نجومية الكاتب تتحقق بالتراكم لا برواية واحدة
الهروب من سكة الأدب ليست ظاهرة جديدة، والحكم على الأديب يتم من خلال تقصي مجمل أعماله نقديا أو تحليليا.
رواية “أزهار عبّاد الشمس العمياء” هي الرواية الوحيدة للإسباني ألبرتو منديس، أعادت إلى الأذهان ظاهرة الرواية اليتيمة لكاتبها الذي يبني مجده الأدبي معتمدا على عمل وحيد، حقا كان رحيل الكاتب هو السبب في عدم مراكمة إبداعاته، لكن الكثيرين غيره في الشرق والغرب توقفوا تماما بعد نجاح عملهم الأول، فإلى أي مدى يمكن أن يسهم عمل وحيد لكاتب في تحقيق نجوميته؟
يقول الروائي السوداني أمير تاج السر “حقيقة كتابة عمل إبداعي واحد والتوقف بعده، أو ما أسميه الهروب من سكة الأدب ليست ظاهرة جديدة، وإنما تتكرر دائما في الأجيال الكتابية المتعاقبة، وغالبا ما تكون هناك محاولات من قبل الكاتب قبل أن ينشر عمله الوحيد، أي أنه ليس العمل الأول، وإنما العمل الناضج الذي سيؤهله للظهور كاتبا محترما، وسيبقى ما أنجزه عالقا بأذهان الناس لفترة طويلة، ولا يهم إن كتب بعده شيئا أو لم يكتب، وترد إلى ذهني دائما روايات مثل ‘الفهد’ للإيطالي لومبيدوزا، أو ‘البركان’ للأميركي مالكولم لاوري، وكلاهما من الروايات التي وضعت أصحابها في مكانة متقدمة من سماء الأدب، لكنهما لم يكتبا غيرها”.
ويضيف صاحب “صائد اليرقات”، إنه “لا أحد يدري ما هي الأسباب الحقيقية لذلك، لكن غالبا ما كانت لدى الكاتبين، وغيرهما من الكتاب المماثلين، شحنات مزعجة، تمثل تجارب حياتية معينة، أو مواقف قاهرة قد مرّوا بها، أجبرتهم على الكتابة، ولم يعد ثمة ما يقال”.
الرواية الوحيدة لألبرتو منديسالرواية الوحيدة لألبرتو منديس
يقول الأكاديمي المصري حسام عقل “ليس من المنطقي أو المعقول أن تقوم شهرة أي مبدع على عمل واحد فقط لا غير، ولكن هناك ظروف معينة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية تجعل من العمل الواحد ذائع الشهرة بين الناس وهذا استثناء لا يمكن القياس عليه مثل رواية ‘ذهب مع الريح’ أو ‘كوخ العم توم’ وغيرهما، فالأديب يتم الحكم عليه من خلال تقصي مجمل أعماله نقديا أو تحليليا؛ فبعضها يكون جيدا والبعض يكون متواضعا، وموضوع العمل الواحد لا أعتقد أنه قاعدة يمكن الانطلاق منها أو يمكن من خلالها تقييم الأعمال الإبداعية لأي مبدع”.
ويضيف عقل “هناك ثلة من المبدعين، عاشوا على ميراث نص وحيد، حقّق لهم ما يأملون فيه من الذيوع، فاستناموا لذلك كل الاستنامة، وبقوا حبيسي النص الواحد، ومثالا لا حصرا لم يستطع أحمد فتحي الخروج من عباءة قصيدة ‘الكرنك’ التي حقّقت له ذيوعا لافتا، خصوصا بعد أن غرد بها محمد عبدالوهاب، واستنام أحمد فتحي لنجاحات النص الأول ولم يستطع الخروج من عباءته مطلقا، وفي ساحة السرد بقيت رائعة عادل كامل ‘مليم الأكبر’ حالة نجاح وحيدة، لم يستطع أن يتجاوزها، ولم يأنس في نفسه من الإرادة النافذة ما يستطيع به أن يتجاوز نجاحات التجربة الأولى وإغراءاتها”.
ويرى الأكاديمي المصري أن هذه ظاهرة عالمية، فلم يستطع باولو كويلو، أن يقارب نجاحات “الخيميائي”، التي مثلت حالة نجاح شديدة الفرادة والخصوصية، فترجمت إلى ثمانين لغة، وبيع منها ما يقارب مئة وخمسين مليون نسخة، وهو سقف نجاح كان من المتعذر تكراره.
ويقول “في تقديري إنه على الكاتب ألّا يستنيم لخدر النجاحات الأولى، فنجيب محفوظ مثلا، كان نموذجا فذا لطاقة التجاوز المستمرة، فلم يسجن طاقته السردية الخلاقة في قفص النموذج الواقعي الذي حقّق له أعز النجاحات، وطوى صفحته إلى النماذج الفانتازية والرمزية والفلسفية في ‘قلب الليل’ و’رأيت فيما يرى النائم’ و’أحلام فترة النقاهة’ وغيرها من النصوص التي تمرد بها على ذاته”.
ويقر الروائي السوداني عماد البليك بالظاهرة، فيقول “نعم يمكن للكاتب أن يبني مجده من عمل واحد فقط، على سبيل المثال مارغريت ميتشل في ‘ذهب مع الريح’ وأيضا إميلي برونتي في ‘مرتفعات وذرنج’، خاصة إذا ما رحل هذا الكاتب مبكرا فلم يكمل مشروعه، والفكرة أنه بإمكان عمل أن يختمر ويلخص فكرة وتجربة هذا الإنسان، وليس شرطا في أي سن قد كتبت هذه الرواية، وفي السودان على سبيل المثال تأسست الرواية كفن حديث، عندنا على الكاتبة ملكة الدار محمد من عمل واحد لها هو ‘الفراغ العريض’ الذي كتب في 1948 ونشر في 1970 وكان كافيا ليصنع اسمها، بل إنها تسبق الطيب صالح زمنيا باعتبار توقيت الكتابة وليس النشر ويعتبرها بعض النقاد مؤسسة الرواية السودانية”.
القاهرة – صحيفة العرب