حلف آل “المهدي” في حكومة الوفاق
لم تشهد حكومة الوفاق الوطني التي انبثقت عن الحوار، تغييرات كبيرة بحجم ما كان يظن ويتوقع المتابعون لمجريات الحوار ومن ثم مخرجاته التي بشرت بعهد جديد يجب ما قبله، إذ ظلت مؤسسة الرئاسة دون تغيير رغم التنبؤات التي قيلت حول احتمالات أن يطال التغيير نائب الرئيس “حسبو محمد عبد الرحمن” على ضوء حديث غير رسمي أشار إلى تمسك رئيس حزب التحرير والعدالة القومي د.”التيجاني سيسي” بالمنصب طالما أنه محفوظ لأهل دارفور وسفره مغاضباً إلى لندن. النائب الأول لرئيس الجمهورية، رئيس مجلس الوزراء فريق أول ركن “بكري حسن صالح”، من جانبه أكد في رده على سؤال حول عدم ورود اسم “التيجاني السيسي” في التشكيل الحكومي، أنه رفض الوزارة ولم يخض في تفاصيل، بيد أنه ألمح إلى إمكانية ظهور أسماء جديدة حين اختيار نواب رئيس مجلس الوزراء،
وعلى خلفية ما رشح من معلومات، فمن غير المستبعد أن يكون “السيسي” أحدهم، كذلك احتفظ أغلب الوزراء الاتحاديين بمناصبهم عدا تغيير طفيف طال بعضهم تحقيقاً لنظرية التنازلات التي أخلى المؤتمر الوطني بموجبها بعض الوزارات المهمة، لكن رغم ذلك كان الملمح البارز في حكومة الوفاق الوطني هو تركيزها على مبدأ المحاصصة بين المشاركين في الحوار من الأحزاب والحركات المسلحة، المتبع في كل الحكومات السابقة التي كانت تأتلف فيها أحزاب الوحدة الوطنية مع المؤتمر الوطني.
إصرار الأحزاب والحركات المشاركة في الحوار الوطني على الظفر بمقعد في سلطة الوفاق، لم يكن خافياً على المتابعين للمشهد قبل إعلان الحكومة، حيث كان واحداً من الأسباب التي أجلت إعلانها عدة مرات حتى يتم التوافق على معادلة مرضية تستوعب كل المشاركين في عملية الحوار، ملاحظة أخرى جديرة بالنظر أن كل الذين شاركوا في حكومة الوفاق الوطني من الأحزاب والحركات، كان أغلبهم مشاركين أصلاً سوى حزب المؤتمر الشعبي الذي قال أمينه العام دكتور “علي الحاج” إن تمثيله كان رمزياً وحصل على وزارة الصناعة، وعين دكتور “موسى كرامة” وزيراً لها، ووزارة التعاون الدولي عين لها الأستاذ “إدريس سليمان”، فيما عين “سعد الدين البشرى” وزير دولة بوزارة النفط، وكذلك من المشاركين الجدد حزب العدالة الذي مثله “بشارة جمعة أرو” وزيراً للثروة الحيوانية.
بنظرة عامة نجد الوزارات الاقتصادية من أكثر الوزارات التي حدث فيها تغيير مثل المالية والمعادن والنفط، أما أكثر الوزراء الذين رفعوا حاجب الدهشة، فهو وزير المالية “محمد عثمان الركابي” الذي جيء به من وزارة الدفاع لموقع مدني، لكن حاول النائب الأول لرئيس الجمهورية رئيس الوزراء فريق أول ركن “بكري حسن صالح” تخفيف هذه الدهشة عندما قال في مؤتمره الصحفي إن وزير المالية الجديد أستاذ جامعي وأصلاً ملكي كان في وزارة المالية حتى وصل منصب نائب وكيل، ولبس الكاكي في فترة والآن عاد ورجع، مشيراً إلى أن “فضل عبد الله” الذي احتفظ بمنصبه كوزير بوزارة رئاسة الجمهورية كان أحد تلاميذه،
استحوذ آل “المهدي” أو أحزاب الأمة ممثلة في أحفاد السيد “عبد الرحمن المهدي” على مقاعد مهمة في الحكومة الجديدة، حيث احتفظ اللواء “عبد الرحمن الصادق المهدي” بمنصبه كمساعد لرئيس الجمهورية، رغم نفي والده لعلاقته بحزب الأمة، إلا أنه يظل محسوباً عليه، ودكتور “الصادق الهادي” وزيراً لوزارة تنمية الموارد البشرية و”مبارك الفاضل” وزيراً لوزارة الاستثمار، هذا بجانب آخرين منتمين لأحزاب الأمة مثل “أحمد بابكر نهار” وزير وزارة العمل والإصلاح الإداري، وهناك من اختير لمنصب وزير دولة لبعض الوزارات كذلك وفقاً لنظرية المحاصصة التي اتبعت. ركزت حكومة الوفاق الوطني على أل “المهدي” بغض النظر عن الاختلافات الدائرة بينهم وأل “الميرغني”، حيث أضيف إلى “محمد الحسن الميرغني” الذي أعيد إلى موقعه “إبراهيم الميرغني” كوزير لوزارة الاتصالات والتكنولوجيا والمعلومات،
بالعودة لآل “المهدي” يعتبر “مبارك الفاضل” من أكثر الوزراء المختارين إثارة، فهو سياسي محنك ويمتلك كاريزما سياسية قوية، لمع نجم “مبارك الفاضل” بعد الانتفاضة الشعبية ضد نظام “نميري” وقيادة حزب الأمة للحكومة البرلمانية حتى قيل إنه جمع بين وزارتين، فعمل وزيراً للصناعة ثم وزيراً للاقتصاد والتجارة الخارجية، كما تولى مهام حقيبة الداخلية، حيث كان وزيراً للداخلية عند انقلاب الإنقاذ في 1989 وأحد أبرز قيادات حزب الأمة القومي بزعامة “الصادق المهدي”.
بعد استلام الإسلاميين السلطة، خرج “مبارك الفاضل” عبر الحدود الغربية وبدأ نشاطاً معارضاً للنظام وعقد تحالفاً مع الحركة الشعبية بقيادة “جون قرنق” ونشط في فتح مكاتب حزب الأمة في أوربا والولايات المتحدة وأفريقيا، كما عقد حينها اتفاقاً مع الحكومة المصرية بهذا الخصوص، كان من أبرز قيادات التجمع الوطني الديمقراطي الذي كان يضم دكتور “قرنق” ومولانا “محمد عثمان الميرغني.
عاد “مبارك الفاضل” إلى البلاد بعد الوصول إلى تسوية بين نظام حكومة الإنقاذ ومعارضي حزب الأمة القومي، وفي العام 2002 قاد “مبارك” انشقاقاً ضد حزبه انتهى بترؤسه حزباً جديداً أطلق عليه اسم حزب الأمة الإصلاح والتجديد، ومن ثم دخل في شراكة مع المؤتمر الوطني بوصفه الحزب الحاكم وعينه الرئيس “البشير” في الفترة من (2002 -2004) مساعداً لرئيس الجمهورية، وأقيل من بعد ذلك بصورة مفاجئة بتهمة العمل ضد سياسات الحزب الحاكم، وهناك من كان يتحدث عن خلافات بينه والأستاذ “علي عثمان” وقتها قادت إلى إقالته، العلاقة بين “مبارك الفاضل” والسيد “الصادق المهدي” ظلت في توتر مستمر منذ مشاركة “مبارك” في السلطة، وتأسيسه لحزبه الإصلاح والتجديد، وخلال هذه الفترة جرت مياه كثيرة تحت الجسر إلى أن قال “مبارك” إنه حل حزبه وعاد لحزب الأمة القومي، لكن “الصادق” لم يقابل هذه الخطوة بترحيب وسارع بالقول إنه لم يقبل عودة “مبارك” ربما خوفاً من استحواذه على الحزب.
هناك ثمة إشارات تؤكد أن “مبارك” يتميز بعلاقات واسعة على المستويين الدولي والإقليمي، ويعتبر من المجيدين للعمل السياسي، له القدرة على القفز فوق الأحداث والظهور بموقف جديد يشد انتباه المتابعين، ظل يعمل في حزبه الإصلاح والتجديد إلى أن قرر حله والعودة إلى الحزب الأم (الأمة القومي)، لكن “الصادق المهدي” ظل يكرر أنهم لن يقبلون عودته للحزب إلى أن فاجأ “مبارك” الساحة السياسية بتقاربه الأخير مع حزب المؤتمر الوطني عندما عقد مؤتمراً صحافياً استمر لساعات كشف فيه أجندة النقاش الذي دار بينه ومساعد رئيس الجمهورية “إبراهيم محمود”، موضحاً أن اللقاء كان من أجل دعم مقترح خارطة الطريق والحوار الوطني، ورغم أن اللقاء كان يؤكد على تطابق وجهات النظر بين “مبارك” والمؤتمر الوطني حول قضايا الحوار وخارطة الطريق، إلا أن بعض قيادات الحزب الحاكم كانت تصر على عدم وجود أي اتجاه لعلاقة مستقبلية بينهما، وبدوره نفى “مبارك” هذه العلاقة لكنه استمر في دعمه للحوار الوطني كلما وجد مساحة في الإعلام، إلى أن أصبح جزءاً من الأحزاب الداعمة له، وبذلك كسب الحوار شخصية لها أبعاداً متعددة، هذا غير مضيه في التلميح إلى أن مشاركته تتم باسم حزب الأمة، الأمر الذي أقلق الإمام “الصادق” ودعاه للقول بأن مشاركة “مبارك الفاضل” في الحوار لا تتم باسم حزب الأمة القومي و”مبارك” لم يعد عضواً فيه بعد أن كون حزبه، في حين قد يكون “مبارك الفاضل” والمؤتمر الوطني عملا على أساس أن يكون “مبارك” ممثلاً لحزب الأمة القومي وبذلك يسحبان البساط من تحت أقدام الإمام تدريجياً حال حصل “الفاضل” على تأييد وتضامن من بعض منسوبي حزب الأمة القومي،
لكن “الصادق” استمر في توجيه الانتقادات لابن عمه، و”مبارك الفاضل” من جهته كان منتبهاً للانتقادات التي يوجهها له أعداؤه وفي مقدمتهم “الصادق المهدي” بسبب انضمامه للحوار الوطني، لذلك كان يقول ويكرر في أية لقاء، أن انضمامه للحوار جاء بعد قراءة عميقة للساحة السياسية الدولية، وقال أي “مبارك”، أنا تابعت هذه الساحة وأدركت أن الحوار الوطني يجد الدعم على المستويين الإقليمي والدولي، وفي لقاء آخر ألمح “مبارك” إلى ما مفاده أنه تلقى إفادات من دوليين تدعم تجاه الحوار في السودان، وأنه اجتهد في جمع هؤلاء الدوليين مع نافذين في الحكومة، كما بشر برفع العقوبات الاقتصادية عن السودان حينما قال في زيارة له إلى كادوقلي صحبه فيها صحفيون، إن أمريكا ستلتزم برفع العقوبات عن السودان هذه المرة لكن ربما تمدد الفترة وتُدخل السلام في دارفور ومحاربة الإرهاب ضمن الشروط.
أيام المشاورات حول تشكيل الحكومة التقى السيد “مبارك” النائب الأول لرئيس الجمهورية رئيس الوزراء القومي فريق ركن أول “بكري حسن صالح” وقطعاً تناول اللقاء موضوع مشاركته في الحكومة، لكن يبدو أنه لم يحسم موضوع الخيارات بالنسبة للمنصب، والدليل على ذلك أن “مبارك” قبل الحكومة بأيام اجتمع مع الرئيس “البشير” وقابل النائب الأول للرئيس، رئيس مجلس الوزراء “بكري حسن صالح” كذلك، وقيل قدم خياراته بالنسبة للمشاركة ولا ندري ماذا حدث لكنه خرج للإعلام وقال إنه لن يشارك في السلطة، لكن سيستمر في دعمه السياسي للحوار، وفُسر ذلك التصريح وقتها في إطار أن خياراته لم تجد القبول لكن ربما لأن مشاركة “مبارك” تحقق للحزب الحاكم أبعاداً إستراتيجية تخدم توجهه الجديد في مسار علاقاته الدولية، أعيد النظر في أمره، وفي النهاية واضح أن التفاوض وصل إلى خيار تقلده لوزارة الاستثمار، وتعتبر وزارة الاستثمار من الوزارات المهمة التي كان يشغلها منسوبو الحزب الحاكم وينتظر أن تدعم الدولة اقتصادياً على خلفية الوضع الاقتصادي المنهك، و”مبارك” يمكن أن ينجح في تفعيل عمل هذه الوزارة من خلال تسخير علاقاته الخارجية لجذب المستثمرين للسودان خاصة الأمريكان وأصلاً هناك بوادر لتدفقات استثمارية بدأت منذ أن تم الرفع الجزئي للعقوبات في السودان، كذلك وجود “مبارك” في الاستثمار سيعجل بالرفع النهائي للعقوبات الأمريكية، حيث إن “مبارك”يمتلك مقدرات استثمارية على مستواه الشخصي والأسري، حيث كانت لهم استثمارات بدولة الجنوب ويمكنه الاستفادة من الخبرات العملية وتسخيرها للصالح العام.
قبل إعلان الحكومة كانت كل التوقعات تتحدث عن أن “مبارك” سيتقلد منصب مساعد رئيس الجمهورية أو نائب لرئيس الوزراء،
إذ أنه لم يكن وحده حريصاً على المشاركة، فالمؤتمر الوطني كذلك يعيش في مرحلة انفتاح سياسي ويريد هو الآخر الاستفادة من علاقات السيد “مبارك” المعروف بعلاقته المميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سبق أن ساهم في تنسيق العلاقة بين السودان وأمريكا في فترة حكمة مع الإمام “الصادق”،
فهل يستمر هذه المرة في السلطة ويمضي في اتجاه تحسين علاقات السودان الخارجية، أم ستعترضه المطبات السياسية.
المجهر السياسي