رأي ومقالات

لغز صلاح قوش.. أين اختفى الصندوق الأسود لحكومة البشير؟


لم يحفل تاريخ السودان القريب برجل لفه الغموض الكثيف، وتنطوي دخيلته على أسرار خطيرة مثل الفريق صلاح قوش مدير الأمن والمخابرات السوداني السابق، الذي يعتبر بمثابة الصندوق الأسود لحكومة البشير، وظل الرجل شخصية مثيرة للجدل طوال ثلاثة عقود خلت من حكم الإسلاميين، يعينهم ويعين عليهم أحيانًا، حتى أن  شمس الإنقاذ الصفراء الفاقعة وهى توشك على الرحيل في نيسان/أبريل الماضي، من وراء نفق الاعتصام، كانت تتوارى شيئًا فشيئًا تحت عدسته السوداء.

الآن وبعد نحو شهرين تقريبًا من سقوط البشير واستقالة قوش، ها هو الجنرال القوي يختفى مرة أخرى كلغز حائر، لا يعرف أحد أين مكانه بالضبط، ليجيب على السؤال القلق حول حقيقة ما جرى، هل هو انقلاب أم ثورة؟ وليرد أيضًا على دعوى جنائية ضده بالفساد المالي والإداري!

عودة حذرة للجنرال

خلال النصف الأول من العام الماضي، أطلق الرئيس البشير حربه على الفساد متهمًا من وصفهم بـ”القطط السمان” داخل الدولة بتبديد الأموال وتهريب الذهب، ونتيجة لذلك أُطيح بالفريق محمد عطا مدير جهاز الأمن الوطني والمخابرات من منصبه، وتم إعادة تعيين الفريق صلاح قوش، الذي اتهم سابقًا بمحاولة الانقلاب على الحكومة في كانون الأول/ديسمبر 2012 بمعاونة ضباط من الجيش، وبدا حذرًا بعد ذلك، وسط شكوك متواترة بأن جهة ما هي التي أوحت للبشير بإعادة قوش للمشهد، في الغالب أرادته أن ينهي دورة حكم البشير، وتمكين رجل أمريكا والإمارات في السودان، أي قوش نفسه، وفق موجة اصطفاف المحاور الإقليمية، واستنساخ سيناريو إجهاض الربيع المصري في السودان، وهو تقريبًا السبب الذي جعل البشير بعد أن أدرك تحرك الجيش والأمن ضده، يردد بصوت مختنق “خيانة، خيانة” كما رشح من معلومات.

صفقة ملف الارهاب

وكان صلاح قوش أحد أبرز شخصيات فريق تجسير العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية المتدهورة منذ سنوات بعيدة، إذ رسم الصحفي بجريدة لوس أنجليز تايمز الأميركية كين سلفرستين صبيحة الـ 29 من نيسان/أبريل 2005 تلك المشاهد، قائلًا: “السي آي إيه فتحت أبوابها لرجل قصير بدين ذي وجه طفولي وشارب رفيع وسيجارة ذات دخان مكتوم” بالإشارة إلى قوش، وعندما استوى على مقعد الطائرة كانت تلك أهم خطوة لتحسين العلاقات مع واشنطن، وبذل معلومات استخباراتية في غاية الخطورة، تحت عنوان التعاون الاستراتيجي لمكافحة الإرهاب، وكانت ملفات رئيس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي عاش لنحو سبعة أعوام في الخرطوم، وإليتش راميريز سانشيز، المعروف بـ”كارلوس”، وبعض الجماعات الإسلامية، من بين الملفات الحساسة التي تأبطها قوش في رحلته السرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، دون أن يتضح ما هو ثمن هذا التعاون السخي بالمقابل؟

وكان موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، قد أورد تفاصيل محادثات جمعت رئيس المخابرات السوداني صلاح قوش ومدير الموساد ي يوسي كوهين في ألمانيا مطلع آذار/مارس الماضي. وذلك على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، واصفًا المحادثات بالسرية، ودون علم الرئيس البشير. وكشف الموقع البريطاني وفقًا لمصادره العسكرية عن مؤامرة دبرها حلفاء إسرائيل في الخليج لتنصيب قوش رئيسًا للبلاد على خلفية الانتفاضة التي شهدها السودان، مشيرًا إلى خطة الإمارات والسعودية ومصر لتثبيت “رجلهم” في السلطة.

المدير التنفيذي للانقلاب

بعد إطاحة البشير لحق به رئيس المجلس العسكري السابق ووزير الدفاع عوض بن عوف، وآلت إدارة البلاد رسميًا إلى الفريق عبد الفتاح البرهان، فتداعى رموز النظام القديم، من بينهم صلاح قوش الذي تقدم باستقالته تحت ضغط الشارع، وقال الناطق باسم المجلس العسكري الفريق شمس الدين الكباشي إن ” قوش قيد الإقامة الجبرية” لكن تسريبات صحف الخرطوم شددت على أن مدير المخابرات المستقيل غادر البلاد في جولة خارجية شملت الولايات المتحدة الأمريكية ومصر والإمارات، وسط تكهنات بأن قوش هو الذي يدير البلاد في الخفاء، ويمسك بكافة الخيوط والتدابير، كما أنه بمثابة المدير التنفيذي للانقلاب ضد البشير.

وفي آخر ظهور لمدير المخابرات السابق عبر تطبيق واتساب، كانت قد انزلقت منه رسالة مفادها أنه صاحب جهد في التغيير الذي حدث، على حد زعمه، وأن الصورة أمامه واضحة، لكنه لا يريد أن يتحدث عن حقيقة ما جرى بحكم طبيعة وظيفته الأمنية والائتمان على الأسرار، ومن الأفضل أن يتحدث عنه من شاركوه العمل.

إطلاق النار على النيابة

 بعدها لزم قوش الصمت، حتى كشفت تقارير صحفية عن تواجده في القاهرة، وقال شهود عيان إن قوش يتحرك بين مصر والإمارات وواشنطن، تحت حراسة مشددة، التقى خلالها نافذين في البنتاغون ووكالة الاستخبارات، وأن اللقاءات تناولت مجمل الأوضاع التي تجري الآن بالسودان وكيفية التعاطي معها مستقبلًا. لكن الغريب في الأمر مطالبة “نادي أعضاء النيابة العامة” قبل يومين بإقالة مدير جهاز الأمن والمخابرات الحالي أبوبكر دمبلاب، وإعادة هيكلة الجهاز فورًا، وذلك بعد أن رفضت القوة المكلفة بحراسة مدير جهاز الأمن السابق صلاح قوش، تنفيذ أمر بالقبض عليه وتفتيش منزله، وهددوا وكلاء نيابة وقوة شرطية بإطلاق النار عليهم.

وقال أعضاء النيابة في بيان تلقى “ألترا صوت” نسخة منه أنه على إثر دعوى جنائية أمام نيابة مكافحة الثراء الحرام والمشبوه المتهم فيها صلاح عبدلله قوش، تحركت قوة من الشرطة يرأسها ضابط برتبة عميد وتحت الإشراف المباشر من وكيل أول النيابة لتنفيذ أمر القبض والتفتيش على منزل المُتهم، إلا أن القوة المكلفة بحراسة منزل قوش تصدت لهم، ورفضت تنفيذه، وتذرعت بأنها لم يصدر إليها تعليمات، وأشار البيان إلى أن القوة قفزت إلى أكثر من ذلك ووجهت العربة المسلحة (بالدوشكا) نحو عربة أعضاء النيابة العامة، وقاومت تنفيذ الأمر بالقبض والتفتيش كما هددت القوة المنفذة للأمر باستخدام السلاح الناري على مرأى ومسمع وكلاء النيابة.

الانقلاب المفاهيمي

وأثارت هذه الواقعة عديد الاستفهامات حول طبيعة القوة التي تحرس منزل مدير المخابرات السابق في حي المجاهدين جنوب الخرطوم، ولا تلتزم بتنفيذ القانون، وهل القصد منها التمويه للايحاء بأنه قابع بالداخل أم أن الرجل بالفعل موجود وعلى صلة وثيقة بالمجلس العسكري؟ لا سيما وأن تقارير مختلفة كشفت عن مغادرته الخرطوم بطائرة خاصة، لتسويق مقترح الانتخابات المبكرة بالخارج، واستقطاب الدعم للمجلس العسكري الذي يدير البلاد، بخلاف أن قوش وفقًا لتلك التقارير التقى بقادة الحركات المسلحة قبل سقوط النظام بأشهر، وألمح لهم بوجود رغبة واتجاه إلى نقل مركز السلطة من الشمال إلى الغرب، معتبرًا أن الانقلاب “لا بد أن يكون مفاهيميًا”، لكنه لم يتواصل معهم بعد ذلك، وإن كان قد تواصل مع شخصيات في تجمع المهنيين السودانيين، وربما مد جسور التنسيق معهم لمنح الانقلاب صبغة ثورية، كما يبدو.

ثغرة على جدار القيادة

ثمة إشارة تبدو مهمة، إزاء فكرة الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش، وهي ثغرة فتحتها جهة غير معروفة، وتنامت مثل كرة الثلج، كبرت وتدحرجت لتلتهم حكومة الرئيس المخلوع، وهي غالبًا الثغرة التي أوتي منها نظام البشير، وتذهب كثيرًا القراءات إلى صلاح قوش، وهو الذي صنع تلك الثغرة، وهي شكوك عززتها إفادة رئيس حزب الأمة الصادق المهدي حول محاولة النظام السابق فض الاعتصام. إذ قال المهدي في تصريحات صحفية: “في الأربعاء 10 نيسان/أبريل، التقانا مدير جهاز الأمن والمخابرات صلاح قوش ورئيس المؤتمر الوطني المكلف أحمد هارون. أبلغنا أحمد هارون أن القرار صدر بتفريق الاعتصام بالقوة، فقلت له سوف أنضم إليهم”. لكنه رد على قائلًا “لن تجد من تنضم إليه”، وهنا تدخل قوش بطريقة حاسمة مشيرًا إلى أنه لن يفض الاعتصام بالقوة.

تنحدر أسرة صلاح عبد الله قوش من الشمال الأقصى، وسرعان ما انتقلت إلى بورتسودان، تلك المدينة الساحرة على تلال البحر الأحمر، وكان منذ صغره مولعًا بالعمل السري والمغامرة، ويمتاز بقدر من الذكاء وجمع المعلومات وتحليلها، ما جعل الحركة الإسلامية تقوم بتجنيده داخل كلية الهندسة بجامعة الخرطوم، وربما منذ أيام الثانوي، حيث تدرج بعد ذلك فى التنظيم حتى أصبح مسؤولًا عن جهاز التأمين الخاص الذى تجلت فيه ميوله ومواهبه الاستخبارتية، وبعد تأسيس جهاز الأمن والمخابرات انتدب إليه، وذهب أيضًا لتأسيس مصنع اليرموك للأسلحة الحربية، باعتباره مهندسًا ذا خلفية أمنية فذة، وبعد دمج جهاز الأمن والمخابرات عين مديرًا له، ومن ثم أصبح مستشارًا أمنيًا، وًاتهم بالانقلاب على النظام، وأودع في السجن عدة أشهر، مما جعله ربما يفكر في الانتقام من البشير، ولو بعد حين.

 

العودة والانتقام

طموحات صلاح قوش السياسية  ظهرت قبل إعادة تعيينه مديرًا لجهاز الأمن والمخابرات، وظل في مجمل حوارته وأحاديثه الخاصة يوجه انتقادات للحزب الحاكم، وأداء الدولة، وبدا غير متحمس لإعادة ترشيح البشير لعهدة جديدة، كما شارك في تشكيل قوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان حميدتي الذي أصبح نائبًا لرئيس المجلس العسكري، وتتولى قواته تأمين العاصمة الخرطوم حاليًا، ما يعني أن ثمة علاقة تاريخية خاصة بين قوش وحميدتي ساهمت في إمساكهما معًا بخيوط اللعبة الأمنية والسياسية، أو مغامرة الانقلاب على البشير، وربما الاثنين فقط، قوش وحميدتي، يدركان على وجه الدقة أسباب التغيير وتداعياته المحتملة.

عطفًا على ذلك حاول قوش أن يقدم نفسه ومن يعبر عنهم كبديل لقيادة الحزب الحاكم خلال المرحلة المقبلة، من خلال علاقته الخارجية وإحاطته بالمعلومات الكافية لاتخاذ أيما قرار تقريبًا، وهي مخاطرة لا يمكن أن يقدم عليها إن لم يوقن بالفعل أن الصورة واضحة أمامه، وقد نضجت تفاصيلها، وربما لا يعود بالمرة، أو يصبح رئيسًا للسودان، كما لو أن حكومة الإسلاميين (الإنقاذ) مثل أفعى (الهيدرا) في الأسطورة اليونانية، لها تسعة رؤوس، كلما قُطع واحد، نبت في مكانه رأسان.

عزمي عبد الرازق
كاتب وصحفي من السودان
نقلا عن موقع صوت ألترا