رأي ومقالات

من جمهورية الاعتصام … الى بناء البديل (3- 7 )


تبدو ثورة ديسمبر- أبريل نموذجا أخر لما أطلق عليه الديبلوماسي البريطاني السابق كارني روس في كتابه المعنون “ثورة بلا قيادة”، اذ انها بلا قيادة فردية بارزة و لاتنظيم سياسي واحد كما هو الحال مع مختلف ثورات الربيع العربي.

وهذه نقطة ضعف الثورة وقوتها في أن واحد، اذ لم تنتج بعد كاجامي الخاص بها، أو مشروع المستبد العادل الذي ينتشل البلاد من حالة التدمير الذاتي الى أفاق الاستقرار والنماء كما فعل بول كاجامي في رواندا بعد معاناتها عبر مسيرة ربع قرن من الزمان.

النقطة الاساسية ان كاجامي الغائب عن الساحة السودانية لا يمكن أستنساخه وهو في النهاية لا يتم اختياره وأنما يفرض نفسه. وكل هذا يفرض على قوى الحرية والتغيير وقلبها النابض تجمع المهنيين العمل على تقنين ومأسسة الحراك عبر أهم عنصرين وهما النقابات واللجان الشعبية وتحويلهما من الشرعية الثورية الى الدستورية والاستعانة بالحاضنة الشعبية لمواجهة ضعف جهاز الدولة وتوفير السند الجماهيري للتغيير المنتظر.

نجح تجمع المهنيين في كسب ثقة الناس وتمثل نجاحه في الصدقية العالية التي تمتعت بها بياناته والاستجابة لدعواته بالتظاهر، لكنه مطالب هذه المرة بأحداث نقلة نوعية من العقلية والممارسة المطلبية التي وسمت حركة المهنيين عبر عقود من الزمن الى مربع جديد والعمل من أجل عقد أجتماعي يصبج حجر الاساس في البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي لسودان ما بعد ثورة ديسمبر- ابريل.

تعود جذور تجمع المهنيين الى أواخر الفترة المايوية عندما بدأت بعض النقابات في الاصطفاف رغم عدم الاعتراف بشرعيتها، الا انها عملت على تحدي منظمات النظام القائم وقتها في شكل تحالف بين مايو والاسلاميين. وبعد سقوط النظام المايوي واصلت النقابات جهودها لفترة ثلاث سنوات بعد الانتفاضة لتحصل على قانونها الجديد ولتستعرض قوتها فيما عرف بانتفاضة السكر في ديسمبر 1988، التي فرضت على حكومة الصادق المهدي التراجع عن قرار زيادة سعر تلك السلعة.

وعقب قيام الانقاذ تم تكوين مجلس للاتحادات والنقابات كجسم معارض ويضم النقابات الشرعية للمهندسين والعمال والمعلمين والموظفين. وبتلك الصفة شارك هؤلاء في مؤتمر القضايا المصيرية في اسمرا 1995 كما شاركوا فيما بعد في مفاوضات المصالحة الوطنية بين التجمع الوطني الديموقراطي حامل لواء المعارضة ومع كل من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية فيما عرف باتفاق القاهرة وذلك بعد نيفاشا..

ورغم العودة الى الداخل الا ان هذه النقابات لم تتراجع عن مطلبها الثابت باستعادة شرعيتها وبالتالي استمرت في مقاطعة كل انتخابات نقابة المنشأة والاتحادات المهنية مثلما منذ العام 1992، لكن خلال فترة أكثر من ربع قرن من الزمان قامت بعض الاجسام خاصة في القطاع الطبي بتثبيت وجودها مثل لجان الاطباء أو النواب ولجنة أسترداد النقابة في المستشفيات والمدن والولايات، وهي التي تفاوضت معها وزارة الصحة بل وتوصلت معها الى اتفاقيات في بعض الاحيان.

بدأت عملية إعادة بناء تجمع المهنيين السودانيين بشكله الحالي عقب الانفصال في أواخر العام 2011 حيث برزت نقابة اطباء السودان الشرعية التي تبنت برنامجا يقوم على رفض سياسات النظام الاقتصادية التي أدت الى تدني الاوضاع المعيشية وارتفاع اسعار الدواء ومعارضة سياسات خصخصة القطاع الصحي، الامر الذي وضع الاساس للتحرك الجماعي عبر أنشطة متعددة كعقد ندوات عن الحريات النقابية وقوانينها والتحذير من خطورة هجرة الكوادر المؤهلة والمدربة وأثرها على الأوضاع التعليمية والصحية، ووصف بيئة العمل والأجور بالطاردة والتأكيد على الشروع في استرداد النقابات بصورتها المهنية التقليدية ومناهضة فصل وتشريد المهنيين.

قبل عام تقريبا تم الاعلان عن قيام جسم تنسيقي جديد باسم (تجمع المهنيين السودانيين) من ستة أجسام نقابية معارضة تسعى الى تحقيق أهداف ومطالب مشتركة عبر أنشطة سلمية. وتمكنت بعد سعي حثيث من تحقيق أعتراف رسمي بها عبر لجنة المظالم العامة والادارة والعمل في البرلمان التي نظمت جلسة تفاكرية حول أثر تدني الأجور على الأداء في الخدمة العامة شارك فيها تجمع المهنيين السودانيين بعد أن تلقى دعوة رسمية وفي حضور اتحاد العمال والمجلس الأعلى للأجور ووزارتي العمل والمالية وأعضاء من البرلمان.

وصف تجمع المهنيين الميزانية الاخيرة التي قدمتها الحكومة الى البرلمان انها خنجر آخر يغرس في أجساد الكادحين من العاملين والعاملات بالقطاعات المهنية والعمالية المختلفة ، ومشيرا الى ان التجمع عقد خلال فترة شهرين سلسلة من اللقاءات مع الرأي العام والقوى السياسية والكتل البرلمانية اختتمت بورشة برلمانية عرض فيها التجمع دراسته حول الأجور ومطالبته بإقرار حد أدنى جديد للأجور عند (٨٦٦٤) جنيه كأقل مبلغ يستطيع أن يفي بالحاجات الأساسية للمواطنين وكان ذلك في الثامن عشر من ديسمبر. ومع تفجر المظاهرات رفع التجمع من سقف مطالبة بالاتفاق مع القوى السياسية لتطالب برأس النظام وذلك في موكب يوم الثلاثاء الموافق ٢٥ ديسمبر ٢٠١٨.

من المؤكد ان أي حكومة لن تستطيع رفع الحد الادنى للأجور الى هذا المعدل المقترح، لكن يمكن الاستعاضة عن ذلك ببديل وهو العمل في أتجاه عقد أجتماعي جديد في أطار التغيير السياسي الذي ينتظم البلاد وقفل منافذ هدر الموارد العامة عبر الفساد وسوء الادارة ومواجهة مشكلة البلاد المزمنة المتمثلة في الفجوة الكبيرة بين الانتاج والاستهلاك، والعمل على زيادة الانتاج سواء بتحسين بيئة العمل وأعطاء القطاع دورا أكبر في العمل وفوق ذلك المساواة بين حقوق وواجبات العاملين ولجم الاتجاه الى استخدام سلاح الاضراب وتجنب تكرار تجربة فترة البرلمانية الثالثة، الامر الذي يمكن أن يزيد من موارد الدولة ويوفر الفرصة لتحسين مستوى المعيشة.

وكل هذا سيضع تجمع المهنيين تحت تحد جديد والانتقال من عقلية وممارسات المعارضة بالافق النقابي الى مربع مختلف يضع الهم الوطني العام في المقام الاول وتسويق ذلك سياسيا لقاعدة تتوقع أنجازات ملموسة فيما يتعلق بمعاشها وظروف عملها.

نقطة البداية تتمثل في تقنين حالة الشرعية الثورية الى أخرى دستورية وذلك باصدار قوانين تعيد تكوين اللجان الشعبية وكذلك النقابات والنظرفي أمكانية العودة الى قانون النقابات القديم أو أخضاعه للتعديل ومن ثم يتم أعادة بناء النقابات وفق تمرين ديمقراطي في أجواء معافاة، الامر الذي يساعد على تمتين وحدة قوى الحرية والتغيير وذلك بمفهوم تحويل طاقة المعارضة والرفض التي تحدت الانقاذ وفرضت مسار التغيير الى طاقة بناء ومواجهة لآرث الانقاذ وأهم من ذلك مواجهة أضعف حلقة في البناء الوطني وهي العمل الجماعي. وتوفر بعض الممارسات التي تمت أثناء فترة الاعتصام وتحت شعار “حنبنيهو” عبر مبادرات فردية وجمعية الهاما لآنشطة يمكن أن تغطي مجالات لا حصر لها من النظافة والتجميل خاصة والخريف على الابواب. بل ويمكن لهذه النقابات واللجان الشعبية أن تسد ثغرة الاحصاء التي تعتبر أحد أهم المشاكل التي تواجه بناء الدولة.

ومن قاعدته هذه والصدقية التي يتمتع بها يمكن لتجمع المهنيين أن يستهدي بتجربة الاتحاد العام للشغل التونسي الذي لعب دورا مهما في أحداث توافق بين القوى السياسية مما جعل التجربة التونسية النموذج الوحيد الناجح في تجارب الربيع العربي وبسبب هذه الدور شارك في الحصول على جائزة نوبل في العام 2015 بالرغم من فشله في تحسين الاوضاع المعيشية والاقتصادية لعضويته بل وزيادة نسبة العاطلين عن العمل عما كانت عليه قبل الثورة، على ان أنجازه الاساسي في الجانب السياسي والمساعدة في الوصول الى توافق وطني بين القوتين السياسيتين الرئيسيتين في الساحة التونسية وهما النهضة ونداء تونس، الامر الذي وفر الآساس لتحقيق قدر من الاستقرار السياسي للعبور الى مرحلة الممارسة الديمقراطية التي توفر البيئة الملائمة لنشاط الدولة المدنية.

فمدنية الدولة لا تعني فقط غياب الكاكي عن المشهد وأنما قيام مؤسسات مدنية فاعلة في بيئة مستقرة سياسيا وقادرة على العطاء في مجالات التنمية والخدمات. ولهذا تلعب مؤسسات المجتمع المدني دورا أكبر، ورفع شعاري بسط السلطة وتوليد الثروة والاستعاضة بهما عن الشعارين السابقين قسمة السلطة والثروة، الامر الذي سيشكل نقلة في أتجاه تقليص دور الحكومة في تسيير شؤون الناس ولصالح المجتمع العريض بدلا من النخب.

السر سيد أحمد

سودان تربيون