التعديلات الدستورية تدفع الشعبي باتجاه أولى بوابات مغادرة الحوار
أصبح من المسلمات لدى المراقبين ليتمكنوا من تقييم مسار الحوار والتنبؤ بمقدار العافية التي يتمتع بها، وإمكانية أن يمضي للأمام، أن ينظروا إلى مواقف المؤتمر الشعبي ومدى رضاه عن الخطوات التي تسير بها عملية الحوار. فمتى كان الشعبي غاضباً أو ساخطاً على مستوى التطبيق أو رافضاً لبعض إجراءات تنزيل المخرجات إلى الأرض، أيقن غالب المراقبين بتعثر الحوار وعجزه عن المضي للأمام. وذلك لأن الشعبي كما يصفه كثيرون هو (العمود الفقري للحوار) من جانب قوى المعارضة.. لكن مؤخراً وعقب تعمد الحكومة تجاهل إيداع التعديلات الدستورية المتعلقة بالحريات للبرلمان بدأ غضب الشعبي يتصاعد بوتيرة متسارعة، بعثت المخاوف في قلوب المشفقين على الحوار بأن أحد أهم صانعيه وداعميه قد ينتبذ منه مكاناً قصياً يفضي إلى خروجه تماماً على مشروع الحوار، وهو ما حملته تصريحات بعض قادة وكوادر الشعبي التي حوت تهديداً صريحاً وآخر مبطناً بالخروج من الحوار.. فإلى أين ستمضي علاقة الشعبي بالحوار؟ وما هو مصيره في حال جافاه الشعبي ونفض يده عنه؟
{ المأزق وساعة الحقيقة
(المأزق) هو التوصيف الذي يكاد يُجمع غالب متابعي الشأن السياسي السوداني على إطلاقه على الحال الذي يعيشه المؤتمر الشعبي الآن بعد أزمة التعديلات الدستورية، باعتبار أن الشعبي بنى تمسكه الصارم بالحوار على موقفه من الحريات التي كان يبشر الناس بأن الحوار سيجعلها واقعاً يمشي بينهم. ولكن بعد إصرار الحكومة واللجنة البرلمانية الطارئة المعنية بالتعديلات على إجازة التعديلات التي أودعها رئيس الجمهورية المتعلقة فقط بتعديل اسم الحكومة المقبلة، وبتعديل عدد نواب البرلمان دون انتظار إيداع التعديلات المتضمنة المخرجات المعنية بالحريات ومهام جهاز الأمن الوطني، يصبح الشعبي- كما أكد ذلك المحلل السياسي الدكتور “خالد التيجاني”- مواجه بـ”لحظة الحقيقة”، فقد أشار “التيجاني” في تصريح إفادته لـ(المجهر) إلى أن الشعبي يواجه الآن ما ظل يتفاداه طيلة عمر الحوار الممتد لسنوات ثلاث ماضية، وقال: (الحريات لم تعد أولوية لدى الحكومة وليست حاضرة في ذهنها ولا سياستها)، وعدّ ما وصفه بـ”نكوص الوطني والحكومة عن التزاماتها تجاه قضية الحريات التي وقعا عليها في الحوار) مأزقاً عظيماً للشعبي، لافتاً إلى أن الشعبي هو العمود الفقري للحوار والطرف الأكثر حرصاً واستقامةً على أن يمضي الحوار بصورة صحيحة وينتهي إلى تحول حقيقي من المربع الحالي إلى مربع جديد، وأوضح “التيجاني” أن جوهر التحول الذي يعول عليه الشعبي يعتمد على تحقق الحريات.
{ رهان على المحك.. وإعادة إنتاج الأزمة
طيلة السنوات الثلاث الماضية ظل الحوار هو المشروع الأساسي للمؤتمر الشعبي ورمى فيه بكل ثقله السياسي، وبالتأكيد تقتضي الحصافة السياسية أن يستند الحزب في موقفه هذا إلى حائط صلب يقيه شر انهيار المشروع ويراهن عليه في الوصول لغايات وأهداف الحوار، وبدا واضحاً أن رهان الشعبي الأساسي على رئيس الجمهورية.
الأمين السياسي للشعبي “كمال عمر” أكد لـ(المجهر) أن حزبه ما زال يراهن على الرئيس في معالجة أزمة التعديلات الدستورية، باعتبار أن الدستور يمنح الرئيس حق ابتدار التعديلات الستورية، واستدرك أن اللجنة الطارئة كان بإمكانها إجراء المعالجات اللازمة، وقال: (لكن لجنة بدرية غير مستوعبة للحوار وغير مؤمنة به أحياناً)، وأشار إلى أن اللجنة كان بإمكانها لو اتبعت المهنية أن تقوم بالتعديلات دون تدخل الرئيس، واستدل بسابقة قال إن “بدرية” نفسها أقدمت عليها: (نفس البدرية من قبل ليها سابقة في 2015م عندما طُلب منها تعديل مادتين فقط فعدّلت 18 مادة). وأكد “عمر” أن آلية الحوار سلمت “بدرية” التعديلات المطلوبة، وقال: (هذه كارثة كيف تتسلم مستنداً للجنة برلمانية ثم تدعي أنها لم تطلع على محتواه)، لكنه عاد وأكد استمرار المراهنة على الرئيس، وقال: (من ناحية دستورية يمكن أن يتم التمديد للبرلمان).
لكن بالمقابل يرى دكتور “خالد التيجاني” أن الشعبي في سبيل تمسكه واستثماره لكل جهده السياسي في الحوار تقاضى عن كثير من التفاصيل، وأنه كان يراهن في ذلك على أن هناك (عقلانية لدى الطرف الآخر)، وقال: (الآن هذا الرهان على المحك)، وأضاف: (رغم العثرات التي واجهت الحوار لكن الشعبي ظل هو الأكثر التزاماً وصبراً حتى يخرج الحوار بتوصيات في قضايا أساسية على رأسها الحريات)، وأوضح “التيجاني” أن محصلة صبر الشعبي انتهت إلى التزام انتقائي من جانب الحكومة والوطني بالمخرجات، وقال: (للأسف الشديد أن عملية الحوار تسير في طريف إعادة إنتاج الأزمة).
{ الجهات غير الراغبة في الحوار
“كمال عمر” أكد وجود جهات في الحكومة والمعارضة غير راغبة في حوار يفضي إلى حريات وتحول ديمقراطي حقيقي، وأعلن عزم الشعبي على عدم التنازل إطلاقاً عن قضية الحريات، وقال: (تقاضينا عن كل الإشكاليات في الماضي والآن نحن مجتهدون لتفويت الفرصة على هذه الجهات، ومصرون على التعديلات بشكلها الأساسي المتضمن لقضايا الحريات، ولن نلتفت للوراء)، وأضاف: (سنخوض معركة التعديلات بأيدٍ نظيفة، فالحوار أفرز واقعاً جديداً بتصورات كاملة للحريات).
من جهته، برأ “التيجاني” الشعبي من تحمل مسؤولية نكوص المؤتمر الوطني عن تنفيذ محرجات الحوار، وأكد أن الشعبي “فعل ما عليه” وأوصل الحوار إلى هذه المرحلة، وقال: (لكن الوطني يمضي في طريق تشكيل حكومة محاصصة وحوّل الحوار من فرصة لإعادة تشكيل الأوضاع إلى مسار جديد لإعادة إنتاج الأزمة).. واتفق “عمر” مع تحليلات “التيجاني”، مؤكداً أن الحوار الحالي يهدف إلى إجماع حول برنامج وطني متفق عليه بخلاف الحوارات السابقة، وقال: (في الماضي كانت الحوارات من أجل المشاركة في السلطة).
{ احتمالات مفتوحة
عندما طرحنا على الأمين السياسي للشعبي “كمال عمر” السؤال البديهي حول موقف حزبه من الاستمرار في الحوار في حال أصرت الحكومة وحزبها الحاكم على تجاوز قضايا الحريات في التعديلات الدستورية التي ينظرها البرلمان حالياً، ومضى الأخير في عطلته دون إجازة ما تطالب به قوى المعارضة المحاورة، أجاب “عمر” قائلاً: (كل الاحتمالات مفتوحة)، لافتاً إلى أن القرار بيد الأمانة العامة للحزب، التي أكد أنها ملتزمة بالمبادئ التي طرحها الأمين العام الراحل د. “الترابي”. وترك “عمر” تقييم الحوار في حال خروج الشعبي للساحة السياسية وقال: (هي التي تحكم).
{ الاضطرار إلى أضيق الطرق
بات على الشعبي في حال مضت التعديلات كما يريدها المؤتمر الوطني وليس كما تطالب المعارضة المحاورة، بات عليه أن يختار بين خيارات كلها صعبة وأن يتخذ موقفاً حاسماً، فهو بين أن يستمر في الحوار بشكله الحالي ما يعني قبوله باستمرار الأوضاع على ما هي عليه خاصة في ما يلي قضية الحريات، وفي هذه الحالة يعدّ “خالد التيجاني” الاستمرار خصماً على الشعبي ويُظهره على أنه مجرد حزب باحث عن المناصب، وبين أن يتخذ موقفاً بالخروج من الحوار، وهو ما يراه د. “التيجاني”، إذ يضع أمام الشعبي خيار الخروج إلى الشعب السوداني والإعلان عن أنه وصل إلى طريق مسدود في الحوار بسبب عدم الالتزام الأخلاقي والسياسي للمؤتمر الوطني بمخرجات الحوار. وأكد “التيجاني” أن الحوار بخروج الشعبي سيكون قد انتهي تماماً، وقال: (بخروج الشعبي سيُكتب آخر سطر فيما كان يسمى بالحوار)، مشيراً إلى أن الحوار في الأصل بين أطراف مختلفة. ووصل “التيجاني” في تحليله لمواقف الحكومة والوطني التي يرى أنها تتعمد إفراغ الحوار من قضية الحريات التي يجعل منها الشعبي هدفاً أساسياً من دخوله الحوار، إلى أنها محاولة متعمدة لاضطرار الشعبي إلى أضيق الطرق التي تنتهي إلى خروجه من الحوار، وشبه هذه المحاولة بما سماها (تعمد إخراج الصادق المهدي من قبل).
بالتأكيد سيخسر الحوار وستخسر الحكومة أكبر وأكثر حزب جهداً وفاعلية في دعم الحوار، إن وصل الشعبي إلى قرار بنفض يده عن المشروع الذي سخّر له كل طاقته خلال السنوات الثلاث الأخيرة.. فهل تنتبه الحكومة وحزبها الحاكم؟ أم تنتصر القوى والأطراف غير الراغبة في الحوار التي تحدث عنها “كمال عمر”؟ أم يتنازل الشعبي عن مواقفه، وفي هذه الحالة أيضاً سيكون الحوار قد خسر أهم بريقه المتمثل في الحريات التي ينتظرها حتى الرافضين للحوار؟؟
المجهر السياسي
إن جنحوا للسلم فاجنح لها
وإن يريدوا خيانتك فإن حسبك الله
هذه هي مرجعية الشعبي
قرآن فقط
فأين المأزق