أهرامات السودان ورمزية العقل والدين

ثمة هرم في منطقة مروي في السودان. في الحقيقة إنها مجموعة أهرامات، مجموعة تفوق ربما الأهرامات الموجودة في الجيزة. إنها تغير مفهوماً ارتبط في أذهاننا بأن الهرم موجود فقط في مصر. لكنها تقدم – لمن يدرس التاريخ بعمق – مفهوماً آخر بأن استغلال السلطة الدينية لتسيير السياسة أمر ينبغي أن يواجه بالحزم كما فعل الملك أركماني.
حكم الملك أركماني بلاد النوبة في فترة ما قبل الميلاد. وقد كان على درجة كبيرة من الثقافة، جمعته بمعاصره ملك مصر بطليموس صداقة قوية مردها اهتمامهما المشترك بالثقافة.
قبل أن يصبح أركماني ملكاً ﻛﺎﻥ ﻟﻜﻬﻨﺔ ﺁﻣﻮﻥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ المطلقة ﻓﻲ ﺇﻗﺼﺎﺀ ﺍﻟﻤﻠﻮﻙ. ﻛﻞ ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﻔﻌﻠﻮﻩ – إذا ما اختلفوا مع الملك، أو بدا لهم أنه لا يستجيب لسلطتهم- ﻫﻮ ﺑﻌﺚ ﺭﺳﺎﻟﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻠﻚ ﻳﺄﻣﺮﻭﻧﻪ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺎﻻﻧﺘﺤﺎﺭ . ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺮﺳﺎﺋﻞ ﺗﻜﺘﺐ بتوقيع الإله.
وحين احتد الخلاف بين الملك أركماني وبين السلطة الدينية، حدث ما كان متوقعاً فقد تسلم أركماني ﺭﺳﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺮﺳﺎﺋﻞ، فيها دعوة للانتحار. ﻟﻜﻨﻪ ﺑﺪﻻً من ﺍﻻﻧﺘﺤﺎﺭ، ﺯﺣﻒ ﺑﺠﻨﻮﺩﻩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻌﺒﺪ ﻭﻗﺎﻡ ﺑﻘﺘﻞ ﺍﻟﻜﻬﻨﺔ.
حين قضى أركماني على الخرافة، فإنه أسس لحقبة جديدة من مملكة كوش في بلاد النوبة، إنها حضارة مروي. وكان هو تحديداً ﺃﻭﻝ ﻣﻠﻚ ﻳﺸﻴﺪ ﻫﺮﻣﻪ ﻓﻲ ﻣﺮﻭﻱ.
وفي عهده، وبعد أن تخلص من سلطة الخرافة المستندة على الدين، وتحرر من قيد الجهل والظلام، بدأ عصر التنوير في فترة حكمه، فعلى ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ، ﺑﺪﺃ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻴﻮﻥ ﻓﻲ ﺗﻄﻮﻳﺮ ﺃﺳﺎﻟﻴﺒﻬﻢ ﺍﻟﻔﻨﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﻌﻤﺎﺭﻳﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﺍﻷﺳﺎﻟﻴﺐ ﺍﻟﻤﺼﺮﻳﺔ. ﻭﺍﺧﺘﺮﻋﻮﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﺍﻟﻤﺮﻭﻳَّﺔ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺣﻠﺖ ﻣﺤﻞ ﺍﻟﻤﺼﺮﻳﺔ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻔﺘﺮﺓ.
السبب في هذا التحول أن الملك أركماني كان ﻗﺪ ﻧﺎﻝ ﻗﺪﺭﺍً ﻛﺒﻴﺮﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﺍﻹﻏﺮﻳﻘﻲ اكتسبه بسبب الانفتاح على الآخر، إضافة إلى ﺍﺯﺩﻫﺎﺭﺍﻟﺼﻼﺕ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﻳﺔ ﺑﻴﻦ ﻣﻤﻠﻜﺔ ﻣﺮﻭﻱ ﻭﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻷﺑﻴﺾ ﺍﻟﻤﺘﻮﺳﻂ.
إن تفرد ﺃﺭﻛﻣﺎﻧﻲ يتمثل في ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﺍﻷﻭﻝ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﻣﻠﻮﻙ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﻘﺪﻳﻢ ﻋﻤﻮﻣﺎً ﻭﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﺍﻟﻘﺪﻳﻢ ﺗﺤﺪﻳﺪﺍً ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻋﻠﻦ ﺛﻮﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻭﻧﺎﺩﻯ ﺑﻔﺼﻞ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻋﻦ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ، ﻭﺛﺒﺖ ﻭﺍﻗﻊ ﺍﻟﻔﺼﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻤﺎﺭﺳﺘﻴﻦ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ. وﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺛﻮﺭﺗﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻜﻬﻨﺔ ﻭﺗﺪﻣﻴﺮ ﻣﻌﺒﺪ ﺁﻣﻮﻥ ﺛﻮﺭﺓ ﺿﺪ ﺍﻟﺪﻳﻦ، بدليل أنه أحل محله ديناً آخر واختار الإله الأسد أبادماك راعياً للدولة وسلطتها. ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺛﻮﺭﺓ ﻟﻠﻘﻀﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﺩﻋﺎﺀ ﺍﻟﻄﺒﻘﺔ ﺍﻟﻜﻬﻨﻮﺗﻴﺔ باحتكار ﺍﻟﺴﻠﻄﺘﻴﻦ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻭﺍﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ، ﻭﺍﺣﺘﻜﺎﺭ ﺍﻟﺤﻖ ﻓﻲ ﺗﻌﻴﻴﻦ ﺍﻟﻤﻠﻮﻙ ﻭﺇﻗﺼﺎﺋﻬﻢ ﻋﺒﺮ ﺗﻘﺎﻟﻴﺪ ﺍﻻﻏﺘﻴﺎﻝ ﺍﻟﻄﻘﻮﺳﻲ ﻟﻠﻤﻠﻮﻙ ﻭﻓﻖ ﻣﺎ ﻳﺪﻋﻮﻧﻪ ﻣﻦ ﺣﻖ ﻓﻲ ﺗﻔﺴﻴﺮ ﺍﻟﻮﺣﻲ ﺍﻹﻟﻬﻲ .
الهرم الذي يضم أركماني ما زال ماثلاً في مروي. والفكر الذي يحمله، ما زال هناك من يحييه حيث وجد إيمان حقيقي.
24.ae