رأي ومقالات

“سلفاكير ميارديت” رئيس يطارده السحر وشبح الموت

قلق ومشغول بمصيره على نحوٍ ملفت ومزعج لأطقم الحراسة الذين يتناوبون عليه، فهو يستمتع بمطالعة الأبراج ولا يثق في أي شخص حتى المقربين منه. هذه بعض الطباع التي يتسم بها رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت، أما طوله فلا أحد يعرفه، ولكنه فارع على أية حال، الشاهد أنه عقب توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام بين الحكومة الشمالية والحركة الشعبية في يناير/كانون الأول (2005) امتلأت الأسواق بأحذية جلدية طويلة ونوع من الهواتف الذكية، الأحذية والهواتف أطلق عليها الشارع السوداني اسم سلفاكير، حتى إنه – للمفارقة- اقتنى حذاء باسمه!

سلفاكير جنرال حذِر ومُغامر، سيرته تنضح بالإيمان بالغيبيات، يكفيه تماماً أنه أول رئيس يحكم دولة الجنوب، لا شك أن التاريخ لن يتجاهل الجيل المؤسس، الرجال الذين اقتطعوا جزءاً عزيزاً من الشمال وصنعوا أحدث دولة في العالم تحيط بها المخاطر، على رأس ذلك الجيل سلفاكير، الرئيس الملتحي وصاحب القبعة الشهيرة ماركة (ستيتسون) والتي تظهره في كثير من الأحيان مثل رعاة البقر في أمريكا، ولربما يحاول أن يخفي تحتها صورته العادية.
القبعة والغموض

هو ضابط استخبارات من طراز فريد، القبعة تضفي عليه بعض الغموض الذي يعشقه، بجانب أنه رئيس من ضمن رؤساء يتميزون بهيئتهم أكثر من أسلوب عملهم، وبالرغم من ذلك فلم تفلح الكاميرات في أن تلتقط صورة لسلفاكير وهو بالجلباب السوداني الشمالي مثل الراحل جون قرنق أو حتى بأزياء قبيلة الدينكا التي ينتمي لها ، إلا نادراَ، ما يعني أن مزاجه إفرنكي حتى في ارتداء الأزياء .

قبيل أعوام حط مراسل مجلة «نيوزويك» الأمريكية رحاله في القصر الرئاسي بمدينة جوبا، وللمصادفة فقد زار المراسل الصحفي نفسه البيت القديم، ما لاحظه أن البيت القديم لعائلة سلفاكير كانت فيه صورتان كبيرتان على جدار صالونه الرئيسي، واحدة له والثانية لوحة تحتضن بين جنباتها “بورتريه” للمسيح، وأسفلهما تبدو في الصالون بوضوح نسخة من الإنجيل والى جانبها كتاب أمريكي عنوانه “مساعدة الشخص لنفسه لتحقيق أهدافه”. المراسل لم ينتبه إلى المقتنيات النادرة التي تحوزها عائلة سلفاكير بجانب أنه يعيش في بيوت محصنة بأسوار عالية، وهو أيضاً لم ينتبه إلى أن (ماري) السيدة الأولى تطبخ لزوجها وتخدمه بنفسها، علاوة على أنها أم لثمانية أولاد، بعضهم يدرس في الخارج، وبعضهم قرر أن لا يعيش في جلباب والده. فضلاً عن ذلك لسلفا أربع زوجات حسب تقاليد قبيلته الدينكا، إحداهن يهودية كما زعم الدكتور حسن مكي الباحث في الشؤون الإفريقية، رغم أن تقارير صحفية حاولت دحض ذلك، من دون أن تنفي معلومة زوجته اليهودية بشكل قاطع .

بخلاف سلفه الراحل جون قرنق، والذي كان يرفع شعارات علمانية، فإن سلفاكير رجل متدين إلى حد بعيد، ومواظب على صلوات الكنيسة كل أحد، وتزعجه بالضرورة أي من تصرفات أولاده، لدرجة أن سلفاكير حذر أفراد أسرته من سوء التصرف على الملأ، وطالبهم بالتصرف بطريقة لا تجلب المتاعب للآخرين، وحاول أن ينشئهم على التقاليد المسيحية .
ابنه المسلم

المثير في الأمر أن أحد أبناء سلفاكير أشهر اسلامه قبل يوم واحد من انفصال جنوب السودان في العام (2011) بحسب ما نشرته صحف الخرطوم ساعتها، حكاية (جون) الإبن الأكبر للرئيس الجنوبي من زوجته الرابعة، تقول إنه جاء من الجنوب ليعلن إسلامه في الخرطوم، داعيا والده أيضا إلى الإسلام ، وقد نقلت صحيفة “الانتباهة” التي تصدر في الخرطوم عن جون قوله “لقد أسلمت لأني أريد الجنة، وسأذهب إلى الجنوب وأعمل على نشر الإسلام هناك مع إخوتي المسلمين” وأتبعتها بمعلومة يصعب تكذيبها، إذا ثبتت صحة الرواية، وهى أنه قام بتغيير سمه إلى محمد مع إشهار إسلامه، لكن المؤكد أنه متزوج ويعيش في منطقة “كيج” بجنوب السودان.

المخالطة الشمالية مع عائلة سلفاكير أمر مؤكد، فالأسرة ممتدة وعريقة، لدرجة أن إحدى بناته ارتبطت بشاب من أثيوبيا، وأثار زواجهما ردود أفعال كبيرة في جوبا ما بين الحفاوة والاستنكار، زفاف (أدوت) إبنه الرئيس الجنوبي من المهاجر الأثيوبي الذي يعيش في الجنوب (بارديس صهيبو) شهده جمع غفير من رجال السياسة والمجتمع، أما شقيقة سلفا السيدة (سامية) فلديها حكاية أخرى أكثر ادهاشاً، سامية عاشت أجمل أيامها في الشمال، وبالتحديد في منطقة النهود غربي السودان، وهى قيادية في حزب المؤتمر السوداني المعارض لحكومة الرئيس عمر البشير، وقد طالتها يد الإعتقال أكثر من مرة، كما إنها امرأة شجاعة فيما لا تزال رائحة التلال والغابات الاستوائية متخمرة في شعرها، سامية متزوجة بأحد أعيان منطقة النهود، وينتمي زوجها سياسياً لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، وقد فسرت ذلك الارتباط بأنه يأتي في إطار مشهد قبول الآخر في الثقافة السودانية، وما لم تقله سامية الممرضة بمستشفى النهود إنها بذرة لأشواق العودة للشمال، وستنبت يوما لتغطي على جغرافيا الانفصال .

لا أبالغ لو قلت إن سلفاكير مصاب بـ(حالة بارانويا) ويتوقع موته على نحوٍ دائم . في كل أحاديثه الخاصة والعامة تمور تلك الإشارات الغامضة، ذات أعراض (البارانويا) كما يردد المقربون منه، إلى جانب ذلك فهو مسكون بهاجس بمصيره، ويظن أن الجميع متآمرون ضدّه لإيذائه والتخلّص منه وأنهم يستخدمون السحر للقضاء عليه، وقد اتهم نائبه السابق رياك مشار باستخدام السحر في القتال ضده، وقال إنه يستخدم قوى السحر لتعبئة الشباب ضد الجيش الحكومي. سلفا الذي تسيطر عليه نزعة أفريقية تؤمن بتلك الإشارات لم يجد تفسيراً لقيام قوات مشار بقتل المرضى في المستشفيات واغتصاب النساء العجائز اللائي كن يعملن في الكنيسة بهذه الصورة الوحشية غير ضلوع الرجل في عالم السحر.
حس أمني رفيع

طبيعة شخصية سلفاكير بسيطة ولكنه يتمتع بحس أمني رفيع، يكاد يكون من أكثر الجنوبيين الذين يشعرون بالمؤامرات قبل دنوها، وقد أفشل أكثر من محاولة اتقلاب عسكري عليه، وربما ساعدته تجربته الطويلة في العمل الاستخباراتي !

فيض من تلك السيناريوهات الغامضة والنبوءات السوداوية ظلت تلف بإحكام مصير رئيس حكومة دولة جنوب السودان، الرجل الذي طعنته في العمق أكثر من رؤيا منامية قضت مضجعه، فأضحى لأيام وليالٍ لا ينام إلا بمهدئات (الفاليوم). ولربما كان سلفا هو الرئيس الوحيد المشغول بمصيره على ذلك النحو، للمدى الذي جعله كل ما سمع بعرّافة جديدة أو ساحر في أقاصي البلاد ذهب إليه بنفسه أو أحضروه له، فمنذ أن تحطمت طائرة الدكتور جون قرنق في جبال (الأماتونغ) وأُشيع عن أسطورة في تراث النوير بأن الجنوب سيحكمه صاحب (الفلجة) الشهيرة – ويقصدون الدكتور رياك مشار – منذ ذلك الوقت أصبح سلفا يطارد مشار بعيداً عن العاصمة جوبا، ويهتم بالغيبات، ويفسرها لصالح اقتراب شبح الموت من قصره، فهل سيموت مقتولاً ، أم أنها مجرد هواجس سوف تبددها المصالحة الجنوبية المنتظرة؟

عزمي عبد الرازق
الجزيرة
*كاتب وصحفي سوداني، رئيس القسم السياسي بفضائية أم درمان
عزمي عبد الرازق اليوم