الخبير الاقتصادي د. التجاني الطيب إبراهيم يكتب: موازنة 2018م.. أداء الربع الأول وما بعده
تحليل الأداء الفعلي للربع الأول من موازنة 2018م ، يضع الحكومة أمام خيارين: الإصلاح مجذر الأسباب والحلول أو استمرار الدوران في نفق الأزمات التراكمية المتلاحقة
الاعتماد على الشعارات وسياسات التسكين المتبعة حالياً لن تؤدي إلا إلى المزيد من تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، التي ما عادت تحتمل التسويف والدوران حول الحلقة المفرغة
الخروج من نفق أزمات الاقتصاد الحالية يتطلب الدقة في تحديد خيارات وأهداف السياسات الاقتصادية والمالية، لكبح جماح غلاء الأسعار واستعادة الثقة في مؤسسات وسياسات الدولة
تشجيع الاستثمار واعتماد حزمة من السياسات القطاعية والهيكلية تنفذ بالتزامن مع السياسات الكلية المطلوبة المخرج من نفق الازمة الاقتصادية
هناك اختلافاً وتضارباً صارخين في أرقام إنتاج وصادرات الذهب، الصادر الرئيسي هذا التضارب والتناقض في الأرقام الرسمية يثير عدة تساؤلات
من المتوقع أن يكون العجز الجاري قد وصل إلى أكثر من 9 مليارات جنيه ، وقد يصل إلى 33 مليار جنيه بنهاية العام، ما يفوق العجز المستهدف بنسبة 230% إذا لم تُتخذ تدابير عاجلة لضبط المالية العامة دون اللجوء إلى تقليص الإنفاق التنموي وجيوب المواطنين
ما هي الحكمة في احتكار بنك السودان لشراء وتصدير الذهب وهو لا يشتري أكثر من 13% من الذهب المنتج ويصدر بنفس القدر؟ هذا يعني أن توقع موازنة 2018م ، بأن تصل صادرات الذهب 110 (مائة وعشرة) طن بنهاية العام مجرد حلم من نسج الخيال
==========
ترحب (الصيحة) بإطلالة د. التجاني الطيب إبراهيم، الخبير الاقتصادي السابق بصندوق النقد والبنك الدوليين، وزير الدولة للمالية والتخطيط الاقتصادي إبان فترة الديمقراطية الثالثة، والأستاذ المشارك والمحاضر السابق في الاقتصاد الكلي بجامعة الخرطوم وجامعات ومعاهد عليا في ألمانيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية، والمستشار المالي والاقتصادي لعدة مؤسسات إقليمية ودولية، عبر صفحاتها بنشرها لمقال قيّم.
وننشر اليوم المقال الذي يأتي نشره بالتزامن مع الزميلة (التيار)، وهو بعنوان: (موازنة 2018م.. أداء الربع الأول وما بعده).
تقديم
في تحليلنا لموازنة العام المالي 2018م، خلصنا إلى أن التحدي الأكبر الذي سيواجه الموازنة يتمثل في، “… استمرار التمادي في معالجة الأعراض بدلاً من استهداف القضايا الحقيقية… أما سياسات المارشات والأوامر الفوقية المتبعة حالياً، فستؤدي في النهاية إلى التوقف الكلي للحركة الاقتصادية في البلاد، ما سيترتب عليه المزيد من تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية (انظر للكاتب: ” موازنة العام المالي 2018م والإطعام بالجوع”، فبراير 2018م). للأسف، هذا ما حدث حيث دخل الاقتصاد في نفق مظلم حسب، “بيان السيد/ وزير المالية والتخطيط الاقتصادي حول أداء موازنة الحكومة القومية للربع الأول من العام 2018م”، أمام المجلس الوطني في مايو 2018م، وما طرأ بعد ذلك من تطورات على أداء مؤشرات الاقتصاد الكلي، خاصة التضخم وانعكاساته السالبة على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كما سنرى فيما يلي.
مؤشرات الاقتصاد الكلي: حسب الإحصائيات الواردة في بيان السيد/ وزير المالية، فقد حقق الاقتصاد السوداني في الربع الأول من العام 2018م، نفس معدل النمو الحقيقي (4%) المقدر في الموازنة للعام بأكمله (جدول1)، مستمداً قوته من مستويات النمو “الإيجابي” في قطاعات الزراعة، والصناعة، والخدمات. لكن عدم الاستقرار الاقتصادي، وعدم اليقين بشأن السياسات الاقتصادية والمالية، خاصة بالنسبة للصادر والمغتربين، واستمرار ضعف الاستثمار العام والخاص في قطاعات الزراعة والصناعة والمعادن – المصادر الأساسية لخلق فرص العمل وموارد النقد الأجنبي – فليس هناك مؤشر لانتعاش يذكر شهدته هذه القطاعات في الربع الأول أو الثاني من العام الجاري. أيضاً ليس هناك دليل على أن القطاع الخارجي قد ساهم بقدر ملحوظ في دعم النمو المذكور نسبةً لضعف أداء الصادر مقارنة مع سرعة وتيرة ارتفاع فاتورة الواردات (جدول1). من الواضح أيضاً أن الأداء المخجل (7%) للاستثمار التنموي المعتمد في الموازنة (جدول2)، هو الآخر ليس داعماً للنمو الرسمي المذكور.
وفوق كل ذلك، فالارتفاع المحموم في معدل التضخم (غلاء الأسعار) – على عكس توقعات الموازنة – أثر سلباً على النمو المستهدف، لأن ارتفاع معدل التضخم يقلص معدل النمو والعكس هو الصحيح. فإذا أخذنا بالقاعدة العلمية بأن النمو الحقيقي يساوي نمو إجمالي الناتج المحلي بالأسعار الجارية (أسعار السوق) ناقص معدل التضخم، فإننا نجد أن النمو الحقيقي للاقتصاد في الربع الأول كان سالباً (-9%)، حسب تضريباتنا (1) و(2) في جدول1. في الربع الثاني، واصل معدل التضخم – الارتفاع من 57,7% في شهر أبريل إلى 63,9% – بنهاية شهر يونيو، حسب إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء، حيث بلغ متوسطه 60,8% للربع الثاني. هذا يؤشر إلى أن النمو الحقيقي تراجع مرة أخرى بنسبة (-15,8%) في الربع الثاني بناء على القاعدة المذكورة أعلاه، ما يعني أن الاقتصاد تراجع بنسبة (-12,4%) في النصف الأول من عمر الموازنة وأن يستمر ضعيفاً حتى نهاية العام، ما يفسر إلى حد كبير حدة الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعيشها البلاد حالياً. أما النمو الإيجابي المحتفى به في الدوائر الرسمية، فمن الواضح أنه لا يوجد إلا في مخيلة مروجيه. فالوضع الاقتصادي المتردي الذي نشهده حالياً ليس بقدر منزل، وإنما نتاج طبيعي للسياسات الارتجالية غير المدروسة التي اتخذتها الحكومة في الأشهر الماضية. فسياسة تقليل الطلب على الدولار الأمريكي والعملات الأخرى قابلة التحويل عالمياً عن طريق تقييد الاستيراد، ورفع سعر صرف الدولار من 6,9 إلى 18 جنيه/ للدولار، والحد من السيولة (عرض النقود)، أدت إلى نتائج عكسية مثلما حدث في الهند خلال العامين الماضيين، حيث ارتفعت أسعار المستهلك بصورة لم يشهدها السودان منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي – كما سنرى لاحقاً – بينما ظل الدولار جالساً على عرشه، وأصبح الحصول على السيولة النقدية مصدراً آخر للفساد المالي والإداري بعد التجنيب.
أما بخصوص وقف تدهور سعر صرف العملة الوطنية، فمن الواضح أن السياسات المتبعة حالياً فاقمت من حدة الاختناقات في جانب العرض (الإنتاج المحلي والاستيراد)، ما أثر سلباً على قيمة الجنيه مقابل العملات الحرة، ما زاد بدوره من وتيرة تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. أما البطء الشديد في حركة مرونة السعر التأشيري/ التحفيزي (29 جنيهاً/ للدولار) لتشجيع الصادر وجلب موارد المغتربين المالية، فقد فشلت في خفض الفجوة بين سوق النقد الأجنبي الرسمي والموازي، حيث اتسعت الفجوة من حوالي 4 جنيهات/للدولار في بدايات الربع الأول إلى أكثر من 13 جنيهاً/للدولار في نهاية أغسطس 2018م، رغم تباطؤ حركة السوق الموازي. لكن حتى لو تسارعت وتيرة مرونة سعر الصرف التأشيري/ التشجيعي، فلن يوقف ذلك نشاط السوق الموازي ما لم توضع سياسة سعر الصرف في إطار حزمة شاملة متكاملة من الإجراءات والسياسات الاقتصادية والمالية تشمل الضبط التدريجي لأوضاع المالية العامة بالانتقال من التركيز على الإنفاق الجاري غير الداعم للنمو إلى الإنفاق التنموي كأسبقية لتحريك القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة، والاهتمام بالبنى التحتية كالتعليم والصحة والنقل، والسماح بشراء النقد بأسعار تتماشى مع أسعار السوق الموازي بهدف بناء احتياطي يمكن البنك المركزي من التدخل في أسواق النقد الأجنبي مستقبلاً، مثل تمويل أكبر قدر ممكن من الواردات عبر القنوات الرسمية، وبالتالي الحد من الطلب على السوق الموازي.
فيما يتعلق بغلاء الأسعار، أي التضخم، فقد ظل خاضعاً لضغوط هائلة في الربع الأول بسبب عدم ضبط المالية العامة – كما سنرى – والإجراءات الحكومية المذكورة سابقاً، والتي ركزت على علاج الأعراض، كسعر الصرف، وأهملت المرض المتمثل في عدم التوازن بين العرض (الإنتاج) والطلب (الاستهلاك) في الاقتصاد الكلي. نتيجة لذلك ارتفع متوسط معدل التضخم – حسب أرقام الجهاز المركزي للإحصاء – من 25% في نهاية ديسمبر 2017م، إلى 52% بنهاية يناير 2018م، ليصل متوسطه في الربع الأول إلى 54%، ما يقارب ضعف المعدل المستهدف للعام بأكمله في الموازنة (جدول1). هذا يعني أن معدل الأسعار (التضخم) ارتفع بنسبة 108% في شهر يناير وحده كأثر مباشر للإجراءات الاقتصادية المنفذة، وبنسبة 116% في الربع الأول نتيجة للآثار المباشرة وغير المباشرة لتلك الإجراءات. للأسف تواصل ارتفاع مستوى التضخم في الربع الثاني من العام، حيث قفز معدل التضخم الشهري من 56% في مارس إلى 64%، في نهاية يونيو ليصل متوسط المعدل إلى 61% في الربع الثاني، ما يعني ارتفاع متوسط أسعار المستهلك بنسبة 115% في النصف الأول من العام مدفوعاً إلى حد كبير باستمرار آثار الإجراءات الاقتصادية المذكورة والموسميات كرمضان وعيده والعمرة P.C.P . وفي حال غياب تنفيذ إجراءات وسياسات إصلاح حقيقي يجذر المشكلة والحل بصورة عاجلة، ستتفاقم الضغوط التضخمية – حتى وإن هدأت في بعض الأحيان – ما سيزيد من حدة الأزمات وتلاحقها قبل الانهيار الكامل على النمط الزيمبابوي.
أيضاً، إذا نظرنا إلى عرض النقود (الكتلة النقدية أو السيولة) في الربع الأول، فواضح أن معدله يتماشى مع نمو الاقتصاد، مع ملاحظة مضاعفة مستواه مقارنة مع المستوى المقدر للعام كله (جدول1)، ما لا يعطي تفسيراً منطقياً لأزمة السيولة التي يشهدها الاقتصاد منذ عدة أشهر، مع ملاحظة أن الحكومة لم تشرح للناس حتى الآن الأسباب الحقيقية للأزمة، ناهيك عن كيفية معالجتها. هذا يقودنا للاعتقاد بأن الأزمة هي نتاج، (1) إجراء حكومي غير معلن لتقييد كمية السيولة في الجهاز المصرفي بهدف الحد من نشاط السوق الموازي لوقف استمرار تدهور سعر صرف العملة الوطنية – السياسة التي ثبت فشلها كما ذكرنا، أو (2) أزمة تعسر مالية خطيرة يمر بها الجهاز المصرفي. طول استمرار الأزمة دون حل، يجعل الاعتقادين أقرب للواقع، خاصة أن تقليل السيولة يعطي متنفساً للجهاز المصرفي لإعادة ترتيب أوضاعه المالية والإدارية. ما يصب في هذا الاتجاه أيضاً، هو أن حملة محاربة الفساد الانتقائية ضد ما يسمى “بالقطط السمان”، انتهت في معظم الأحوال بتسويات مالية (دون عقاب) يمثل جزءاً كبيراً منها سداد التزامات مالية متأخرة للجهاز المصرفي، وما خفي أعظم. لكن التحدي الأكبر الآن سيكون في كيفية وسرعة استعادة الثقة في الجهاز المصرفي وسياسات الحكومة المصرفية والنقدية لدرء الآثار الكارثية للأزمة على حركة الاقتصاد ومعاش المواطن.
على صعيد ميزان المدفوعات (الحساب الخارجي)، استمرت مواطن الضعف في الربع الأول. فقد شهد أداء الصادرات بطئاً ملحوظاً، حوالى 13% فقط من إجمالي تقديرات الموازنة للعام كله بسبب ضعف حركة الاقتصاد الكلي، وتراجع صادرات الذهب، وعدم استعادة الثقة لجلب تحويلات المغتربين والمصدرين والاستثمار الأجنبي المباشر. للأسف بطء انخفاض فاتورة الواردات (21%) من تقديرات العام (جدول1)، لم يكن كافياً لموازنة الآثار الناجمة عن ضعف الصادرات، ما أدى إلى وصول عجز الميزان إلى 43% في الربع الأول وحده، مع توقع أن يظل أداء الحساب الخارجي ضعيفاً طوال العام بسبب توقع استمرار تردي النمو الاقتصادي. هذا يعني أن العجز الكلي لميزان المدفوعات قد يفوق كثيراً العجز المستهدف في الموازنة البالغ قدره 2,4 مليار دولار، ما سيفاقم من الضغوط على سعر الصرف ومستوى التضخم.
ما تجدر الإشارة إليه هنا، أن هناك اختلافاً وتضارباً صارخين في أرقام إنتاج وصادرات الذهب، الصادر الرئيسي. حسب، “بيان وزارة المعادن عن أداء النصف الثاني من العام 2017م وأداء الربع الأول من العام 2018م”، مايو 2018م، صفحة 8 – 9، بلغ إنتاج الذهب 36,5 طن في الربع الأول من عام 2018م، تحصلت منه وزارة المالية على 785 مليون جنيه (27 مليون دولار بالسعر الرسمي 29 جنيها/للدولار) في شكل إيرادات. في بيانه أمن السيد/ وزير المالية على كمية الذهب المنتجة، لكن أضاف أن صادرات الذهب انخفضت بنسبة 43%، ما يعادل 16 طناً، دون ذكر قيمة العائد، (“بيان السيد/ وزير المالية والتخطيط الاقتصادي…).
من جانبها، أعلنت وزراة المعادن أن إنتاج الذهب للنصف الأول من عام 2018م، بلغ 63,3 طن (8 أطنان فقط مشتريات بنك السودان)، صدر منها 10,7 طن بقيمة 423 مليون دولار، ما يعادل 39 مليون دولار للطن الواحد، تفاصيلها كالآتي: 8,5 صادرات بنك السودان، 4 أطنان صادرات الشركات، و (0,8 طن صادر بغرض التصنيع والإعادة، بينما بلغ الفاقد بين الذهب المنتج والمصدر حوالي 49 طنا (انظر جريدة “الرأي العام”، 9 أغسطس 2018م، صفحة 7). لكن أحد أعضاء المجلس الاستشاري لوزارة المعادن كشف أن الذهب المخزن يبلغ أكثر من 200 طن تصل قيمتها أكثر من 16 مليار دولار، ما يساوي 80 مليون دولار للطن (نفس المصدر أعلاه، صفحة 7).
التضارب والتناقض في الأرقام الرسمية لإنتاج وتصدير الذهب يثير عدة تساؤلات: أولاً: ما هي الحكمة في احتكار بنك السودان لشراء وتصدير الذهب وهو لا يشتري أكثر من 13% من الذهب المنتج ويصدر بنفس القدر؟ هذا يعني أن توقع موازنة 2018م ، بأن تصل صادرات الذهب 110 (مائة وعشرة) طن بنهاية العام مجرد حلم من نسج الخيال ستكون له انعكاسات سالبة خطيرة على موارد وأسواق النقد الأجنبي. ثانياً: إذا كان بنك السودان المركزي لا يشتري إلا جزءًا ضئيلاً من الذهب المنتج، فإلى أين يذهب الذهب الفاقد، علماً بأن 87% من الذهب المنتج يخص القطاع التقليدي، و13% ملك لشركات، وكلاهما ليست له طاقة تخزينية تذكر ولا مقدرات مالية تسمح بتخزين كميات كبيرة من الذهب، ما يُعرض الكم الهائل من فاقد الذهب للتهريب بغرض التجنيب أو الاحتيال؟. ثالثاً: قلة الكمية التي يشتريها بنك السودان من الذهب المنتج تدحض الزعم بأن مشتريات البنك من الذهب هي إحدى الأسباب الرئيسية لغلاء الأسعار، الذي يطحن الإقتصاد والمواطن حالياً. رابعاً: أين يوجد الذهب المخزن ومن يمتلكه (حتماً ليس بنك السودان)؟ أما إذا أخذنا أن عائد طن الذهب يساوي 39 مليون دولار، حسب أرقام وزارة المعادن، فإن قيمة مخزون الذهب المذكور (200) طن تساوي 7,8 وليس 16 مليار دولار كما ورد أعلاه. رغم ذلك، فهذا الرقم مقدر ويكفي لتغطية الفجوة في حاجيات السودان من النقد الأجنبي لمدة عامين على الأقل. فما هو السر إذاً في عدم الاستفادة من هذه الموارد لإخراج الاقتصاد والعباد من الأزمات الطاحنة التي يمران بها حالياً؟. كل ذلك يدعو لخروج بنك السودان من سوق الذهب وترك الأمر لجهات مستقلة متخصصة، فالبنك المركزي هو مستشار الحكومة ومسؤول سياساتها النقدية والمصرفية وليس بتاجر ذهب. فواجبه الأساسي هنا ينحصر في التأكد من تحصيل كل عائدات صادر الذهب لدعم احتياطي البلاد من النقد الأجنبي.
أما بالنسبة لأوضاع المالية العامة، فأداء الربع الأول يؤشر إلى أنها لا تزال تنطوي على مخاطر ضعف حادة تشمل الآتي: –
على صعيد الإيرادات الكلية، فقد كان الأداء مقدراً (28%)، بسبب رفع دولار جمارك الواردات بنسبة 161% مع عدم تراجع ملحوظ في حجم الواردات، ما أثر إيجاباً على أداء الإيرادات الضريبية (24%)، رغم فتور النشاط الاقتصادي وضعف أداء الإيرادات غير الضريبية (17%)، نتيجة لعدم الاستقرار في جنوب السودان، الذي حد من إيرادات رسوم عبور نفطه وتحويلاته الانتقالية (جدول2). مع توقع استمرار ارتفاع الرسوم الإدارية وأداء الواردات والمنح الخارجية، فمن المتوقع أن تكون الإيرادات الكلية قد حافظت على أداء الربع الأول في الربع الثاني وأن تصل مستواها المستهدف في الموازنة (117 مليار جنيه) بنهاية العام. لكن ما يدعو للاستغراب أن بيان السيد/ وزير المالية لم يشر إلى أي أرقام عن نفط الجنوب ومبيعات النفط المحلي، بينما أورد وزير النفط والغاز إحصائيات غاية في الأهمية بالنسبة لأداء الموازنة العامة، تؤشر إلى أن نفط الجنوب لم يتوقف عن التدفق عبر الأراضي السودانية رغم الظروف الأمنية الصعبة هناك! فحسب بيان وزير النفط والغاز، فقد تم في الربع الأول نقل 5,2 مليون برميل من النفط الخام الخاص بشركاء دولة جنوب السودان بقيمة تقديرية بلغت حوالى 63 مليون دولار (“تقرير أداء وزارة النفط والغاز خلال النصف الثاني من العام 2017م والربع الأول من العام 2018م” مايو 2018، صفحة9). أيضاً تم نقل 5 ملايين برميل من النفط الخام الخاص بدولة جنوب السودان بعائدات لحكومة السودان بلغت حوالى 120 مليون دولار، حصل منها عينياً حوالي 2 مليون برميل بقيمة 92 مليون دولار، بواقع 18 ألف برميل يومياً لمحطة أم دباكر (التقرير المذكور أعلاه، صفحة 10). أما بالنسبة لعائدات بيع الخام المحلي، فقد بلغت أكثر من 7 مليارات جنيه، حسب التقرير، وهذا الرقم وحده يفوق إجمالي الإيرادات غير الضريبية، التي وردت في بيان السيد/ وزير المالية (جدول2). هذا كله يثير التساؤل عن مصدر إحصائيات وزارة المالية، والتعجب من عدم التنسيق الفاضح بين وزارات القطاع الاقتصادي.
في جانب الإنفاق، فقد كانت وتيرة ارتفاع الإنفاق الجاري/ التشغيلي (27%) متطابقة مع سرعة زيادة الإيرادات الكلية في الربع الأول، ما أدى إلى الحد من ارتفاع العجز الجاري المستهدف – الإيرادات الكلية ناقص الإنفاق الجاري – (جدول2). هذا والأداء الهزيل للإنفاق على التنمية القومية (7%!) ساعدا بدورهما في تحجيم ارتفاع العجز الكلي للموازنة بالإبقاء على أدائه في حدود 16% فقط. لكن وتيرة ارتفاع الإنفاق الجاري عادة ما تتسارع تدريجياً من الربع الثاني وحتى آخر العام لحرص جهات الإنفاق على صرف اعتماداتها الكلية قبل نهاية العام لتجنب فقدان تلك الموارد وخفض اعتماداتها في الموازنة القادمة. بالإضافة إلى ذلك، فمن المتوقع: (1) قفز الدعم المستهدف في الموازنة من 25 مليار جنيه إلى 41 مليار جنيه (61%) بنهاية العام، مع توقع أكثر من 90% من الزيادة بسبب ارتفاع دعم المحروقات والقمح نتيجة لرفع سعر الصرف من 18 إلى 29 جنيها/ للدولار وزيادة الأسعار العالمية، خاصة بالنسبة للنفط الخام ومشتقاته؛ و(2) ارتفاع تكلفة المشتريات الحكومية من السلع والخدمات بحوالي 8 مليارات جنيه بسبب الارتفاع الحاد في الأسعار المحلية مقارنة مع معدل التضخم المقدر في الموازنة. بالتالي من المتوقع أن يكون العجز الجاري قد وصل إلى أكثر من 9 مليارات جنيه في النصف الأول من العام، وقد يصل إلى 33 مليار جنيه بنهاية العام، ما يفوق العجز المستهدف بنسبة 230% إذا لم تُتخذ تدابير عاجلة لضبط المالية العامة دون اللجوء إلى تقليص الإنفاق التنموي وجيوب المواطنين وافتعال الأزمات في سلع المحروقات والخبز.
ختاماً، تحليل الأداء الفعلي للربع الأول من موازنة 2018م، وما يلي ذلك من تطورات وتوقعات لأداء الاقتصاد الكلي والمالية العامة، يضع الحكومة أمام خيارين: – الإصلاح مجذر الأسباب والحلول أو استمرار الدوران في نفق الأزمات التراكمية المتلاحقة، التي ستؤدي إلى التوقف الكلي للنشاط الاقتصادي (مرض أبو الركب)، وما يلي ذلك من تداعيات اجتماعية وسياسية لها ما بعدها من العواقب الوخيمة. فالخروج من نفق أزمات الاقتصاد الحالية يتطلب الدقة في تحديد خيارات وأهداف السياسات الاقتصادية والمالية، لكبح جماح غلاء الأسعار واستعادة الثقة في مؤسسات وسياسات الدولة بغرض تشجيع الاستثمار وعكس أسبقيات الإنفاق العام من الاستهلاك إلى التنمية لتقوية العرض (الإنتاج)، بالإضافة إلى اعتماد حزمة من السياسات القطاعية والهيكلية تنفذ بالتزامن مع السياسات الكلية المطلوبة. أما الاعتماد على الشعارات وسياسات التسكين المتبعة حالياً فلن تؤدي إلا إلى المزيد من تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، التي ما عادت تحتمل التسويف والدوران حول الحلقة المفرغة.
مشروع موازنة 2018م
جدول1: مؤشرات الاقتصاد الكلي في الربع الأول
(مليارات الجنيهات والدولارات أو%)
البند أداء فعلي 2017م تقديرات 2018م الربع الأول 2018م
إجمالي الناتج المحلي بالأسعار الجارية بالجنيه 824 1,191 1,191
معدل نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي (%) 4,4 4 4
إجمالي الناتج المحلي بالأسعار الجارية (%) ………. 24 (1) 45 (1)
إجمالي الناتج المحلي الحقيقي (1 – التضخم) ………. 2,4 (2) -9 (2)
معدل نمو عرض النقود % 45,6 18,1 37
متوسط معدل التضخم % 34,1 19,5 54
الميزان التجاري بالدولار -2,5 -2,2 -0,94
الصادرات بالدولار 3,9 6,1 0,82
الواردات بالدولار -6,4 -8,3 -1,76
معدل البطالة % 19,1 ………. ……….
و(2) تضريبات الكاتب.
المصدر: “تقديرات مشروع موازنة العام المالي 2018م”، صفحة 17، ” بيان السيد/ وزير المالية والتخطيط الأقتصادي حول أداء موازنة الحكومة القومية للربع الأول من العام 2018م” صفحات 3 – 4، وتضريبات الكاتب.
مشروع موازنة 2018م
جدول2: أداء الربع الأول
(مليارات الجنيهات)
أداء فعلي مستهدف أداء الأداء%
البند (1)2017م (2)2018م (3) الربع الأول (3÷2)
الإيرادات العامة والمنح الخارجية 72,8 116,9 32,1 27,5
الإيرادات الضريبية …….(4) 75,1 18,0 24
الإيرادات غير الضريبية (1) ………. 33,7 5,6 16,6
رسوم عبور نفط الجنوب ………. 8,2 ………. ……….
مبيعات النفط المحلي ………. 11,0 ………. ……….
التحويلات الانتقالية ………. 4,9 ………. ……….
المنح الخارجية ………. 8,1 ………. ……….
الإنفاق التشغيلي (الجاري) 81,2 127,2 34,2 27
العجز/ الفائض الجاري -8,4 -10,3 -2,1 20,4
الإنفاق التنموي القومي (2) 5 18,0 1,2 6,7
صافي الأصول المالية (3) 0,6 1,4 1,4 ……….
العجز الكلي -14 -29,7 -4,7 16
________________________________________________________________
تشمل فوائض الهيئات والشركات، والرسوم الإدارية وعائدات صادر نفط الجنوب وإيرادات متنوعة.
الإنفاق التنموي القومي
صافي الأصول المالية.
… لا توجد أرقام رسمية في الموازنة
المصدر ” تقديرات مشروع موازنة العام المالي 2018م، صفحات 17, 39, 41, 43, 44، ” بيان السيد/ وزير المالية والتخطيط الاقتصادي حول أداء موازنة الحكومة القومية للربع الأول من العام 2018م”، مايو 2018م ، صفحتي 5 – 6، وتضريبات الكاتب.
ماجستير ودكتوراه في الاقتصاد من جامعتي غوتنغن وكولونيا (ألمانيا الاتحادية)، خبير اقتصادي، صندوق النقد والبنك الدوليين، وزير أسبق للمالية والاقتصاد الوطني بالسودان، حالياً مستشار اقتصادي ومالي لعدة منظمات مالية وتنموية عالمية وإقليمية.
صحيفة الصيحة.