رأي ومقالات

البداوة السياسية والفكرية ضد الدولة المدنية

إن البداوة مشكلة يجب التحرر منها ، ونقمة على الحياة يجب الإبتعاد عنها ، والمدنية حل لكثير من المشكلات الناتجة من البداوة ، ولكن هناك مسافة نفسية ما بين البداوة والتحضر ، ومسافة زمنية ما بين مرحلة البداوة والتحضر ، وعرفت الدول الكبرى بأن الحل هو انتقال المدنية وخدماتها إلى البادية ، وليس العكس ، فالإنسان البدوي يجب أن يتحضر ويتمدن وهو فى البادية ، ولكن لو انتقل الإنسان إلى المدينة بعقلية وثقافة البادية ، هنا تكون الطامة الكبرى فى الحياة .

هناك ثقافة البادية الناجحة فى مكانها وزمانها ، وتتطلب إلى ثلاثة أمور ، شيوخ كبار يتولون أمور الناس ، ومجتمع لديه علاقات دموية ، وبينهم تضامن حول قضايا الحياة والدفاع عن المشتركات ، وأراض يعيشون عليها ، وفى بعض الأحيان وجود أمر رابع عند بعض القبائل ( النظام الإجتماعي ) الذى يتحاكمون إليه ، وهكذا تبقى الحياة سنوات كثيرة ، بل عقود متطاولة ، ولا تقع فى الحياة تغييرات مهمة ، إنها رتيبة جدا ، ومعروفة سلفا ما يجب القيام به عند الملمّات ، ولكن للمدينة
ثقافة أخرى ، فالمدينة لا تكون مدينة إلا أن تكون أهلها المستوطنين فيها مكونين من مجموعات مختلفة ، وعرقيات متباينة ، فإذا كانت المدينة لا تقبل إلا عرقا واحدا من البشر ، فهي قرية ، وليست مدينة ، فكانت مكة كنموذج قبل الإسلام ( قرية ) ، ولكن يثرِب كانت مدينة قبل الإسلام ، والسبب هو أن الشعب فى مكة فى غالبه كان عرقا واحدا ، بينما كان المجتمع المدني مكونا من عرقيات مختلفة ، ومن هنا سمى الإسلام ( يثرِب ) المدينة .

لقد نقل الإسلام بهذه الخطوة المجتمع البدوي ( العربي ) من مرحلة البداوة إلى مرحلة المدنية ، فأسس لهم دولة ذات دستور ، وللدستور مرجعية فوقية ، وقرر لهم بناء مركز سياسي للدولة ( المسجد ) وأقام نظاما جديدا تستدعيه المدنية ، فآخى بين المهاجرين والأنصار ليكونوا لبنة للدولة ، وجعل الإنتماء إلى الوطن أساسا سياسيا بين المجتمع ، فذكر جميع الناس فى صحيفة المدينة ، وذكر بأنهم أمة واحدة دون الناس ، وحدد للدولة حدودا ، وحدد كذلك مهام السلطة التنفيذية ، ومن له حق التشريع ، وبهذه الخطوة غير العادية انتقل المجتمع من مرحلة البداوة إلى مرحلة المدنية .

كان الناس قبل الإسلام يدافعون عن الدم ، أي عن القبيلة ، فكانت المعارك القبلية تشبه الحروب الأهلية ، ولكن فيما بعد أسس النبي عليه الصلاة والسلام نظاما عسكريا صارما ، وأوجد ثقافة عسكرية للدولة ، وذكر بان من مهام الدولة إعداد القوة العسكرية للدفاع عن الدولة والجغرافيا السياسية ، وفكرة الدولة الأساسية ، بينما كانت المعارك من قبل تتأسس على القبيلة ، فكان المجتمع بهذا المنطق ينتمى إلى البادية ثقافة وفكرا .

ليست المدنية أن تعيش فى مدينة ، وليست الحداثة أن تعيش فى عصر الحداثة ، بل المدنية ثقافة وفكر ، والحداثة نهضة وانتقال من حالة إلى حالة ، وانبهرت أمام قوله تعالى ( والرجز فَاهْجُر ) فلا حضارة مع البداوة ، ولا مدنية مع ثقافة البادية ، ولا نهضة سياسية فى مجتمعا بدوي ، بل لا بد من الانتقال من رجز البادية إلى ثقافة المدنية ، فالبداوة فى غير محلها نقمة ، والخروج منها نعمة ، ومن هنا ورد فى سورة يوسف ما يشير إلى ذلك فى قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام ( وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن ، وجاء بكم من البدو ) ، فقد ربط نبي الله يوسف عليه السلام الخروج من البداوة ، والخروج من السجن ، وهذه لفتة عجيبة ، فالأول يمثل قيدا على الحرية ، ولا حياة بدون حرية ، والثانى يمثل قيدا على الحراك السياسي المنظم ، ولا نهضة بدون دولة ذات مرجعية دستورية ، ومن هنا جعل الخروج من الحالتين نعمة وإحسانا .

تعيش منطقة القرن الأفريقي ، وخاصة الحالة الصومالية مرحلة ما قبل الدولة ، ولهذا تفشل جميع محاولات إقامة الدولة ، فالدولة الحقيقية نتيجة عمل سياسي يقوم على وجود مجتمع مدني ، فلا وجود لدولة حقيقية بدون مجتمع مدنية ، وليس من الممكن قيام مجتمع مدني فى ظل ثقافة البادية ، والسؤال هو كيف نخرج من العقلية البدوية ؟

إن بناء المجتمع المدني يتطلب إلى إيجاد أحزاب سياسية تقوم على الفكر ، لا على العرق ، وجمعيات تقوم على العمل التطوعي ، لا على الربح ، ومدارس فكرية تقوم على النظر والدراسة ، لا على الإستعراض ، وجامعات علمية تحاول فى معالجات الأوضاع ، لا على استنساخ التجارب ، وعقيدة سياسية للدولة تقوم على التراضي ، لا على القهر والقوة ، وجيش قوي يدافع عن الدولة ، ويقوم على عقيدة عسكرية غير مسيسة ، ولا يقوم على المحاصصة القبلية ، ومواجهة ثقافة البداوة بثقافة المدنية بالحكمة والموعظة الحسنة .

إن السبب الرئيسي لفشل الدولة عندنا هو أننا نريد بناء الدولة بلا ثقافة الدولة ، والغريب أن البعض منا يجاهد فى إيحاد دولة مدنية بعقلية القبلية السياسية ، وبدل أن يوصف بنفسه أنه رئيس قبيلة ، يحارب أن يجد لنفسه لقب رئيس دولة ، وتلك من المسرحيات الهزلية فى القرن الواحد والعشرين .

هناك الحالة الصومالية وأخواتها فى الفكر السياسي، وهي بحاجة إلى دراسات معمقة سياسيا ، لدينا صراع بين الدولة والقبيلة ، بل هناك صراع بين ثقافة الدولة فى العصر الحديث ، وثقافة القبيلة فى العصر القديم ، يمكن أن تعيش القبيلة تحت الدولة كظاهرة إجتماعية غير سياسية ، ولا يمكن للدولة بحال من الأحوال أن تعيش الدولة تحت القبيلة ،ذلك لأن الدولة شأن عام ، والقبيلة شأن خاص ، فمتى حاولت القبيلة استيعاب الدولة تبدأ مرحلة الفناء السياسي .

يحتاج المجتمع إلى ثورة فكرية ، وتنوير عقلاني ، وطرح أسئلة عميقة ونقدية للواقع ، وكل ذلك لأجل تجاوز مرحلة البداوة الفكرية والسياسية ، فلا يمكن لنا أن ننجح فى بناء دولة بدون ذلك .

عبد الرحمن بشير