رأي ومقالات

مسرحية العساكر أمام الدولة العميقة فى السودان، وفقه الخروج من الأزمة

فى الساحة السودانية مكونات سياسية أربعة ، كل واحدة منها تمثل حقيقة واقعية لا يمكن تجاوزها بحالة من الأحوال ، ومن خطط فى تجاوز تلك الحقائق فهو يعمل فى إسقاط الدولة كمشروع ليصنع تجربة ليبيا فى السودان ، أو يريد تحويل السودان إلى دولة فاشلة كما جرت التجربة فى الصومال ، وهذا أمر مستبعد ، ولكنه ليس مستحيلا ، فما هي المكونات الأربعة ؟

أولا : لدينا مكون أساسي فى السودان ، لا يمكن تجاوزه بسهولة ، وهو المكون الإسلامي المتمثل بالإسلام السياسي ، والإسلام السياسي فى السودان مركب جدا ، وليس بسيطا ، فالحركة الإسلامية متجذرة فى الشعب السوداني ، هناك الحركة السلفية التى لها تمثيل قوي فى الشارع بأدبياتها المختلفة بدءاً من الحركة السلفية المنظمة ( السرورية ) ، ولديها حضور معتبر فى الشارع ، ولها رموز كبار ، وعلماء ودعاة ، كما أن التيار المدخلي له حضور معتبر ، بل وهناك تيارات سلفية أخرى ، أما التيار الإخواني الذى انشطر فى وقت مبكّر ، ما زال موجودا بقوة ، وهناك أكثر من حزب يُؤْمِن بالفكر الإخواني ، ومنهم من خرج من المؤتمر الوطني فى زمن المفاضلة ( المؤتمر الشعبي ) ومنهم من ترك المؤتمر الوطني فى وقت متأخر ( الإصلاح الآن ) بقيادة غازي صلاح الدين ، ومنهم من شارك فى الحكم ، ومنهم من لم يشارك فى الحكم مع المؤتمر ، ولكن الذى لا يستطيع أحد أن يرفضها هو أن الإسلاميين يمثلون شارعا كبيرا ، ولديهم شعبية معتبرة ، بل هناك من الإسلاميين من يمثل الدولة العميقة .

ثانيا : المكون السياسي الأساسي الثانى فى السودان هو مشروع ( التدين السياسي ) المتمثل بالصوفية السياسية ، وخاصة حزب الأمة ، وحزب الإتحاد ، وهما من الأحزاب التقليدية فى السودان ، ولديهما تجربة ثرية فى المعارضة ، وعندهما أتباع من الطرق الصوفية ، كما أن بعض الطرق الصوفية لديها تأثير لا بأس بها فى الشارع .

ثالثا : الشارع السياسي الجديد الذى بدأ يتكون فى زمن الإنقاذ ، فهو شارع سياسي غير منتظم ، ولكنه واعي حدا ، ورافض لكل عمل سياسي يريد أن يختطف الدولة كما فعلت الحركة الإسلامية فى نهاية الثمانينيّات من القرن العشرين بقيادة الدكتور حسن الترابي ، والفريق السيد عمر البشير ، فهذا المكون السياسي قد يتم استغلاله من بعض المنظمات السياسية ذات الأجندات الخفية ، ولكن الخطورة تكمن فى عدم وحود خبرة سياسية فى التعامل مع الملفات الساخنة .

رابعا : المكون الرابع ، والمؤثر سياسيا فى السودان هو الجيش ، والجيش يمثل فى السودان قوة سياسية ، وهو كعادة الجيوش فى العالم الثالث مؤسسة منظمة ، وقوية ، وفاعلة ، وحاضرة فى كل الملفات ، ولها تجربة حكم فى السودان دامت أكثر من تجربة المدنيين ، فالحكم المدني فى السودان لا يتجاوز أكثر من عقد ، بينما الحكم العسكري فى السودان يتجاوز أكثر من عقود خمسة ، وهذا يدل على أن تجربة الجيش فى حكم السودان ثرية ، وخبرتهم عميقة .

ما العمل فى تجاوز الأزمة ما بعد الثورة ؟
……………………………………………………
هناك مخاوف أربعة ، وعقبات حقيقية أمام الثورة السودانية ، وهي هشة ، وليست قوية ، بل عندى أن الثورة فى الجزائر أكثر صلبا من الثورة فى السودان ، والعقبات هي :

– الجيش ومن وراءه من رجالات الدولة العميقة ومؤسساتها ، وأنا لست من الذين يؤمنون بأن الجيش كله معبأ أيديولوجيا ، فهناك من الجيش من ليس من الدولة العميقة ، ولكن ليس من السهولة معرفة العقائد السياسية لضباط الجيش بيد أن الجيش يعتبر مؤسسة وقوة سياسية ، ولديه حظوظ نفسية فى الحكم ، بل والمحيط السياسي للسودان منحاز إلى الجيش بشكل أو بآخر ، وداعم انقلاب عسكري بلباس مدني كما فعل السيسي فى مصر ، ولهذا يعتبر الجيش فى هذه المرحلة فرصة ، وعقبة فى آن واحد .

– المحيط العربي الكاره للثورات الناجحة ، والخائف من الديمقراطية ، والكاره للربيع العربي ، ولدى هذا المحيط مال بلا حدود ، وإغراءات بلا سقف ، ويمثل هذا التيار الخارجي مصر بما تملك من تأثير على السودان ، والسعودية وحلفاءها من الخليجيين .

– القوى الشبابية فى الشارع ، وخاصة الذين يؤمنون بأن الشارع كله معهم ، وهذا يدل على نوع من الغرور السياسي الذى يخرب الثورات ، وتستغل الثورات المضادة فى العمل فى وسط هذه الثغرات .

– الدولة العميقة التى بدأت تختفى من الأنظار ، وقد تعود مرة أخرى لسرقة الثورة كما جرت الأمور فى الدول المجاورة ، ومن هنا نرى أنه لا بد من يقظة غير عادية لحراسة الثورة .

ما العمل فى إنجاح الثورة فى السودان ؟ وما العمل فى الخروج من أزمة ما بعد سقوط رأس النظام ؟
هناك مسألة مهمة للشعب السوداني ، وهي اليقظة ، ثم اليقظة ، ثم اليقظة ، فليس من السهولة أن يسقط رأس النظام ، ثم تتجاوز الثورة السلطة لبناء المرحلة التالية ، فالنظام ليس شخصا واحداً ، بل هو ثقافة سياسية تكونت عقودا ثلاثة ، ومشروعا سياسيا حاول إختطاف الدولة ، وخلق دولا فى داخل الدولة ، ولهذا يكون من الحكمة صناعة مشروع سياسي كامل يخلف هذا المشروع الفاشل ، وهذا يتطلب إلى تحريك العقول لصناعة وعي ثوي عميق، ولكن مما لا بد منه، هو أن الشارع السياسي الحديث يجب أن يكون هو القائد دون أن يقصي أحدا إلا من كان مع النظام الحاكم حتى النهاية.

إن الشعب السوداني يجب أن يكون على حذر من سرقة الثورة داخليا وخارجيا ، وخاصة من محور الشر الذين يتربصون على الثورات ، ويعملون فى إجهاضها ، ويستعدون لتوزيع الرشاوى المالية فى العالم كله لأجل إيقاف الربيع العربي ، وثورات الشعوب ، وتحارب الديمقراطية فى كل مكان من العالمين العربي والإسلامي ، ولأجل أن لا تتم سرقة الثورة فى السودان فلا بد من فتح العيون على محور الشر .

لدينا مسألة ثالثة ، وخطيرة ، ومهمة ، وهي الإبتعاد عن العمل فى الإقصاء ، فلا تنجح ثورة تستخدم لغة الإقصاء ، فالثورة جاءت لتحارب فلسفة الإقصاء ، فمن استخدم هذه اللغة فهو يعمل ضد الثورة ، وتمهد هذه اللغة صناعة الشارع الساخن ضد شارع ساخن آخر ، وكل تيار سوف يعمل حينها لصناعة شارعه ، بل ولدي معلومات من الداخل أن الجيش يخطط لصناعة شارعه ، والمحور المضاد للثورات لديه تجربة فى هذا المجال ، فلا بد من الوقوف أمام هذه المحاولات .

تعتبر الثورة فى السودان والجزائر موجة تالية للربيع العربي ، فالثورات موجات لا تتوقف ، ولكنها قد تتعثر ، وتعمل الثورات المضادة فى إيقافها ، او إفشالها ، ولكن لا يمكن لها ذلك إذا كان لدى الثوار وعيا حقيقيا غير مزيف ، ومن هنا نجد اليوم فى الدوائر القريبة من محور الشر خوفا وهلعا من الموجة الثورية التالية فى السودان والجزائر ، ولهذا حركوا حفتر فى ليبيا ، ويجب فى هذه المرحلة بالذات أن يكون من فقه المرحلة السياسي معرفة الثغور ، ومواجهة الفلول بحكمة وعناد .
بقلم عبد الرحمن بشير
*كاتب جيبوتي