الحوار الوطنى.. ثم ماذا بعد ..مرة أخرى ١
هذا مقال نشرته قبل حوالى أشهر ثلاثة واعيد نشره منقحا ومزيدا لمناسبته للوقت وللحدث الجارى. والتنقيح والزيادة سببهما ان مياها جرت تحت الجسر واحداثا حدثت وأمور أبرمت لابد من أخذها فى الحسبان والإعتبار .و حدث الساعة هو دخول قوى معتبرة للحوار فى مرحلته الخاتمة وتوافق الجميع على توصياته ومخرجاته.بل وترحيب بعض المقاطعين بتلك المخرجات. لكن رغم توقيع المعارضة الخارجة على خارطة الطريق فهى على معتادها فى الرسوب فى امتحان الحساب وعلى عهدها فى التعويل على مواقف الدوائر الاجنبية التى يظن غالب اهل السودان انها لا تبغى له الخير. والمعارضة الخارجة بتأبيها على الوفاق والسلام وتعويلها على إجندات أجنبية تعرقل حصول إنفراج سياسى كامل، تلتئم به الساحة السياسية على توافق يسمح بإبتدار مرحلة سياسية ودستورية جديدة .
الحوار لماذا ؟؟
إطلقت دعوة الحوار وإنبثقت من شعور قوى داخل أوساط الحزب الحاكم بالحاجة الى إصلاح لايمكن تأجيله . وقناعة راسخة إن إستمرار الأمر على مساقه المعتاد لا يمكن إستدامته ولا تؤمن عواقبه. فالسودان فى حاجة إلى أن يجنى ثمرة تضحياته التى قدمها للسلام، الذى يريد له البعض أن لا يتحقق واقعا فى أرض السودان. والسودان فى حاجة إلى بناء كتلة سياسية متضامنة من أجل تحقيق العدالة وتسريع التنمية . وذانك هما المقصدان الذان كانا يجب أن يكونا الثمرة الدانية لتحقيق المشروع الإسلامى فى السودان .وصحيح أن قوى عالمية ومحلية إستفرغت الجهد لإبطال كل مسعى يحقق هذين الهدفين تحت عنوان المشروع الاسلامى ، ولاتزال تلك الجهود تبذل لنقض كل غزل يغزل بإسم الإسلام ، بيد أن المؤمن الحق ليس له أن يبرىء نفسه الأمارة بالسوء، فتبرير كل فشل عن المواصلة وكل إخفاق عن تحقيق المراد بمايكيد الكائدون هو إقرار بالعجز المستدام . فإن الغرماء والخصماء لن يتوقفوا عن المكر وعن الكيد ، فهل حينئذ سيقول القائلون ألا هل إلى تحقيق المقاصد من سبيل ؟؟إن أول ما يتوجب الإعتراف به أننا فى حاجة الى إستعادة روح العمل المشترك من أجل الوطن وأن نقر أن هذه الروح كادت تتبدد وسط التحالفات الآنية المصلحية والتسويات الذرائعية . ولن تُستعاد الحماسة للشراكة الوطنية الحقة إلا على أساس حزمة من الأفكار الأساس التى يتوافق عليها الناس تراضيا لا تغاضيا وأقتناعا لا أنصياعا . وثانى ما يجب الإعتراف به أن المساومات والتسويات خاصة تلك القبلية والجهوية وأحيانا الفئوية و الشخصية لم تجلب أفضل الكفاءات لتحقيق أنسب المرادات . وأن مفهوم الملائمة السياسية والصواب السياسى غلب على مفهوم مطلق الملائمة ومطلق الصواب . لا شك أن الحزب الحاكم ومن يواليه يحتاج إلى مراجعات أقرها وأعتمدها عندما تبنى شعار قيادة الإصلاح وإستكمال النهضة للحملة الانتخابية . ويا لها من مهمات جليلة وأعباء باهظة لايمكن إنجازها بمضى الأمور على معتادها . فالاصلاح لن يصبح شعارا إلا إذا أحس الناس أن التحركات خرجت عن المسارات أو أن التحولات تجاوزت المجهودات ، فحينئذ يصبح الوضع إستثنائيا ولا يُصلح للمعضلة الإستثنائية إلا حلولاً إستثنائية . وأما تهوين الأمور فدلالة على العجز مثل تهويلها تماما . إن المؤتمر الوطنى طرح خمسة عناوين للحوار الوطنى على لسان رئيس الجمهورية ، وعندما طرحها قصد أن يطرحها لأن الخلاف حولها هو ما يصنع حالة الرحى الدائرة تطحن كثيرا ولا يخرج من فوهتها إلا النذر اليسير. وأول هذه المسائل هى النظام السياسى بإسره لا نظام الحكم فحسب . فلا شك أن النظام السياسى الذى يشتمل على الفاعلين السياسيين جميعا وعلى المنظمات والمؤسسات السياسية والإعلامية والدستورية بات معطوبا غير قادر على تهيئة مناخ للتساجل السياسى والتداول السلمى . وأعطابه التى لم تصلح وأبعاضه التى لم تستبدل أعطبت هى الأخرى جوانب كثيرة من الحياة الإجتماعية والثقافية والسياسية. فالسياسة دخلت مثل الضباب على كل شىء فأفقدته الرؤية الثاقبة والحركة الدائبة .ومن أجل ذلك طرح المؤتمر الوطنى قضايا التشارك السياسى وقضايا الحريات والواجبات أول ما طرح فمن غير إصلاح سياسى سيصبح كل إصلاح آخر محتاج إلى إصلاح .
السياسة والمعاش:
وكذلك طرح المؤتمر الوطنى فى الرتبة الثانية قضية معاش الناس .لأنه يدرك أن جوهر السياسة هى تحقيق مصالح العامة . وأول هذه المصالح الإطعام من جوع والتأمين من خوف . وقد أدى النظام السياسى المعطوب حكماً ومعارضة الى آثار كثيرة ضارة بالجهود المبذولة لتحسين المعاش وتأمين الحياة . وأدى فى أحيان كثيرة إلى إنعدام الخيار أمام المخططين لإنعدام البديل قدامهم . فإنه لا يصح إستخدام مفردة خيار إلا إذا تعددت إمام الناظر البدائل. وفى ظروف الصراع والإحتراب تتبدد البدائل فتتبدد الموارد بتبددها .وتعلو الأولويات الأمنية الضيقة على كل أولوية أخرى . ويعتكر مناخ الإستثمار فتتتناقص المشروعات وتتناهى الطموحات ، وتصبح السياسات سياسات معالجات لا سياسات تحفيز وتفعيل وإنجاز. ومهما كُتب فى الأوراق من أفكار صائبة فهى لن تكون ناجعة فاعلة فى مناخ لا يؤاتى إفتراضاتها. وصحيح إن جزءا من مشكلة ضيق المعاش مصنوع بالتضييق المقصود على المشروع المرفوع ، ولكن هذا التضييق يجد مبرراته فى فشل النخب الحاكمة والمعارضة فى التراضى والتوافق على الحد الذى يسمح برفع الضرر عن الناس برفع الضرار بين المتخاصمين المتحاربين . ولا أحد يلاحى فى الإمكانية الهائلة التى يكتنزها السودان من الموارد البشرية والمادية ، ولا يقع كثير جدال حول صوابية الخيارات والسياسات ولكن ثقافة الإقصاء المتبادل هى التى تقتل فرص التشاور الحق بين وجهات النظر وإتجاهات التفكير. والناظر إلى ما خرج به الحوار فى قضايا الإقتصاد يرى كيف وقع الحافر على الحافر فى كل التوجهات والسياسات . فلم يبق إلا ان تتوافر العزائم على أعلاء السياسة التى هى إصلاح على السياسة التى هى تنازع وصراع.
الهوية ما هى ؟
وطرح المؤتمر الوطنى قضية الهوية ليس لأنها غامضة أو خفية ، فالشخص لا يكون الا نفسه ، والجماعة الثقافية والوطنية لا تكون إلا كما ترى نفسها. والأصل فى الجماعة أيما جماعة أنها جماع هويات فردية متعددة متنوعة ، والتنوع هو المغزى لإجتماعها فلو أنها كانت متطابقة لتوحدت شخصا واحدا فلم يزد ما بها شئيا بالإجتماع . وإنما باعث الاجتماع هو تعبئة الطاقات المتعددة وتجميع الموارد المتنوعة . ولذلك فلا معنى للجدل العقيم الذى يريد أن يلغى التنوع أو أن يحتفظ به تنوعاً متجاورا لا متمازجا متفاعلا . وقد جاء طرح قضية الهوية لمناقشة سياسة إدارة التنوع لا لتقرير ماهو مقرر أصلاً بموجب واقع الحال . وقد نُفثت أنفاس حارة وأبخرة غير عاطرة فى فضاء قاعة الصداقة ، ولكن توصيات اللجنة خرجت فى خواتيم تداولها بوفاق كبير حول ما يجب أن يؤتى وما يجب أن يتجنب فى سياسات إدارة التنوع الثقافى والإثنى والجهوى . وكذلك وقع ذلك وأثره على قضايا التدبير السياسى والتنموى فى البلاد.ولاشك أن توجهات السودان فى سياساته الخارجية هى واحدة من تمظهرات رؤيته لهويته ، والتوازن فى تلكم الرؤية لا شك سوف يحدث التوازنات فى سياساته الخارجية . يدخل فى ذلك حقائق ووقائع ملموسة ومحسوسة فى تفاعل أهل السودان ودولة السودان مع الأمم والدول الأخرى. فالحديث عن الهوية ليس حديث نظرى وإنما هو وصف لواقع الحال. فنحن فى واقع الحال ننتمى إلى أفريقيا بالجغرافيا والديموغرافيا وبالثقافة المادية فى جلها ، وننتمى للعروبة لسانا وثقافة غير مادية فى جل ذلك ، ولكن التضامن والتفاعل الحقيقى هو ما سيجعلنا أقرب إلى هؤلاء أو إلى أولئك ، دونما قطيعة مع أحد.فالأرحام بين الأمم مثل الأرحام بين أفراد الناس يسعد الناس بوصلها ويشقون بفصلها وقطعها .
الدستور للإتئلاف أم الإختلاف؟
الأصل فى وثيقة الدستور أنها تسجيل لما يتوافق عليه الناس لتنظيم حياتهم العامة وأحيانا الخاصة ، ولكن الدستور فى السودان صار مثل قميص عثمان يُرفع لتكريس الخلاف لا لتسريع الوفاق . وقد آن الأوان لكى يكون الدستور كما أريد له بوابة التراضى والإتفاق . وأول بنود ذلكم الإختلاف هو إصرار البعض على تسمية المنتظم الذى سيناقش الأمور الدستورية بالمؤتمر الدستورى ، بينما ينص الدستور الانتقالى الذى أنجز بوفاق تام من جميع القوى السياسية أن الدستور سوف يناقش فى المفوضية المنصوص عليها فى بنوده . وقديما قال العقلاء لا مشاحة فى التسميات والإصطلاحات . ولا شك أن مفردة مفوضية أقوى من حيث تقوية صلاحيات ذلك المنتظم الدستورى من كلمة مؤتمر ، ولكن الأمر بإسره لا يجب أن يكون سبباً فى تعطيل إجتماع قوى المجتمع المدنى والأهلى بأحزابها ومنظماتها وعلمائها وخبرائها لإبرام عقد رشد لمرحلة سياسية جديدة ، يُوطد فيه الاتفاق على أسس النظام السياسى وعلى ركائزه وأعمدته وأسقفه. فالسياسة لاتصلح إلاعلى إتفاق على الإتفاق فى أمور ، وعلى إتفاق على نظام الأختلاف فى المختلف عليه .وإنما يكون الاتفاق على الأصول التى يحب البعض أن يسميها ثوابت ولا أحب التسمية ، ويقع الاتفاق على قواعد الحركة والسكون والفعل والإمتناع ، فأنه مع الإفتقار إلى ذلك لا يكون الأمر إلا فوضى تسمى بغير إسمها. وإنما يكون الإتفاق على نظام الإختلاف عاصماً من الانزلاق من التنوع إلى التنازع ، فالتنازع مؤذن بذهاب الريح ، والريح إن هى ذهبت فقد يطول الإنتظار حنى تؤاتى من جديد. ولقد شهدت قاعة الصداقة حوارا مستفيضا حول قضايا الحكم والدستور . وقارب الإتفاق حولها أن يكون إجماعا إلا فى أمور محدودة ، لا يؤذى التنازل عن الرأى فيها من هذا الطرف مرة ومن الطرف الآخر تارة أخرى . وأما أولئك الذين يتحدثون عن المؤتمر الدستورى من الخارج فإنهم يعلمون أنه ما من فكرة فطيرة أو خطيرة قالوا بها إلا وقيلت وسُمعت فى أبهاء قاعة الصداقة . فالأمر لايتعلق بالإفصاح عن رأى بل بالقدرة على الإقناع به . ويتوجب على هؤلاء إن ساعفتهم الروح الوطنية أن يقبلوا صادقين على النظر فى مخرجات الحوار وجعلها مادة لتدبر منتج ، يخرج به الفرقاء من ضيق المنازعة الى سعة التوافق والتشارك . ولا شك أن السودان يحتاج الى فترة نقاهة من أدواء الصراع والنزاع تجسدها ديموقراطية توافقية تفضى إلى ديموقراطية تنافسية ، تنتهض على أسس راسخة من المبادىء المكرسة لوحدة الوطن وتكاتف أبنائه على النهوض به إلى أعلى ما يبتغون. ولأجل ذلك لابد للدستور أن يهيىء لذلك بمراجعات للقواعد والتشريعات التى تنظم الحياة السياسية بما يوافى متطلبات الواقع لا مشتهى هذا الحزب أو مبتغى الحزب الآخر.
حوار الفرصة الراهنة :
ان التوافق الكبير الذى خرج به الحوار الوطنى والمجتمعى يتيح فرصة كبيرة وقد بددت صفوة بلادنا من قبل فرصاً لا حصر لها لتلتئم الجراح وتهدأ الأنفس ويقر قرار البلاد والعباد . ومن واجب كل واحد منا أن يبذل غاية الوسع لئلا تفوت هذه السانحة الماثلة . والواجبات تتنزل حسب الصلاحيات فمن كان الأصلح لأداء واجب ما تنزل عليه ذلك الواجب بأرجح مما يتنزل على الآخرين ، دون أن يقلل ذلك من مسؤوليتاهم من شىء. والمؤتمر الوطنى الذى طرح الحوار الوطنى من موقع إحساس بالمسؤولية الباهظة ، عليه أن يكون أشد الأطراف حرصا على إنجاح مخرجاته وتنفيذها بإخلاص وألا تحثه رؤيته لخطل التقدير فى هذه التوصية أو تلك أن الا يجتهد فى انفاذها فالخطأ مع ابقاء التراضى خير من الصواب مع التنازع وتبديد فرصة التوافق والوئام . فخطة خصوم البلاد إنما هى أن يسقط المعبد على كهنته ولو تهاوت أسقفه على جميع المتعبدين. ولكم نرى من أمثال هؤلاء الحمقى فيما نرى ونشاهد فى مجريات الأحداث والأخبارهذه الأيام .بيد أن الحارس اليقظ لمجريات الحوار ولمخرجاته هو الشعب السودانى الذى يجب أن يعلم أن الشأن هو شأنه وأن الأمرهو أمره وانه يجب ان لا يترك الأمر لوكيل غير مؤتمن ولا لمخاصم خارج لا يخشى فى الناس إلاً ولا ذمة .
د. أمين حسن عمر