الخرطوم وواشنطون.. أشباح الماضي
قال القائم بالأعمال الأمريكي ستيفن كوتسيس إنهم سيستخدمون الجولة الثانية من الحوار مع السودان كآلية لضمان العدالة لضحايا العنف الإرهابي.
وتأتي تصريحات الدبلوماسي الأمريكي في إشارة إلى قضايا مرفوعة في المحاكم الأمريكية ضد الخرطوم، تتعلق بتعويضات تصل لنحو 7 مليارات دولار لضحايا تفجيري السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام (1998)، والمدمرة الأمريكية يو إس إس كول (في اليمن عام 2000).
عقبة (كول) في الطريق:
الصحفي المُهتم بالعلاقات السودانية- الأمريكية، خالد عبد العزيز، يذهب إلى أن الإدارة الأمريكية لا يمكن لها أن تتجاوز مسألة التعويضات، والتي أدان القضاء الأمريكي حكومة السودان بالضلوع فيها، وهو ما نفته حكومة السودان في أكثر من مناسبة؛ حيث أن جماعات الضغط ستخدم القضية في مواجهة إدارة ترامب.
ويلفت عبد العزيز إلى أن الحكومة السودانية كان بإمكانها حسم القضية إن تعاملت معها بشكل قانوني منذ البداية، ولم تنظر للقضية باعتبارها سياسية. ويشير عبد العزيز إلى أن الإدارة الأمريكية أظهرت مؤخراً رغبة في تسوية القضية مع الخرطوم.
وفي الثامن من نوفمبر، بدا قضاة المحكمة العليا الأميركية منقسمين أثناء النظر في طعنٍ من السودان، تؤيده الحكومة الأميركية، على تعويضات قيمتها 7,314 مليون دولار لبحارة أميركيين أصيبوا في تفجير المدمرة كول على يد تنظيم القاعدة في عام 2000.
واستمع القضاة إلى مرافعات شفاهية في طعن السودان على حكم محكمة أدنى درجة في 2015 منح التعويضات للبحارة.
ويتركز النزاع حول دفوع السودان بأنه لم يتم إخطاره بشكل صحيح بالدعوى القضائية عندما تم تسليم المطالبات لسفارته في واشنطن في عام 2010، وليس إلى وزير الشؤون الخارجية في العاصمة الخرطوم بموجب القانون الأميركي والدولي.
واتفقت حكومة الرئيس دونالد ترامب مع السودان قائلة إن القضية يمكن أن تؤثر على كيفية معاملة المحاكم الأجنبية للحكومة الأميركية نظراً لأن الولايات المتحدة ترفض الإخطارات القضائية التي تُسلَّم إلى سفاراتها.
وبدا بعض القضاة متقبلين لدفوع الحكومة. ولمَّح القاضي بريت كافانو، أحدث المعينين بالمحكمة، إلى أن محامي البحارة يُهوِّن من شأن المشكلة برغم وجود معاهدة دولية كبرى تحكم العلاقات الدبلوماسية.
وقال كافانو “يبدو أن الولايات المتحدة وكل الدول الأعضاء في اتفاقية فيينا تقول، في الواقع، إنه أمر مهم”.
وقال القاضي الليبرالي ستيفن برير إن إرسال أي دعوى إلى وزارة للخارجية ربما يضمن بدرجة أفضل وصولها إلى السلطات المناسبة.
لكن بدا أيضاً أن بعض القضاة الآخرين يؤيدون البحارة. وقال كبير القضاة، جون روبرتس، إنه قد يكون “ملائماً” بدرجة أكبر تلقي إخطار في سفارة.
ويقول خالد عبد العزيز إن الخرطوم مُلزَمة بتسوية القضية خاصة عبر المحكمة، مضيفاً: “أي تسوية بخلاف المحكمة تعني أن التهمة السياسية ما تزال في رقبة الخرطوم”.
وتأتي القضية بعد إصابة 15 بحاراً في الهجوم الذي وقع في 12 أكتوبر عام 2000، والذي رفعوا بعده، هم وثلاثة من أزواجهم، دعوى ضد السودان في 2010 متهمين إياه بتقديم دعم ماديّ للقاعدة في تنفيذ التفجير، وينفي السودان الاتهامات.
وقُتل 17 بحاراً وأصيب العشرات في الهجوم الذي وقع في ميناء عدن اليمني.
وفي عام 2012 أصدر قاضٍ اتحاديّ في واشنطن حكماً غيابيَّاً ضد السودان بتعويضات تبلغ 7.314 مليون دولار. وأمر قاضٍ في نيويورك لاحقاً بنوكاً مُعيَّنة بتسليم أصول لديها مملوكة للسودان لسداد جزءٍ من التعويضات.
وأيدت محكمة استئناف، في نيويورك، تلك القرارات في 2015، رافضة دفوع السودان بأن الدعوى لم تُرفع بما يتفق مع قانون الحصانات السيادية الأجنبية الأميركي الذي يحكم مقاضاة الحكومات الأجنبية أمام المحاكم الأميركية.
ومنذ العام 1993، وضعت واشنطن اسم السودان ضمن قائمة “الدول الراعية للإرهاب”. وفي أكتوبر من العام 2017 صدر قرار بإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان، والذي يرجع تاريخها إلى 5 نوفمبر 1997، وكذلك جميع عناصر الأمر التنفيذي رقم 13412، الذي يرجع تاريخه إلى 13 أكتوبر 2006، وقد وَضَعَ هذان الأمران التنفيذيان مجموعة من العقوبات التي شملت حظراً تجارياً وحجزاً للأصول المرتبطة بالحكومة السودانية.
إلا أن استمرار وجود السودان على لائحة الدول الداعمة للإرهاب، أفقدت القرار فعاليته؛ فلم تَجنِ الخرطوم شيئاً يُذكر سوى على مستوى الاستثمارات طويلة الأجل، بينما ظلت المؤسسات المالية تنظر بتحفظ للتعاملات المالية مع السودان فيما لم يتم النظر لمسألة إعفاء الديون.
غسل الأموال.. مجهودات ومطلوبات
القائم بالأعمال الأمريكي كوتيسس قال إنهم سعيدون بالتزام السودان المعلن بتعزيز قدراته المؤسسية لمكافحة الإرهاب وغسل الأموال، مضيفاً: “مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب أولوية بالنسبة للولايات المتحدة”.
وأشار كوتسيس إلى أن جهود السودان، في مكافحة تمويل الإرهاب وغسل الأموال، سيساعد على إثبات أن السودان يزيد من قدرته على إدارة المخاطر المالية وتطوير أُطرٍ تنظمية تلبي المعايير الدولية وتُسهِّل التجارة والنمو الاقتصادي.
وفي أغسطس 2017 أصدر مؤشر بازل عن تصنيف غسيل الأموال للعام 2017، وحقَّق السودان تقدماً ملحوظاً. وكشف التقرير عن خروج السودان من ضمن الدول العشر الأكثر مخاطر في العالم.
وقال مدير وحدة التحريات المالية والمعلومات بالسودان د. حيدر عباس إنه قد حدث تحسن كبير في تصنيف السودان منذ آخر تقرير, لافتاً أن الجدول المُرفق يُوضِّح ترتيب الدول ذات المخاطر الأعلى، حيث كان السودان ضمن الدول الـ10 الأكثر مخاطر، وتحسن الآن إلى الترتيب 29.
وذكر د. حيدر أن هناك معايير لكل مؤسسة لتقييم المخاطر؛ حيث تأخذ مجموعة العمل المالي في الاعتبار التوصيات الـ40 الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
بينما تأخذ مجموعة بازل في الاعتبار الالتزام بمعايير مجموعة العمل المالي، إضافةً إلى مكافحة الفساد والشفافية وحكم القانون، إضافة إلى تطبيق توصياتها.
مضيفاً أن تصنيف بازل يعتمد على 14 مؤشراً يتم دمجها في الالتزام بالمعايير المالية والشفافية وحكم القانون.
غير أن د. حيدر طالَبَ بمزيدٍ من العمل في تطبيق معايير بازل في البنوك السودانية، والسعي للحصول على تصنيف من قبل مؤسسات التصنيف الإئتماني العالمية.
وأوضح أن هذا التصنيف لا يعتمد تقييم الدول في حجم المتحصلات غير المشروعة الناتجة عن الجرائم الأصلية وجرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ولكنه يقيس التطور الذي يحدث في النظام ككل.
لافتاً إلى أن بازل تهتم بصورة أساسية على التزام المصارف بالمخاطر المصرفية الناتجة عن ممارسة أعمالها؛ مثل مخاطر التمويل ومخاطر التشغيل ومخاطر السيولة والمخاطر الاستراتيجية وغيرها.
وشدد. حيدر على ضرورة الإسراع في تطبيق توصيات بازل الثانية والثالثة حتى يتحسن التصنيف في العام 2018.
وأشارت جماعات ضغط أمريكية في وقت سابق إلى أن خطة المسارات الخمسة التي اعتمدتها إدارة باراك أوباما للتعاون مع الخرطوم لا ترتبط مباشرة بالإصلاح السياسي وإصلاح الحكم في السودان، ولأن نظام العقوبات الشاملة كان معيباً في تصميمه وتنفيذه، فمن الضروري أن ترتبط المجموعة الجديدة من الأهداف بضغوطٍ جديدةٍ وحوافز جديدة معاً.
ودعت المجموعة إلى أن تشمل الضغوط الجديدة شبكة عقوبات قوية مُحدَّدة للغاية، تستند إلى أفضل المعلومات الاستخباراتية المالية المتاحة، وتستهدف المسؤولين الرئيسيين الذين يقوِّضُون السلام وحقوق الإنسان في السودان وشبكاتهم، مقرونة مع تدابير مكافحة غسيل الأموال المصممة لتحقيق الأهداف الواسعة للسياسة الخارجية الأمريكية، وحماية سلامة النظام المالي الأمريكي.
وطالبت، في ذات الوقت، بتوجيه وحدة الإنفاذ المعنية بالجرائم المالية (FinCEN) التابعة لوزارة الخزانة الأمريكية للتحقيق فيما إذا كان قطاع الذهب أو غيره من الشبكات في السودان يشكل حالة “مثيرة للقلق بشكل خاص فيما يتعلق بمسألة غسيل الأموال”، وأن تصدر الوحدة تعاميم تتعلق بتحقيقاتها، وأن تعمل مع المؤسسات المالية وغيرها من الولايات القضائية للتحقيق بشأن “الشخصيات السياسية السودانية البارزة” وغيرها من الأهداف. هذه الجهود سوف تقصر تركيز القطاع المالي على القضايا الأساسية في السودان، وتساعد على التقليل من التوسع في تجفيف المخاطر (de-risking) مستقبلاً (تجفيف المخاطر مصطلح يُطلق على تجميد الأرصدة المشتبه ضلوعها في الإرهاب أو غسيل الأموال وغيرهما من الأنشطة غير الشرعية- حريات).
شروط ومطلوبات.. جرد حساب
الإدارة الأمريكية أكدت في أكثر من مناسبة التزامها بالتطبيع الكامل مع الخرطوم في أقرب وقت ممكن شريطة تحقيق السودان تقدماً كبيراً في مجال حقوق الإنسان وحرية الأديان، مبدية أملها في رؤية تغيير كبير في بنية حقوق الإنسان وحرية الأديان، معتبرةً أن حقوق الإنسان بمثابة ركيزة أساسية لبناء السلام في السودان والإقليم.
وقالت وزارة الخارجية الأمريكية إنها تتابع بقلق السياسات الحكومية فيما يتعلق بالتمييز ضد النساء والأقليات باسم الدين وتهدد التسامح في المجتمع السوداني، داعية لإجراء إصلاحات تتعلق باحترام القيم العالمية لحقوق الإنسان والمساواة أمام القانون وضمان الحقوق الدستورية للمرأة والطفل والأقليات وحماية الأقليات الدينية والمعتقدات الثقافية، مشيرةً لما تضمَّنَته مباحثات نائب وزير الخارجية الأمريكي للخرطوم مؤخراً.
وجدد القائم بالأعمال الأمريكي كوتسيس التأكيد على أنهم سيقومون برفع السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب في حال إيفاء السودان بالتزاماته فيما يلي توسيع التعاون في مكافحة الإرهاب، وتعزيز حماية حقوق الإنسان وممارستها، وتحسين وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع أنحاء السودان، وإيقاف الأعمال العدائية الداخلية لخلق بيئة مؤاتية للتقدم في عملية السلام، واتخاذ الخطوات اللازمة لمعالجة بعض الإدعاءات المتعلقة بالإرهاب، والالتزام بقرارات مجلس الأمن المتعلقة بكوريا الشمالية.
البنوك الأمريكية… لماذا لا تتعامل مع السودانية؟
أشار كوتسيس إلى أن السودان لديه مصلحة في تحقيق هذه الأهداف الستة. ولفت كوتسيس إلى عدم وجود ما يمنع البنوك والمصارف الأمريكية من التعامل مع نظيرتها في السودان منذ رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان في أكتوبر 2017م، وقال بدء التعاملات بين المصارف الأمريكية والسودانية رهين بقرار المصارف الأمريكية والذي يخضع لعدة عوامل معقدة بحسب تعبيره، وشرح حديثه بالقول إن وضع السودان ضمن لائحة الإرهاب يجعلهم ملتزمين بتلك العقوبات حيث أنهم لا يمكن لهم العمل في بلد ما يزال تحت لائحة الدول الراعية للإرهاب، والأمر الثاني رهين بالأوضاع الاقتصادية في السودان وحسابات الربح.
وأضاف أن الحكومة الأمريكية لا يمكن لها التدخل في هذا الشأن باستثناء العمل على مساعدة السودان في الخروج من لائحة الإرهاب وهو ما يسمح للمصارف الأمريكية بإعادة النظر في التعامل معه، مشيراً إلى أنهم وبسبب لائحة الإرهاب لا يستطيعون تقديم دعم تنمويّ للسودان أو السماح به سواء عبر المؤسسات الأمريكية أو الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد.
القائم بالأعمال: الوقت حان لحوارٍ جاد
من جهة أخرى، دعا القائم بالأعمال الأمريكي الحركات المسلحة والقوى المعارضة المدنية باستغلال الأجواء للوصول لحل سياسيّ وشامل والمضي في تنفيذ خارطة الطريق، لافتاً إلى أنه تواصل مع الحركة الشعبية شمال وحركة تحرير السودان مناوي وحركة العدل والمساواة ونداء السودان لاستغلال الفرصة للتوصل للسلام في إطار حدود السودان، وفقاً لعملية سياسية شاملة، قائلاً: “الوقت حان للتفاوض بشكل جاد”.
مُجَدِّداً دعمهم لجهود رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميادريت للتقريب بين الفرقاء السياسيين في السودان، تحت مظلة الآلية الإفريقية، مؤكداً أنهم لن يدعموا أي عمل عسكري لتحقيق الأهداف السياسية.
الحكومة السودانية.. ماذا ستفعل؟
شرعت السلطات السودانية في إعداد خطة شاملة (2018-2023) لتعزيز أوضاع الحريات وحقوق الإنسان التي باتت تمثل المحاور الرئيسية لأجندة المرحلة الثانية للتطبيع الأمريكي الكامل مع الخرطوم، ورفع اسمها من لائحة الإرهاب، من بينها اتجاه السودان للمصادقة على اتفاقية مناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) وسط توقعات بإلغاء قانون النظام العام.
وفيما يلي، لعب السودان أدوار إيجابية في مجال السلم والأمن الإقليمي؛ فقد نجح السودان في إيجاد تسوية لفرقاء دولة جنوب السودان ويسعى لتكرار النجاح في إفريقيا الوسطى، فيما يلعب أدواراً إقليمية في مجال مكافحة الإرهاب والاتجار بالبشر عبر تحالفات أمنية وإقليمية في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء؛ أبرزها تكوين تحالف عسكري وأمني مع دول ليبيا وتشاد والنيجر، فضلاً عن وجوده في تجمع أجهزة المخابرات الإفريقية (سيسا).
أما نقطة السلام الدائم والمستدام في المنطقتين ودارفور فما يزال يرواح مكانه، لا سيما بعد انشقاق الشعبية الذي عقد الموقف إلا أنه قبل وصول الدرديري لواشنطن فإن الخرطوم وضعت عربوناً وهو تقبل وساطة رئيس دولة جنوب لسودان سلفا كير ميادريت للتقارب مع الشعبية وإيجاد تسوية سياسية، فيما يبدو إيجاد تسوية سياسية مع المعارضة عبر عملية سياسية شاملة بعيداً بعض الشيء.
وفوق كل ذلك، يجب على الخرطوم الوفاء بكل الاشتراطات القانونية المطلوبة لإبطال التنصيف ضمن الدول الراعية للإرهاب: على الحكومة السودانية ضمان عدم القيام بأي دعم للمجموعات المصنفة ضمن لائحة المنظمات الإرهابية. وأن تكون على استعداد لتقديم تعهد كتابي بأن السودان يمتنع عن إقامة أية علاقة مع هذه المجموعات.
في حال الإيفاء بكل الالتزامات السابقة، تتم مراجعة وجوده ضمن لائحة الدول الراعية للإرهاب بالتنسيق مع الجهات القانونية ذات الاختصاص، وأنه إذا تبين أن السودان وجد خالي الطرف فإن على الإدارة إبلاغ الكونغرس بقرارها بشطب السودان من اللائحة.
بجانب ذلك، تسهيل إعفاء الديون بالاشتراك مع الكونغرس، وصندوق النقد والبنك الدولي، لتسهيل إعفاء ديون السودان مع الوضع في الاعتبار شطب السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، وتعهده بالإصلاحات الاقتصادية الضرورية للبدء في عملية إعفاء الديون.
الخرطوم: محمد عبد العزيز
صحيفة السوداني.