للرواية التي نعرفها باسم “الفك المفترس”، وهي وقائع تبدو بمثابة كنز مفقود من تاريخ غمرته الأمواج حرفياً. وقد استعدت أنا هذا “الكنز” عام 2001، عندما كنت أقيم في نيوجيرزي، ورويت تلك الأحداث في كتابي “قريباً من الشاطئ”.

وقبل ذلك، تحديداً في عام 1974، ألف الكاتب بيتر بِنشلي رواية “جوس” التي تُرجمت للعربية باسم “الفك المفترس” وحققت مبيعات هائلة. ونقل بِنشلي مسرح الأحداث من منتجعات نيوجيرزي، إلى منتجع مفترض بجزيرة لونغ آيلاند في ولاية نيويورك، اختار له اسم “آميتي”.

وتتشابه الأحداث، إلى حد التطابق بين ما جرى في نيوجيرسي وبين رواية بِنشلي، ففي الرواية قتل القرش أربعة أشخاص، بمن فيهم ضحية لقت حتفها في مصب أحد الأنهار. وفيها كذلك، صارع شخصٌ ما سمكة القرش، وقضى نحبه، واعتُبر بطلاً.

العمدة في الرواية نفى كذلك وقوع هجمات لأسماك القرش، بهدف الحفاظ على الدولارات التي يدرها تدفق السائحين على المنتجع، إلى أن أُجبر على اللجوء إلى أحد العلماء طلباً للمساعدة بفعل أجواء الرعب التي سادت المنطقة.

أما العالم، والذي كان بحسب الرواية، يعمل في متحف الأحياء البحرية في حي كوني آيلاند بنيويورك، فقد بذل – بدوره – جهداً مستميتاً لتحديد التصنيف الإحيائي للكائن البحري الفتاك، قبل أن يوجه اهتمامه إلى “القرش الأبيض الكبير” صاحب السمعة الأسطورية في التهام بني البشر.

ونجد هذا العالم في الرواية يحذر الناس من أن ما يواجهونه، سبق وأن حدث عام 1916، وأنه قد يحدث مجدداً. بل إن الرواية تتضمن كذلك عملية بحث محمومة؛ قادها أناسٌ تملك منهم الغضب، إلى أن تُقتل سمكة القرش على يد بطل هاجمت قاربه.

وفي مقابلة أجريتها مع بِنشلي، قال لي الرجل إن روايته تلك نبعت من اهتمامٍ استحوذ عليه طيلة حياته، بهجمات أسماك القرش، وبالأعمال البطولية لفرانك مندُس، ذاك الرجل الذي يهوى الصيد، والقادم من منطقة مانتوك بجزيرة لونغ آيلاند الأمريكية، والذي نجح في اصطياد سمكة قرش هائلة الحجم من نوع “القرش الأبيض الكبير” كان يبلغ وزنها 1554 كيلوغراماً.

لكن في مقدمة كتبها لاحقا لإحدى طبعات الرواية كتب يقول: “هل مكثت أسماك القرش، في مكان واحد، تواصل القتل مرة تلو أخرى؟ هذا صحيح بالقطع. أتتذكر سمكة القرش، التي سبحت في مياه نيوجيرزي عام 1916 وقتلت أربعة أشخاص؟ مرة تلو أخرى، أؤكد بثقة للصحفيين أن كل واقعة وُصفت في (رواية) الفك المفترس، حدثت من قبل بالفعل”.

ومثلت رواية بِنشلي حدثاً ثقافياً هائلاً اجتاح العالم. فالزعيم الكوبي فيدل كاسترو قال إن “تيبورون” – وهو اسم الرواية في نسختها باللغة الإسبانية – ليس إلا كناية عن “الرأسمالية المتوحشة”.

آخرون رأوا أن العمل يتناول الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون وفضيحة التنصت التي تورط فيها، والمعروفة باسم “ووترغيت”. ولأربعة وأربعين أسبوعاً كاملة، ظلت الرواية على مقربة من صدارة القائمة التي تعدها “نيويورك تايمز” لأفضل الكتب مبيعاً.

وللغرابة؛ لم تنجح رواية “الفك المفترس” قط في إزاحة رواية “ووترشيب داون” – والتي تتناول حياة مجموعة من الأرانب – عن صدارة القائمة، ولكن من غير المرجح أن يؤدي ذلك إلى التأثير على القيمة التاريخية التي تحظى بها هذه الرواية.
وقعٌ أكبر

وفي الصيف التالي لنشر الرواية، أي في عام 1975، بدأ عرض فيلم “جوس” (الفك المفترس) للمخرج ستيفن سبيلبرغ. والذي أسند فيه سبيلبرغ دور سمكة القرش التي روعت نيوجيرزي في العصر الإدواردي وهي لم تبلغ بعد طور البلوغ، إلى وحش آلي ضخم خيالي صُمم ونُفذ بمقاييس سبعينيات القرن العشرين، دون أن يتمكن من محاكاة الطريقة التي كان يسبح بها القرش الأصلي.
Image copyright Thinkstock

وهكذا قوّض فيلم “الفك المفترس” ذاك الطابع الكسول الذي يخيم على الصيف، ومنح هوليوود أول أفلامها السينمائية الناجحة للغاية التي تدور في هذا الفصل، مما قدم نموذجاً سينمائياً وتجارياً ناجحاً يُحتذى به لأفلام متنوعة؛ بدءاً من “ستار وورز” و”غوراسيك بارك” و”تيتانيك”، وصولاً إلى الفيلم المثير الذي بدأ عرضه هذا الصيف حول هجمات أسماك القرش والذي يحمل اسم “ذا شالوز” (المياه الضحلة).

كما وفر “الفك المفترس” القالب الفني لبعض أفلام الرعب المخيفة للغاية، ومن بينها – كما يقول بعض النقاد – الأجزاء الثلاثة التالية له هو نفسه.

غير أن العمل – وللمفارقة – أثار كذلك وبحق رعب علماء بارزين في دراسة أسماك القرش، من بينهم جورج برجيس من جامعة فلوريدا.

فقد أدى تصوير أسماك “القرش الأبيض الكبير” كذباً على أنها كائنات صائدة للبشر وتواقة للانتقام منهم، رغم أنها لا تستهدفهم سوى بالخطأ وفي حالات نادرة، إلى إقامة عشرات من مسابقات صيد القرش على طول الساحل الشرقي الأمريكي، ما أفضى إلى قتل أعداد منها “دون أي شعور بتأنيب الضمير”، كما يقول برجيس.

وفي العقود الأخيرة، لعبت عمليات اصطياد أسماك القرش دوراً في إهلاك كل أنواعه الإحيائية تقريباً.

لكن على الجانب الآخر، كما يقول برجيس، أدى “الفك المفترس” – سواء الفيلم أو الرواية – إلى ظهور نزعة تستهدف الحفاظ على الكائنات الحية في المحيطات بشكل عام، وعلى أسماك القرش بشكل خاص، كما دفع علماء الأحياء المتخصصين في سمك القرش، إلى تكثيف جهودهم البحثية وتحسين نوعيتها، وقاد إلى زيادة الأموال المكرسة لهذه الجهود.
فضلاً عن ذلك، نشر العلماء – كما يقول برجيس – رؤية أكثر استنارة مفادها أن أسماك القرش هي جزءٌ من البيئة الطبيعية التي تحيط بالإنسان، ولا يتعين شيطنتها “وإنما احترامها كما ينبغي أن يفعل المرء حيال أي شيء آخر في البرّية”.

ورغم أن برجيس يُصنّف القرش الذي شن هجمات عام 1916، في السجل الرسمي الدولي لهجمات أسماك القرش، على أنه “قرش أبيض كبير”، يرى علماء آخرون أن الكائن الذي نفذ الهجوم الذي وقع عند الخليج القريب من مرفأ نيويورك؛ ينتمي إلى نوع “قرش الثور”. وهو لغز وجدال لن يُحسم قط على أي حال.

رغم ذلك، فمع كل مشاهدة جديدة للفيلم؛ ينضم عشرات الآلاف من الأشخاص في مختلف أنحاء العالم إلى قائمة المتخوفين من أسماك القرش، ما يجعل كلاً منهم – على حد قول برجيس – لا يجرؤ على وضع “قدمه في الماء بسبب الفك المفترس”.

على أي حال، بعض مشاهد العمل يصعب أن تُنسى؛ كذاك الذي يتوسل فيه روي شيدر وعالم الأحياء ريتشارد دريفُس لعمدة البلدة لحمله على إغلاق الشواطئ في عطلة الرابع من يوليو/تموز، لأن ما وقع وقتذاك – بحسب أحداث الفيلم – من حالتيّ وفاة ليس سوى البداية.

وقيل في هذا المشهد “سيحدث ذلك ثانيةً. وقد جرى من قبل! على شاطئ نيوجيرسي! .. عام 1916! مُضِغَ خمسة أشخاص وهم فوق زبد أمواج الشاطئ!”.

في النهاية، لا يسع المرء إلا أن يتخيل كم كان التاريخ سيتغير إذا ما أدار الرئيس ويلسون حملة انتخابية ناجحة؛ تحمل شعار “لقد أبعَدَنا (نحن الأمريكيين) عن المياه”، بدلاً من تلك التي حملت شعاراً يُباهي فيه بأنه أبعدهم عن الحرب (العالمية).

BBC