المرحلة الانتقالية في السودان .. انتصار منقوص واحتواء للمعارضين
وقّعت قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري السوداني وثيقة الفترة الانتقالية الشهر الماضي (أغسطس/ آب). تباينت ردود أفعال القوى السياسية الشعبية، رأى بعضها أن الاتفاق لا يتوافق مع بنود إعلان الحرية والتغيير الذي وقعته قوى الثورة في يناير/ كانون الثاني 2019، كما تجاهلت الوثيقة الدستورية مطالب كثيرة للثورة، والتفت على بعضها، وأبرزها تضمين قضايا السلام، وإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية، على أن تكون خاضعة لحكومة المرحلة الانتقالية، إضافة إلى حل المليشيات الموازية التي أسسها نظام عمر البشير. وتعد الوثيقة اتفاقاً على تقاسم السلطة بين المجلس العسكري وقوى الثورة، بينما كان الهدف هو تحقيق “مدنية السلطة”، عبر قيادة قوى الحرية والتغيير المجلس السيادي، وتشكيل الحكومة الانتقالية وأغلبية المجلس التشريعي. يبدو أن وثيقة المرحلة الانتقالية، وعلى الرغم من أهمية بنودٍ كثيرة فيها، وقدرة القوى السياسية على فرضها على المجلس العسكري الذي كان يريد الانفراد الكامل بالسلطة، غير مرضية لعدة كتل سياسية، أبرزها الجبهة الثورية التي تضم الحركات المسلحة، والحزب الشيوعي المنضوي في قوى الإجماع الوطني، والذي يلعب دوراً مؤثّراً فيه، فضلاً عن إحساس من قطاعات شبابية بالغبن، وأن الوثيقة لا تلبّي طموحاتهم.
تفاوض معلن ولقاءات جانبية
جاءت الاتفاقية بعد شهور من التفاوض المتقطع، شهدت مواجهات بين المجلس العسكري وقوى الثورة، وتزامنت معها حواراتٌ ومفاوضاتٌ جانبيةٌ غير رسمية في الخرطوم مع بعض القوى السياسية الساعية إلى تصدّر المشهد، والوثوب على جسد الثورة للسلطة عبر تحالفها مع قوى الثورة المضادة، محليا وإقليميا، شهدت الرياض وأبو ظبي، والقاهرة بدرجة أقل، حوارات ولقاءات مشابهة، سواء مع ممثلي المجلس العسكري (رئيسه الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق حميدتي)، أو بعض قيادات سياسية كما جرى مع حزب الأمة.
لم تخلُ عملية التفاوض من وساطة أفريقية لعبت فيها إثيوبيا دورا مركزيا، بعد تعثر المفاوضات في الخرطوم، خصوصا بعد فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش. منذ رحيل عمر البشير، لم تتوقف المساعي الإقليمية والدولية إلى توجيه المرحلة الانتقالية، حسب مصالحها، لكن قوى الثورة في كل مرحلة كان يظن فيها المجلس العسكري أنها هزمت، أو يمكن تركيعها، كانت تنهض بشكل مبهر، لتثبت امتلاكها زمام الأمور، وتوجيه الحركة الاحتجاجية، كما حدث في قرار الإضراب العام والعصيان المدني، وكذلك مظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2019 المليونية، والمطالبة بمدينة السلطة، ومحاسبة قتلة المحتجين في فض الاعتصام أمام القيادة العامة 3 يونيو.
تكتيكات عسكرية للثورة المضادة
مارس المجلس العسكري منذ سقوط البشير (11 إبريل/ نيسان 2019)، وحتى توقيع وثيقة
“وثيقة المرحلة الانتقالية، غير مرضية لعدة كتل سياسية، أبرزها الجبهة الثورية، والحزب الشيوعي المنضوي في قوى الإجماع الوطني”
المرحلة الانتقالية بالأحرف الأولى (4 أغسطس/ آب)، ضغوطا واسعة لفرض سيادته وحكمه البلاد، وحفظ بنية النظام من التهتك والتفسّخ، إذا استمر الحراك الثوري. كان المجلس العسكري يريد، في البداية، بسط الهيمنة المطلقة على الحكم. وحين تبدّى عدم إمكانية ذلك، بحكم المقاومة الباسلة للشعب السوداني وقواه الثورية، سعى إلى الوصول إلى مرحلة تقاسم السلطة مع قوى الحرية والتغيير، خطوة أولى للتمكين السياسي للمجلس. لم تكن هزيمة الثورة بشكل كلي ممكنة، كما أنه كان من مصالح الأطراف الإقليمية والدولية استيعاب الحراك لا انفجاره. ومن هنا، استخدم المجلس تكتيكات خفض أسقف الطموحات لدى القوى الثورية، وحاول تغيير أهدافها، وتقسيمها كلما أمكن ذلك، عبر جذب العناصر الإصلاحية والتيارات السياسية التقليدية إلى صفّه، وكذلك محاولة عزل القوى الراديكالية وتشويهها. وخلال هذا، ارتكبت أجهزة القمع، وفي مقدمتها قوات الدعم السريع، أعمال قتل وتعذيب واغتصاب وسطو وإخفاء قسري واعتقال، أراد المجلس العسكري أن يدلّل على أنه قادر على لجم الثورة بأدوات البطش، فزادت معدلات الاعتقال والقتل، على الرغم من رحيل البشير، وربما لأن الصراع أصبح مكشوفا ومفتوحا بعد الثورة، أظهرت السلطة كل ما لديها من عنف.
كانت عملية التخويف والقمع وتفتيت قوى الحراك مقدمةً ضروريةً للوصول إلى الاتفاق المنقوص، وتسويقه بوصفه انتصارا للثورة طال انتظاره. تعامل المجلس العسكري على عكس ما حاول ترويجه بأنه شريكٌ للثورة. نفذ تكتيكا عسكريا وحربيا وكأنه يواجه عدوا. استخدم أدوات القتال والمحاصرة لإضعاف الخصم في أثناء التفاوض. بذل الجهود لتشتيت صفوفه وتماسكه، وتشويه هوية (وصورة) القوى السياسية التي تلعب دورا أساسيا في الحراك، والتي يصعب التفاوض معها، وهو الدور الذي لعبه البشير مع قوىً أبرزها تجمّع المهنيين السودانيين، الحركات المسلحة (الحركة الشعبية لتحرير السودان، حركة العدل والمساواة، حركة تحرير السودان) وكذلك الحزب الشيوعي. وكل هذه القوى اتهمت بالعمالة للخارج. مارس المجلس العسكري ذلك كله لهزيمة الثورة، ولكي تكون المحصلة النهائية تقديم تنازلاتٍ من مكوناتها، وكسب مساحةٍ أكبر تمكّنه من الانفراد في اتخاذ القرار. تزامن هذا التكتيك مع كل مراحل التفاوض، وجولات الحوار بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، وحين كانت تردّ قوى الثورة، وتصعد من حراكها من أجل إنفاذ مطالبها، كانت تتهم بممارسة أعمال استفزازية وتصعيدية ضد المجلس العسكري الذي يقدّم نفسه شريكا في الثورة.
الضغط على معارضي الاتفاقية
يشن المجلس العسكري وحلفاؤه حملة تشويه ضد القوى المتحفّظة على اتفاق المرحلة الانتقالية، غير منقطعة الصلة بقوى إقليمية تريد تشكيل المرحلة الانتقالية حسب مصالحها. وفي سبيل
“لم تكن هزيمة الثورة بشكل كلي ممكنة، كما أنه كان من مصالح الأطراف الإقليمية والدولية استيعاب الحراك لا انفجاره”
ذلك، تستخدم التضليل الإعلامي وتشوه القوى المتحفظة على الاتفاق، أو تضغط عليها عبر دعوات الحوار والتوافق. ويعد هجوم زعيم حزب الأمة، الصادق المهدي، على الحزب الشيوعي السوداني وبعض قوى الإجماع الوطني التي تضم الشيوعيين والناصريين والبعثيين، وكذلك ضغوطه المستمرة على مكونات الجبهة الثورية المنضوية في قوى “نداء السودان” الذي يتزعمّه، إحدى الدلائل المهمة بأن هناك محاولات لتسكين الثورة وترويضها، وهو الخيار الذي اختاره حزب الأمة، والمتحالفون مع المجلس العسكري، للتشارك في السلطة مستقبلا.
ما زال الصادق المهدي الذي شغل منصب رئيس وزراء قبل أكثر من ثلاثة عقود، يريد تصدّر المشهد، ويحجز مقعده في السلطة. ومن أجل ذلك، وبحكم مصالح تتجاوز حدود السودان، وبحكم مصالح طبقية واجتماعية لمكونات حزبه، يقف ضد المعارضين للاتفاق، والمطالبين بتعديله، لكي يتفق مع إعلان الحرية والتغيير بشأن نقل السلطة إلى إدارة مدنية، وكذلك إعادة بناء جهاز الأمن، وتفكيك الأجهزة القمعية والأمنية الموازية التي أنشأها نظام البشير، واتخاذ قراراتٍ من شأنها إحلال السلام في مناطق النزاع، وإقرار سياسة اقتصادية تعالج الأزمة المتفاقمة، والتي تُعد أحد أسس الحراك، بينما يسمح الاتفاق الحالي بسيطرة العسكريين على مجلس السيادة، وتحكمه في أجهزة الأمن والقوات النظامية. وسيتولى المجلس العسكري الحكم 21 شهرا، حسب المادة التاسعة من الوثيقة الدستورية، بينما يتولى ممثل عن المدنيين رئاسة مجلس السيادة الـ18 شهرا المتبقية من الفترة الانتقالية. كما يحصّن الاتفاق أعضاء مجلس السيادة (بمن فيهم القيادات العسكرية الأعضاء في المجلس) ضد المساءلة تحت مسمّى الحصانة الإجرائية والواردة في المادة 20 من الوثيقة، وقنّنت أيضا الوثيقة في مادتها العاشرة وضع مليشيات حميدتي المعروفة باسم قوات الدعم السريع. وكانت أبرز مشكلات الوثيقة أيضا، والتي تعبّر عن هيمنة المجلس العسكري، أن المادة 11 جعلت قرارات المجلس السيادي تصدر بأغلبية الثلثين أو بالتوافق، ما يعني أن أي قرار للقوى المدنية في مجلس السيادة لن يمر من دون موافقة أعضائه العسكريين، بالإضافة إلى أن ممثل المجلس العسكري (رئيس الجمهورية) سيعين بالتشاور مع مجلس الوزراء أعضاء مفاوضات السلام، الدستور، الانتخابات، الإصلاح القانوني، مفوضية مكافحة الفساد، وغيرها من المفاوضات المتفق عليها (نص المادة 38)، ما يعني أنه سيحكم مسار الفترة الانتقالية في تلك الموضوعات شديدة الأهمية. وتعكس هذه النقاط أن المواد الدستورية هي انعكاس للحظة كتابتها، وهي بما تمتلك من نقاط إيجابية وسلبية أيضا رهينة موازين القوى مستقبلا، وما يراه كل طرفٍ من أفق لتطور المرحلة الانتقالية ومسارها، وهو ما نراه اليوم ويعكسه مواقف القوى السياسية السودانية.
وفي هذا الإطار، لم يكن حديث الصادق المهدي يوم 9 أغسطس/ آب على قناة الغد العربي غريبا، فهو استمرار لحملة الهجوم التي قادها من قبل ضد الحزب الشيوعي والقوى الراديكالية التي تتحفظ على الوثيقة الدستورية واتفاق المرحلة الانتقالية، كان خطاب المهدي متشابها إلى حد بعيد مع خطابات المجلس العسكري، لكنه أشد خطورة بحكم قدرة الصادق على المناورة وخبراته السياسية، فالرجل الذي مدحه قائد قوات الدعم السريع، حميدتي، في أكثر من مرّة، يعترف بالفضل للأخير في إنجاح الثورة، ويعتبره شريكا في الثورة، بل وبدونه ما انتصرت أساسا. كما يصف الموضوعات محل الخلاف بأنها أمور شكلية وإجرائية سيتم تداركها، ويرفض إعادة النظر فيها. ومن المهم النظر إلى كلام الصادق المهدي ليس بوصفه موقفا فرديا لسياسي قديم ومؤثر، بل أيضا كدراسة حالة على تفتيت قوى الثورة والمعارضة وأدوار القوى الانتهازية في هزيمة الثورات وبيان الفروق بين القوى السياسية بين الثورة والإصلاح والانتهازية الملتحقة بالسلطة.
مطالب القوى المتحفظة
على جانب آخر، ترى قوى الحراك المتحفظة على الاتفاق ضرورة تعديله، بحيث تحتل قضايا السلام وإعادة بناء أجهزة الأمن، ومحاسبة الفاسدين والمتورّطين في وقائع القتل والتشريد
“ما زال الصادق المهدي الذي شغل منصب رئيس وزراء قبل أكثر من ثلاثة عقود، يريد تصدّر المشهد، ويحجز مقعده في السلطة”
والنزوح اهتماما أكبر، وهو ما لا يمكن أن يتم بهذا الاتفاق، أو عبر تشكيلة المجلس السيادي الحالية التي سيقودها عبد الفتاح البرهان، ويمتلك فيها صلاحيات واسعة، بمعنى أن النظام القديم تحت هذه السلطة ربما يتمكّن من إعادة بناء نفسه، وتهميش قوى الثورة ومطالبها.
مستقبلا، ستشكل التحفظات نقطة مهمة في إعادة تمظهر الحراك السياسي مرة أخرى. وسيتضح خلال الفترة الانتقالية حجم التناقضات والتباينات بين مكونات قوى الحرية والتغيير من جانب، والتناقض بينها وبين المجلس العسكري من جانب آخر. وغالبا ما ستتسع دوائر الاحتجاج على هذا الاتفاق، إن لم يُبد المجلس العسكري مرونةً في التعاطي مع مسألة تعديل بنوده، وإشراك الجميع في صنع القرار، لأن هذا ضمانة ألا ينزلق السودان إلى ما هو أصعب. وقد أثبتت الأيام التالية لتوقيع الاتفاق المبدئي أن حملات التشويه للقوى المتحفّظة على الاتفاق لم تؤتِ ثمارها. وعلى الرغم مما مارسه حزب الأمة من محاولات تشويه القوى المتحفظة على الاتفاق وعزلها، إلا أن النتائج كانت عكسية، فقد استطاعت قوى الجبهة الثورية والقوى الراديكالية، من بينها الحزب الشيوعي، إعادة النقاش بشأن الاتفاق. ولم تنطل على الرأي العام السوداني اتهامات المهدي والمجلس العسكري للحزب الشيوعي والحركات المسلحة بأنهم يصطفون مع الثورة المضادّة بجانب حزب البشير (المؤتمر الوطني)، وهو ما ردّده المهدي بصراحة في أحاديث تعد استمرارا لخط الحزب السياسي، سواء عبر بيانات مكتبه السياسي، أو تصريحات قادته منذ شهر مايو/ أيار الماضي، وهي توحي بتحالف حزب الأمة مع المجلس العسكري.
سبقت حملة الضغط على القوى المعارضة للاتفاقية تصريحاتٌ هجوميةٌ من حزب الأمة ضد تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير، وتزامن ذلك مع جولات حزب الأمة المكوكية لدول إقليمية، وتقاربه مع المجلس العسكري. برزت في هذه الفترة محطات التباين بين مكونات قوى نداء السودان الذي يتزعمه الصادق المهدي وبعض مكونات قوى الحرية والتغيير من جانب آخر. كانت أبرز محطات التباين رفض حزب الأمة، في بيانه الصادر في 26 مايو/ أيار، دعوة قوى الحرية والتغيير إلى الإضراب السياسي العام والعصيان المدني، وكذلك وصف الصادق المهدي قرار الإضراب، في اجتماع حزب الأمة (30 مايو/ أيار) بأنه إحدى الأدوات التصعيدية التي تصب في صالح الثورة المضادة. كذلك هاجم بيان 4 أغسطس الحزب الشيوعي بشكل واضح، وضغط على الحركات المسلحة (الجبهة الثورية) ومكوّناتها (الحركة الشعبية، وحركة تحرير السودان، العدل والمساواة) للترحيب بالاتفاق.
قلق المجلس العسكري ومفاوضات إقليمية
يبدو أن الدعوات إلى إعادة النظر وتقييم الاتفاق، والتلويح بتواصل الحراك الثوري، جعلت المجلس العسكري قلقا، ودفعت أطرافا دولية وإقليمية للتدخل وإيجاد توازنات ما بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير. وفي هذا السياق، يمكن فهم الإعلان المفاجئ عن استقبال القاهرة ممثلين عن الكتل الرئيسية المكوّنة لقوى الحرية والتغيير، والحركات المسلحة، وكذلك فهم البيان الذي أصدره حزب الأمة يوم اجتماع القاهرة (10 أغسطس) الذي يؤكد فيه حرصه على وحدة قوى الحرية والتغيير، وتحقيق السلام العادل، وحرص الحزب على علاقاته بمكونات “نداء السودان”، والتي تتضمن الحركات المسلحة. توضح هذه التطورات أن المجلس العسكري وحلفاءه في الداخل والقوى الإقليمية المساندة لهما، يريدون تمرير الاتفاق، وحل ما قد يعترض استكماله، وأن تمر المرحلة المقبلة من دون عراقيل، عبر استيعاب القوى المتحفّظة على الاتفاق، وتقريب وجهات النظر بين مكونات “الحرية والتغيير” من جانب والمجلس العسكري وكل القوى السياسية من جانب ثانٍ.
العربي الجديد