رأي ومقالات

لمياء متوكل.. سيرة مختصرة من الحب والجسارة

ربما تكون هذه الكتابة شخصية جدًا، وهى بالفعل كذلك، لكنها عامة أيضًا من وطأة الوجع الشامل، على فداحة الخوف الأشمل، من أن يفارقنا أي شخص عزيز علينا، يصفع الباب خلفه ويمضي.

بدت صورة الصديقة والزميلة الإعلامية لمياء متوكل وهى حليقة الشعر بسبب علاج السرطان، متوحشة أكثر في الجمال، لا كأي مريض في العالم، إذ لم ينتصر عليها المرض، ولا يمكن أن يحدث ذلك لفتاة جسورة، تؤمن بالنهايات السعيدة، وقد وهبت صوتها البشوش لعلاج الأرواح المُعتلة، وكانت آية في الصبر والتضحية منذ تشخيص المرض الذي ألم بها بغتةً.

كان أكثر ما روعني، أنها سوف تذهب إلى مكان لم تألفه بعد، غرفة العلاج بالكيماوي، والتي لا تشبه بأي حال غرفة البلاتوه التي أنفقت فيها بحة صوتها، وعلى المدى البعيد صورتها وهى تلمع على الميكسر في أستوديو متدرج الإضاءة، لكنها هذه المرة تسفع وجهها نسائم القاهرة، وتفتقد الجميع، حتى والدتها التي هى بجوارها، وتحاول أن تضحك مع التماع البرق. إنه الضحك المعافى الذي يقاوم المِحنة، أي محنة ويوحي بأن لا شيء يمكن أن نخسره. صحيح لا شيء يمكن أن نخسره، وما الذي يمكن أن نخسره؟

كانت جدتي يا لمياء تقول لنا دائمًا إن “المرض لا يقتل، اليوم هو الذي يقتل”، وكانت صادقة بالفعل، لأننا شيعنا قبلها الأصحاء من الأهل والأصدقاء، في حوادث السير والغرق والموت المُباغت، أو في الحروب، وبلادنا كما تعلمين، تاريخ متصل من الحروب والشهداء الذين مضوا أيضًا بلا هدف واضح. ولك أن تتخيلي أن جدتي، وهى على فراش الموت، بعد مئة عام من العزلة، عاشتها كما لو أنها أورسولا بطلة ماركيز وسيدة قرية ماكوندو، كانت هي الأخيرة من نساء ذلك الزمان، التي لم يتمكن منها المرض لمئة عام، وعاشت طويلًا ربما لأنها لم تُسَرِف في الحياة.

ما الذي يطمئن أكثر مما هو حتمي؟ بلا شك، كون هذا السرطان يختار لمياء المبدعة تحديدًا من بين ملايين البشر، ويدس سره في جسدها، لتكتب لنا عن معاناتها اليومية (أنا أقوى من السرطان) أو في ذِمة الكيماوي حين تساقط الشعر بالمرة وأسفر عن قمر كامل، وأعني بذلك رسالتك الأخيرة، وعلى جسدك بعض الندوب، وثوب أسود يليق بك، كما بدا في الصور التي قلت إنها صادمة، لكنها لم تكن كذلك، وكان جسدك عصيًا على الإبر المدببة. مع انقضاء أكتوبر الوردي هذا، نحن بحاجة دائمة لكِ، وكل نساء الكون، اللواتي يعشن على الأمل، قط لم يتزحزح يقينهن، أنهن سوف يكسبن معركتهن لا محالة ضد هذا المرض، مهما نهش أجسادهن.

هل قلت لك إننا نحبك جميعنا يا لمياء على أي هيئة أنت فيها؟ ونثق تمامًا بأن كل شيء سوف ينسحق قبالة إيمانك الفولاذي، دون أن يتسرب إليك الوهن. قد يتصدع الجسد إلى درجة أنه يمكن أن يشيخ أو يفنى ولو بعد حين، لكنه أبدًا لا يحتويك، أنت أعمق من ذلك، انعكاس للدواخل والأطياف والذكريات، وتغلغل المشاعر الإنسانية، ومهما تبدل جسدك لن تذبل وسامتك، إطلاقًا يا لمياء.
معركة النساء والسرطان إلى حد سواء هى معركة الرجال، حتى أننا يمكن أن ننهض بالتوعية والرعاية الصحية والدعم النفسي، لأننا بذلك نحافظ على نصفنا الأجمل، نحافظ على الأجيال التي هى ثمرة كفاحنا المشترك، فثمة فرصة كبيرة للشفاء، تقريبًا لأننا مع بعض لا يمكن أن ننهزم بسهولة.

بمجرد أن علمت بإصابتك بذلك الداء اللعين، غمرتني نوبة من الحزن، أو هو خليط من الأسى والذكريات، وطفق صوتك يهز أرجاء المنزل في وقت متأخر من ذلك الليل البعيد (هنا أم درمان) نداء كاد يحطم جدار القلب، نشيد من البوح والحضور، وقد أصبحت الأصوات تحت أشجار النخيل ألطف؛ أصبحت ذات وقع مسائي فريد.

كان صوتك معطنًا بالشجن إلى حد أنني تعلقت بك، وتخيلتك جميلة وذكية ومرحة، كعادة الخيال في عصر الراديو العجيب، فلم يخب ظني بعد أن رأيتك، على نفس الهيئة التي انطبعت في الذاكرة، وفي برنامج “حلو الكلام”، أو في ذلك المقطع القابع في جميع هواتفنا “عفوًا هذا المشترك لا يمكن الوصول إليه حاليًا”، وكنت أقول دائمًا إن الوصول إليك هو الأهم، كم هو مثير للاهتمام أنّ ظروفًا مماثلة خلقت فتاة رائعة مثلك، سيدة الميكروفون والأثير.

وفي خضم مسيرة الجوع والغلاء أضحى التضامن معك فرض عين، لأجل الفقراء الذين طالما تعهدتهم بالرعاية والنذر، وربما لأن كل شيء يوشك على الانهيار في بلادي، تمام يا لمياء، وأصبحنا لا نأمن على أحد فينا من الرباط الخانق الذي يتدلى على رقابنا، وأصبحت الخرطوم الآن تشبه روما القديمة. المدينة تتداعى والساسة يريدون أن يذهبوا إلى مسرح الكولوسيوم.

دعيني أذكرك بآلاف الضحايا، الذين حولوا الألم إلى مناسبة عامة، وينتظرون منك الإلهام والشجاعة لمواصلة القتال، ضد عدو لا مرئي، على غير العادة مع الأمراض التي لها تاريخ وسجلات طبية، حيث يسهل التعامل معها. هو شيء غامض مثل مصائرنا، أو بالأحرى هو المعركة الكبرى التي لا مفر أبدًا من خوضها، وسوف ننتصر فيها يا لمياء بكل تأكيد.

بقلم
عزمي عبد الرازق
عزمي عبد الرازق 2

تعليق واحد

  1. نسأل الله تعالى أن يعافيها و يشفيها شفاء لا يغادر سقما