قصة لاجئة سورية استخدمت الطعام للتعريف بقضية بلدها
كانت وحيدة، انفصلت عن أطفالها، دون منزل أو عمل، وواجهت ظروفا يمكن أن تحطم أقوى المعنويات، لكن ماجدة خوري رفضت أن تستسلم.
لقد اتجهت إلى شيء تطلعت أن يبني لها حياة جديدة. إنه الطعام.
أول عشاء كبير استضافته ماجدة كان غريبا، حيث قائمة الطعام لم تكن مشهية، وضيوف الشرف لم يكن بإمكانهم الحضور.
ورغم أنها كانت قد وصلت إلى بريطانيا قبل موعد ذلك العشاء بخمسة أشهر فقط، إلا أن قائمة الضيوف الطويلة الذين حضروا كانت مدعاة للفخر.
ظهر متحدثان على شاشة عبر موقع سكايب في مكان اللقاء المريح في لندن، وحينما نظر الضيوف إلى ما وراء وجه أحدهما رأوا جدرانا خرقتها آثار القصف.
كان المتحدثان طبيبا وناشطا حقوقيا.
وشرح الشخصان، اللذان يعيشان في بلدة الغوطة الشرقية التي مزقتها الحرب في سوريا، للضيوف ما يعانيه المدنيون هناك، بعد خمس سنوات من الحصار والجوع، وتدمير المستشفيات وهجمات كيميائية، وقصف وحشي من جانب الجيش السوري والقوات الموالية الرئيس بشار الأسد. مجرد مغادرة المنزل قد تكون سببا في قتلهم.
وبعد أن استمع الحاضرون لحديث الناشطين، تناولوا حساء خفيفا، “لأنه هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتناوله سكان الغوطة الشرقية”.
وتتذكر ماجدة، البالغة من العمر 46 عاما، أنها غادرت ذلك المكان سعيدة، وتحمل معها أكثر من 100 خطاب، تطالب الحكومة البريطانية بتحرك إنساني.
وعلى الرغم من أن أشياء بسيطة مثل مشاركة مائدة العشاء لن تحل أزمة اللاجئين، فإن وجبات مثل تلك هي الطريقة التي تجد بها ماجدة، وهي ناشطة سورية في مجال حقوق الإنسان فرت إلى بريطانيا عام 2017، مكانا في قلوب الغرباء الذين تقابلهم.
إطعام الناس يعطيها فرصة لتحكي قصتها. إنه يساعدها على الاستمرار في العمل الذي اضطهدت بسببه في بلدها سوريا.
والأهم أن عملها تسبب في حرمانها من ولديها، اللذين صارا أكبر سنا في دمشق، الطعام ساعد ماجدة على بناء عائلة ثانية لها تتكون من أصدقاء جدد.
لم ترغب ماجدة يوما في العيش في بريطانيا. وقبل الانتفاضة في بلدها كانت تتمتع بحياة مميزة، وتعمل مستشارة أطفال، وتدير مركزا لتعليم الأسرة.
لقد استمتعت بتربية ولديها هادي وكريم، وعاشت معهما ومع زوجها في “منزل جميل” في دمشق.
حينما اندلعت المظاهرات ضد حكم الأسد عام 2011، انضمت إليها ماجدة، لكنها توقفت عن ذلك، حينما تصاعدت تلك التظاهرات وتحولت إلى نزاع مسلح.
وبدلا من ذلك، تحولت إلى مساعدة ضحايا الحرب. لكن في عام 2015 سجنت ماجدة، بسبب مساعدتها في إطعام اللاجئين الذين يصلون المدينة قادمين من أنحاء سوريا.
وتُتهم الحكومة السورية، وجماعات المعارضة المسلحة، باستخدام الطعام كسلاح، ومنع وصول الإمدادات إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
وتقول ماجدة: “لأني امرأة مسيحية ثرية كنت أستطيع عبور نقاط التفتيش، ومن ثم اعتدت أن أهرب الخبز لإطعام الناس. لم أستطع أن أشاهدهم يموتون جوعا”.
وخوفا على سلامة عائلتها، فرت ماجدة إلى لبنان المجاورة، وتركت ولديها مع والدهم. وكانت أعمارهم 13 و15 عاما.
الوجود في لبنان كناشطة أمر محفوف بالمخاطر. لكنها استمرت، وفي عام 2017 دعيت للحديث في مؤتمر في بريطانيا.
وبينما كانت في بريطاينا تلقت ماجدة خبرا بأن زملاءها اعتقلوا، ومن ثم اعتقدت أنها في خطر، وسعت إلى اللجوء السياسي في بريطانيا.
وتحولت من كونها مدافعة عن اللاجئين إلى واحدة منهم، وانفصلت إلى أجل غير مسمى عن عائلتها وبلدها.
كانت الأسابيع الأولى لها في بريطانيا صعبة للغاية، لكنها اكتشفت سريعا أن المطبخ الدمشقي له عشاق في لندن.
الطعام ركن أساسي في الثقافة والعائلة السورية. فهو في الغالب معقد، ومليء بالمكونات الغنية والملونة. ويقال إن “العين تأكل قبل الفم”.
وأغلب النساء في سوريا لا يعملن، وفي عام 2013 كان 14 في المئة فقط من القوة العاملة من النساء، ولذلك فإنهن لا يزلن يقمن بمعظم الأعمال المنزلية والطبخ.
وتقول ماجدة: “مساحة مطبخنا ضعف مساحة المطابخ في بريطانيا. إنه جزء مهم للغاية من المنزل السوري. لقد طبخت لزوجي وأبنائي، وأحبوا طعامي كثيرا خاصة طريقة تقديمي للوجبات”.
قبل أن تعطل الحرب الحياة الطبيعية في سوريا، كانت الأم أو الزوجة ربما تقضي ساعات كل يوم، تقوم بفرم وتقشير وشواء وإعداد مكونات الطعام.
وتقول ماجدة ضاحكة: “النساء السوريات صبورات للغاية، لأننا علينا أن نصنع الكثير من الأطباق. على سبيل المثال نقضي ثلاث ساعات في عمل اليبرق (محشي ورق العنب)، ثم يأكلونه في ثوان معدودة. نحن لا نستخدم ملاعق لقياس المقادير، نحن فقط نعرف ما يجب إضافته للطعام”.
طالبو اللجوء في بريطانيا غير مسموح لهم بالعمل، وأمضت ماجدة عامها الأول في لندن معتمدة على كرم الغرباء، ونقلت مكان سكنها خمس مرات.
وفي كل مكان، كانت تعمل ماجدة على التأكد من أنه ليس هناك جائع. لكن كما يعلم أي طباخ، فإن التكيف مع مطبخ شخص آخر وعاداته إنجاز كبير.
وأقامت ماجدة في البداية مع زوجين من فرنسا وإيطاليا.
وقالت: “لقد كان لديهم مطبخ رائع، صغير لكنه مليء بالأدوات. لقد كنا نتنافس كل ليلة لكي نرى من سيطبخ أفضل”.
وفي مكان آخر، تناولت ماجدة غداء كل يوم مع مضيفها، الذي تقاعد بينما لا تزال زوجته تعمل.
وتقول: “لا زلنا أصدقاء حتى الآن، وأرسلوا لي رسائل بأنهم افتقدوا طعامي”.
كما عاشت مع امرأة سورية أخرى، تطعم أبناءها حينما تكون في العمل. وتقول: “لا أزلت أرسل لهم بعض الأطعمة، حينما أصنع شيئا أعلم أنهم يحبونه”.
“شعرت بأني قادرة على رد بعض الشيء للناس الذين أقمت معهم”.
والتقت ماجدة بالقدماء والقادمين الجدد من الجالية السورية المتنامية في لندن.
وتقول: “هناك الكثير من الطلاب الذين يقيمون بمفردهم هنا، لذلك أسألهم: ماذا تفتقدون من طعام أمهاتكم؟ ثم أصنعه وأقدمه لهم”.
وتعاني ماجدة من أجل أن تنسى زملاءها السوريين، الذين تشعر بأنها “تخلت عنهم”.
وتقول: “لم يكن لدي الحق في الرحيل. أشعر بالذنب، لأن هناك أناسا مثلي بدأوا تلك المظاهرات ضد الحكومة السورية، ثم غادرنا نحن. أشعر أنني بعيدة للغاية عنهم وعن معاناتهم. أرغب في الاستمرار في عملي”.
باعتبارها طالبة لجوء من خلفية حضرية ثرية، تتمتع ماجدة بمكانة أقوى، مقارنة بالكثير من اللاجئين السوريين في بريطانيا. وأغلبهم تأهلوا للقدوم إلى بريطانيا بسبب إعاقاتهم أو مشكلاتهم الصحية، ما جعلهم يقبلون ضمن برنامج الحكومة المسمى إعادة توطين الأشخاص المستضعفين.
تتحدث ماجدة الإنجليزية جيدا، كما أن ثقتها بنفسها وحضورها القيادي يظهر أنها معتادة على أن يسمعها الناس.
وكان أحد قراراتها المبكرة في لندن هو الانضمام إلى مجموعة من اللاجئين معنية بالطبخ، وتديرها منظمة خيرية.
وتجمع هذه الجماعة بين سكان لندن واللاجئين، لتعلم الوصفات ومشاركة الوجبات.
وتعطي ماجدة حصتين أسبوعيا، حيث تعلمهم إعداد الوجبات البسيطة لكن الجميلة، التي يمكن أن يصنعوها داخل المنزل.
وواحد من أسهل الأطباق هو المتبل، ويصنع من مزج الباذنجان المدخن مع الطحينة (صلصلة السمسم)، والزبادي والليمون، وعصير الرمان والثوم.
حينما جاءت إلى لندن في البداية، كانت ترغب ماجدة في الحديث إلى كل شخص تقابله عن الحرب، معتقدة أنهم لا يفهمون الصورة الكاملة، لكنها وجدت أن ذلك يسبب الإحباط والإرهاق للناس.
لكن عندما بدأت في تدريس فن الطبخ، اكتشفت أن وجبات العشاء منحتها فرصة حقيقة، للحديث والاستمرار في نشاطها الحقوقي.
وعلى مائدة الطعام، تصف ماجدة إلى أي مدى يستهدف المدنيون في الحرب السورية، وكيف أن “الرئيس بشار الأسد قمع” الحركة المطالبة بالديمقراطية.
وربما لا يتقبل الجميع تلقي درسا في السياسة على مائدة العشاء، لكن ماجدة تقول إن أغلب الناس يتجاوبون.
طبخ الطعام الذي اعتادت عليه ماجدة مسل، كما يعطيها إحساسا بالكرامة في مواجهة الشفقة، التي تشعر بها من المنظمات أو الأشخاص، الذين يرون اللاجئين حالات تقف المنظمات الخيرية أمامها”عاجزة”.
كما أن الطعام يربطها بوطنها، الذي لم ترغب يوما في مغادرته، وهو أيضا شريان حياة، ووسيلتها للقاء الناس وإيجاد هدف في المنفى.
وفي أبريل/ نيسان السابق، وضعت ماجدة مائدة العشاء في منزل آخر غير مألوف لها، وبعد شهور من انتظار تأشيرة للم شمل الأسرة، عاد أخيرا ولداها ليجتمعا بها.
وحالت الإيجارات العالية في لندن عن إيجاد مسكن لماجدة وولديها، لكن زوجان من سوريا وأيرلندا دعوهم، ليقيموا معهما أياما قليلة للم شملهم.
وتقول: “علما أني أرغب في إعداد وجبة لأبنائي. لقد كان لديهم مطبخ متميز جدا. أخذوني إلى متجر سوري، لكي أستطيع شراء ما احتاجه للطبخ”.
وأضافت: “أعددت الطبق المفضل لأبنائي، وهو الشاكرية (لحم أو دجاج مطبوخ في زبادي وأرز)، مع المتبل وسلطة التبولة. لقد كان حقا عشاء رائعا تناولناه معا”.
الولدان المراهقان، اللذان تعلما الإنجليزية في مدارس سوريا، خجولان، لكنهما يتكيفان مع الحياة في بريطانيا.
وتقول ماجدة: “عائلتي تحب الطعام البريطاني لأنه غني بالدهون، إنهم يحبون الدهون”.
وتضيف: “صنعت لهم إفطارا إنجليزيا حينما وصلوا، لكن أنا شخصيا معدتي لا تتقبله”.
وتقول ماجدة إنها تستيقظ كل يوم، على أمل أن تعود إلى سوريا. إنها لا ترغب في أن “تبقى بلدها تحت سيطرة حكومة الأسد” .
لكنها تأمل أيضا في أن تبدأ عملها التجاري الخاص في لندن، وذلك عبر استئجار مطبخ، وتوفير فرص عمل لنساء سوريات أخريات. وتعتقد أن المطبخ السوري يلقى إقبالا متزايدا في لندن.
وحينما انتقلت ماجدة وولداها هادي وكريم إلى منزلهم الجديد أخيرا، أقامت حفلا بهذه المناسبة. وأحضر المدعوون هدايا، لكي يشعروهم بأنهم في بلدهم.
ولأنهم يعرفون ماجدة جيدا، أحضروا لها قدور الطبخ، وأوعية قلي الطعام والسكاكين، وكل الأشياء التي يحتاجها مطبخ عائلي جيد.
بي بي سي عربية