من لأطفال السودان يقيهم المسغبة، ويحفظهم من ذل الحاجة؟
مشهد أول:
وأنا اتسوق صباح اليوم، جاءتني طفلة لا يزيد عمرها عن ثمانية أو تسعة أعوام، تحمل في كلتا يديها الصغيرتين مسابح تعرضها للبيع، شديدة الحياء لا تستجدي الشراء، يكتسي وجهها بشيئ لم أستبينه أهو رهق أم حزن!، نظراتها ساهمة من هم حملته يتجاوز بكثير سني عمرها، وانا أتبادل مع تلك الصغيرة الحديث طاف بخيالي صورة ابنتي التي هي في ذات عمرها، وتذكرت كيف أنني أجتهد في تعليمها، وتوفير الالعاب والبرامج التي تنمي مهاراتها وتفكيرها، ونديدتها هذه أخرجتها الحاجة من بيتها صباحاً، وانتزعتها مما كانت يجب ان تكون فيه من لعب أو تعلُم لتبيع بضاعتها للمارة في الأسواق.
لم أمض بعيداً عنها وإذا بطفلٍ آخر يكبرها قليلاً يبيع الناس بضاعته أيضاً.
مشهد ثانى:
كان عبد الرحمن بن عوف يرافق عمر – رضي الله عنهما – في تفقّد أمر قافلة تجارية وكان ذلك آخر الليل، فجلسا قرب القافلة النائمة يحرسان ضيوفهما، فسمعا صوت بكاء صبي. انتظر عمر أن يكفَّ الصبي عن البكاء لكنه تمادى. أسرع صوب الصوت ، قال لأمه: اتّق الله واحسني إلى صبيك ، ثم عاد إلى مكانه، عاود الصبي البكاء، هرول عمر نحوه ونادى أمه : قلتُ لك أحسني إلى صبيك، وعاد إلى مجلسه، ولكن زلزله مرّة أخرى بكاء الصّبي، فذهب إلى أمه وقال لها: ويحكك إني لأراكِ أمَّ سوء ما لصبيَّك، لا يقرَّ له قرار؟
قالت وهي لا تعرف مَن تخاطب: يا عبد الله أضجرتني إني أحمله على الفطام فيأبى.
سألها: ولِمَ تحملينه على الفطام ؟
قالت: لأن عمر لا يفرض إلاّ للفطيم .
قال: وكم له من العمر ؟
قالت: بضعة أشهر .
قال : ويحك لا تعجليه .
قال عبد الرحمن بن عوف: صلى بنا الفجر يومئذٍ وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، فلما سلّم قال: يابؤس عمر كم قتل من أولاد المسلمين، ثم أمر مُنادياً يُنادي في المدينة : لا تعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنا نفرض من بيت المال لكل مولود في الإسلام. ثم كتب بهذا إلى جميع ولاته بالأمْصار .
المشهد الاول سببه مسغبة وحاجة أخرجت أطفالاً وطفلات يُفع للعمل ما كان ليخرجهم والديهم لولا أن الأمر بلغ مبلغاً جعلهم لا يستطيعون توفير أساسيات الحياة في حدها الأدنى لأطفالهم.
والمشهد الثاني لحاكم عادل، قائم بأمر الله في إستخلافه على عباده، يدرك أن الحكم مسؤلية يُسأل عنها أمام الله قبل الناس، ويعمل بمقتضى ذلك تصريف أمور الرعية.
كم قتلت المسغبة والمرض من أطفالٍ في السودان! وكم من طفل أو طفلة صار مستقبلهم توفير لقمة عيش، من مهنة هامشية، لبقية أخوانه لعوز والديه بسبب الغلاء وفحش الأسعار، أو فقد أحدهما أو كليهما.
أضف إلي ذلك فإن كل العالم يجرم ويحرم عمالة الأطفال لما لها من آثار مدمرة على حياتهم ومستقبلهم.
اللهم لطفك ورحمتك بأهل السودان فقد اشتدت بهم الحاجة وحالنا لا يخفى عليك وأنت على كل شيئ قدير.
بقلم
هشام أحمد