“الصادق المهدي” : كان لديَّ نشاط تجاري خاص.. وكنا نعمل طبليات نبيع فيها السكر وأشياء أخرى لناس الحي
في هذا الحوار حاولنا تقصي الحذاء الآخر من شخصية، الإمام “الصادق المهدي” مصحوباً بآرائه السياسية والفكرية، التي نشرت في (3) حلقات سابقة، لنضفى للقارئ مزيداً من الأبعاد التي أثَّرت على مسيرة “المهدي” سياسياً وفكرياً، بجانب آرائه في الدعوة المهدية باعتباره من المجتهدين في البحث والدراسة حول الإسلام في القرن العشرين، والقضايا المتعلقة بإحياء الدين.
وفي هذه الجزئية من الحوار فنَّد “المهدي” علاقته بالإخوان المسلمين في السودان، ويبدو أنه غير راضٍ عن تجربة التنظيم العالمي للإخوان، والمنحى الثوري الذي قاد من خلاله “سيد قطب” وتبنيه لحاكمية الحركة.
فإلى مضابط الحوار-
{ طفولة “الصادق المهدي” وأنت سليل أسرة المهدي؟.
أنا ولدت في العباسية أم درمان وطفولتي كانت كالعادة مثل كل أبناء المدينة، تبدأ في ذلك الوقت بالخلوة وتعلم القرءان وشيخنا كان أحد المجاهدين في المهدية اسمه “أحمد العجب” كان يدرِّسنا القرءان والتربية الدينية بعد المرحلة الأولى في التعليم في الخلوة أنا صرت تلميذاً في الأحفاد و…..
{مقاطعة.. من أين أتت فكرة الأحفاد؟.
أصلاً (الأحفاد) تعني أحفاد الذين جاهدوا مع “المهدي” وهم الجليل الثاني بعد المهدية لذلك أطلق عليها هذا الاسم، ودرست فيها مرحلة الكُتاب.
{ دعنا نواصل في المحور الأول؟.
الوضع الاجتماعي لنا كأطفال كنا في الغالب بعد المدرسة يكون لدينا نشاط يخصنا كأطفال، بمعنى منذ عودتنا من المدرسة يكون يومياً لدينا (دافوري) بكرة مصنوعة من (الشراب) ولدينا أنواع من الألعاب لـ(دوقتي) في المدن انقرضت ولم يعد هنالك كرة شراب، الكرة الآن كفر، لكن في زمنا كنا نصنع كرة الشراب ونلعب بها، والحقيقة في ذلك الوقت كانت كل وسائل اللعب للأطفال نبتكرها ونصنعها نحن وحدنا، وليست مستوردة أو مصنوعة، مثلاً (كرة الشراب ولعبة شليل)، وشليل هذا عظم أصلاً نحضره ونستخدمه في اللعبة والتي تحكمها قوانين، وهي أصلاً متعلقة بعضم، وهنالك ألعاب كنا نتسلى بها في طفولتنا (شدَّت، حرامية وعساكر)، قرابة عشرة أنواع من الألعاب هي من الفلكور السوداني، وكنا في ذلك الوقت كأطفال لدينا حرية أكثر من الأطفال الآن. الأطفال الآن مشغولين بـ(الوتساب والفيس بك وغيرها)،
ونحن في زمنا لم يكن هنالك مثل هذه الأشياء، لذلك نجد وقتاً كافياً لممارسة ألعابنا.
{ هل كان لك نشاط تجاري خاص بك في صغرك؟.
نعم .. أي أموال نحصل عليها من أهلنا نعمل طبليات نبيع السكر وأشياء لناس الحي ونستفيد من أرباحها، وكنا عندما نرى فيلم يعجبنا نقوم نعمل بها مسرحية بنظام التذاكر لمشاهدتها من قبل أهالينا وقاطني الحي، كانت حياتنا في حرية أكثر واستقلال أكثر وابتكار أكثر، وأذكر أننا كنا نصنع العربات ونصنع الترتار والعربات من الخشب والقسطير، هذا حتى انتهاء مرحلة الكتاب، وأنا درستها بين العباسية عند الشيخ “أحمد العجب” والجزيرة أبا. وفي الجزيرة أبا كان لدينا فكي اسمه “علي السيوري” وكان يعلمنا القرءان ولدينا مدرسة كتاب في الجزيرة أبا وناظرها شيخ “الشيخ رحمة الله” وهي من أوائل المدارس الكتابية في السودان، هذه هي مرحلة الطفولة وفي الأحفاد كان الشخص الذي أثَّر علينا ناظر اسمه شيخ “ميرغني” وفكي “أحمد العجب” أيضاً هو من الشخصيات التي كان لها دور في التأثير عليَّ وفي الجزيرة “علي السيوري” ويمكن هؤلاء الأربعة أشخاص الأكثر تأثيراً في الطفولة واستمرت هذه الحالة، والوالد كان في ذلك الوقت يعمل في الجزيرة أبا، ولانشغاله الكثير كان يغيب كثيراً، ولكن الوالدة السيدة “رحمة” استطاعت أن تملأ هذا الفراغ وكان لها دور تربوي كبير بالنسبة لنا، هذه هي الشخصيات التي يستطيع الشخص القول أنه كان لها دور مهم في تلك المرحلة من الطفولة .
{الدعوة المهدية أثارت ولا زالت تثير جدلاً كبيراً بين السودانيين، والبعض يعتقدون في “المهدي” ولا زال البعض في انتظاره؟.
شوف يا ابني، أنا هذا الموضوع عملت فيه اجتهاد، أولاً أنا كإنسان درس في مدارس في الغالب أجنبية (كمبوني وفكتوريا واكسفورد)، أنا صدمت حقيقة من أن هنالك تحدٍ بالغرب للإسلام، وكتبت لتعريف ماذا يعني لنا الإسلام بالنسبة لنا في القرن العشرين، ونقلت الفكر الإسلامي، في رأيي من المفاهيم التقليدية إلى ما أسميته الإسلام كتيار أساسي للصحوة الإنسانية، وهذا معناها فهم الإسلام في إطار حركة التاريخ الإنساني ومستقبل التاريخ الإنساني، في هذا الإطار أنا واجهت مسألة (المهدية) وكان عليَّ مثلما في رأيي نقلت الفهم الإسلامي من المفاهيم التقليدية إلى أن يصير الإسلام رائداً بالنسبة لتطور الفكر الإنساني، أن أبت في التعريف ونقل الدعوة المهدية، صحيح في شبهات كثيرة حول هذا الموضوع بمعنى أنه لما “المهدي” قال إنه هو “المهدي” جلسوا ناس يناقشوا هل تنطبق عليه صفة “المهدي” في آخر الزمن، وهي فكرة كثير من أهل السنة عن المهدية أن “المهدي” يأتي في آخر الزمن، وفي الشيعة يفتكروا أن “المهدي” هو شخص غاب ويأتي من جديد، وخلال دراستي وبحثي عن الموضوع لم أجد في نصوص “المهدي” وكتاباته أنه يتحدَّث عن أنه قادم في آخر الزمن والدليل على ذلك أنه عيَّن خلفاء، له أسوة بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، مثلاً خليفة “الصديق أبو بكر” وخليفة الكرار “علي”، يعني هو تحدَّث عن حقيقة هي أنه لم يأت ليدل على أن الزمن انتهى وآخر الزمن واضح من وثائق في كلامه، هو ربط ما بين الدعوة والحركة في الفقه لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال، إن هذه المسألة متحرِّكة، وقال ما معناها الأشياء الخاصة بالعقائد ثابتة، لكن المسائل الخاصة بالعبادات والمعاملات متحرِّكة تخضع لحركة لكل وقت ومقام حال ولكل زمان رجال، أنا من هذا المنطلق ومن وثائق المهدية نفسها تحدَّثت عن أن “المهدي” يتكلم عن مدرسة جديدة عن المهدية وهي مدرسة أحياء الدين وأنه حتى إذا اختلف الناس حول صيغة المهدية على أي حال في القرآن فيما يدل على ضرورة أن تقوم جهة ما، بإحياء الدين فإن يفكر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين واتبع سبيل من أناب إليَّ.. الخ هذه المبادئ التي تدل على أنه في القرآن نفسه في مكان لوظيفة إحياء الدين، وهذه الوظيفة (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) آيات كثيرة تدل على هذا الأمر، إذا أنا قلت الكلام عن المهدية من الكلام عن مسائل تقليدية إلى حقيقة ما سندته ودعمته بوثائق من منشورات الإمام “المهدي” أن دعوته هي دعوة لإحياء الدين ووضع فيها أمرين واضحين تماماً بحيث أنه ما تركنا في هذه النقطة مبهمين، قال (دعوتنا لإحياء الكتاب والسنة ومهمتنا قائمة بهذا) يعني وظيفية.
{ماذا عن حديث “المهدي” حول أنه خوطب غيبياً؟.
في الدعوة المهدية ثوابت، و”المهدي” قال (ما جاءكم منسوباً إليَّ إذا كان مخالفاً للكتاب والسنة فاضربوا به عرض الحائط)، هذا جعلني أتحدَّث عن المهدية بصورة جديدة لا تتعلق بالكلام القديم والتقليدي والحوار التقليدي الذي كان يدور سابقاً، أنا إذاً نقلت المهدية، أيضاً، لتصير هي الدعوة المستمرة لإحياء الدين، ويبقى السؤال هنا أيضاً قائماً، أيه الفريد في دعوة المهدية؟ أنا أقول، الفريد هو الآتي: أولاً أنه قال أنا خوطبت غيبياً، وهذه هناك من يصدقها أو لا، ولكن هو يعتبر نفسه مخاطب غيبياً .. أنا أيضاً توصلت إلى أن المخاطبات الغيبية جزء من الإلهام الوارد في نصوص الإسلام، وتحدَّث الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن المحدِّثين والرؤية الصادقة، إذاً الكلام عن أنه يمكن لأحد يتحدَّث عن صلة غيبية إلهامية وارد وهذا كلام فسره تماماً ووضح أمره الإمام “الغزالي” في كتابه (المنقذ منِ الضلال) فإذاً هذا ما ينفرد به أو هو تحدَّث عن أن هذه المسألة ليست مجرد اجتهاد فيها خطاب غيبي، المسألة الثانية أنه أصبح لديه شيء خاص وهو أنه قال كل نصوص ما عدا القطعي وروداً والقطعي دلالة للكتاب والسنة ليست ملزمة لنا، وهذا يعني أنه موقف ثوري يحرر المسلمين من تبعية اجتهادات البشر باعتبار أن هذه الاجتهاد وارد، وفي رأيي إذا هناك معنى جديد وهو وظيفة إحياء الدين وهذه لا يوجد شخص يغالط فيها لأنها النصوص ثابتة فيها في القرآن كذلك أن هنالك انفراد، الانفراد فيه موضوع الخطاب الغيبي وإمكانية إلغاء إلزامية أي اجتهاد بشري باعتبار أن الأصل والملزم هو القطعي وروداً ودلالة من كتاب الله والسنة، بهذه الصورة أنا تحدَّثت بما يمكن أن يسمى فقه تحديد لـ”المهدي” ولذلك استطيع أن أقول الشيء الذي أعمل عليه هو أن أنقل الدعوة الإسلامية من المفاهيم التقليدية إلى أن تكون هي دعوة صحوية في تراث الإنسانية، وكذلك أن أنقل الدعوة المهدية إلى أنها دعوة صحوية للإسلام، وبهذه الصورة اعتقد أنه أمكن تحقيق أشياء عند كثير من الناس غير مقبولة، ولكن أنا افتكر هي صحيحة وهي مفاهيم ثورية بالنسبة للاجتهاد الإسلامي وبالنسبة للاجتهاد “المهدوي”.
{كيف تنظر لتجربة الإخوان المسلمين في دولتَيْ السودان، ومصر؟.
تجربة الإخوان المسلمين تعود للشيخ “حسن البنا” بعد إلغاء “مصطفى كمال” للخلافة الإسلامية حصلت ردة فعل في العالم الإسلامي عامة بأن الناس شعروا بأن هنالك يتم، ثانياً في مصر بالذات كانت البلاد معرَّضة بصورة كبيرة للاستلاب لماذا. لأن الحكم القائم أصبح يتكلم عن مصر كجزء من أوروبا ولذلك حدث انفتاح على كل شيء غربي، يعملوا أوبرا وأنشطة كثيرة جداً تهدف لدمج الثقافة والموروث المصري بأوروبا وليس العالم العربي أو الإسلامي، أنا في رأيي هذه المعاني الاستلابية خلقت ردود فعل واحدة منها الحركة الإخوانية بقيادة “حسن البنا”، ما في شك هذه الحركة عملت إنجاز، أولاً رفضت هذا المفهوم الاستلابي ودعت لتأصيل المجتمع بالالتزام بالإسلام، ثانياً هي عملت نشاط مهم وهو نقل النشاط الإسلامي من الأوساط التقليدية إلى الدخول في القطاع الحديث، وثالثاً: العمل السياسي الذي كانت تتبعه الأحزاب النضالية هو نقل هذا العمل من عمل فوقي إلى عمل جماهيري، هذه إنجازات الحركة الإخوانية.
{هذا يعني أنك تتفق مع الحركة الإخوانية وما قدمته دون خلاف؟.
اتفق معها في بعض النقاط، وذكرت ذلك آنفاً، ولكن الحركة الإخوانية وقعت في خطأ كبير جداً هو خطأ المناورة بالوقوف تارة مع “الملك” وأخرى مع الوفد، وكان من نتائج هذه المناورة الدخول مع بعض من قادة ومنسوبي المؤسسة العسكرية هناك في حركة سميت بـ(الضباط الأحرار)، وهذا جعلهم يدخلوا في مغامرة نتيجتها ما حدث لهم من محن، الحركة الإخوانية حققت ما حققت، ولكن أضرت نفسها بالدخول في مناورات مع “الملك” ومع الضباط الأحرار وخسرت في هذا خسائر كارثية.. المشكلة الكبيرة هي أنهم في أثناء العمل بهذه المناورات كوَّنوا جهازاً تحت مسمى (الجهاز الخاص) وهذا الجهاز صار يتصرَّف بصورة مستقلة من القيادة، وهذا ادخل الحركة في مجالات الاغتيالات اغتيال “الخازندار” و”النقراشي” وهذا أدى في النهاية لاغتيال “حسن البنا” نفسه . فإذاً لدينا المشكلة الأولى مسألة المناورات، والمشكلة الثانية الجهاز الخاص الذي دخل في باب الاغتيالات، والمشكلة الثالثة الدخول بصورة غير مبدئية مع الانقلاب العسكري في مصر، وهذا أدى إلى نتائج ما كانت بحسبانهم، المهم في مصر الحركة واجهت بطشاً شديداً جداً نتيجة لهذا البطش نشأت جماعات لديها تسميات مختلفة وأهمها تسمية “شباب محمد” أصبحوا يتكلموا بلغة ثورية ويفتكروا أن قيادتهم ما عادت ثورية وهذا الخط تبناه “سيد قطب”، وبدوره نحى بالحركة الإسلامية في رأيي أنا إلى منحى خاطئ جداً لأنه قال فيما معناه إن الحركة صارت تدعو للحاكمية وأنه من لا يتبع الحاكمية يعني الناس البطبقوا باجتهاد منهم الشريعة إذا الناس ما عملوا كدا يصبحوا هم أنفسهم جاهلية وأصبحوا يتكلموا عن جاهلية القرن العشرين وتكفير المجتمع، وهذا في رأيي خلاصة ما يمكن أن يقال عن الحركة الإخوانية في مصر.
حوار – مهند بكري
المجهر السياسي
دللللللللللللل