اقتصاد وأعمال

وزير المالية.. سياسة (الأوراق المكشوفة)!!

اتسمت مشاهد حضور اللقاء الأول لوزير المالية والتخطيط الاقتصادي د. البدوي إبراهيم بالترقب الحذر، لجهة أنه أول لقاء يجمع بين الوزير وقبيلة الصحافيين الاقتصاديين، وامتلأت القاعة بحضور نوعي أثار إعجاب الوزير، فدلف بشكل مباشر الى تعويل الحكومة على الإعلام الاقتصادي لمساهمته في تشكيل الخطاب الوطني الاقتصادي لحشده خيال وطاقات المجتمع، خاصة فئة الشباب، ولم يخلُ الحديث من بعض القفشات كسراً لحدة الأرقام الاقتصادية والمصطلحات العلمية..

برنامج نهضوي
وحشد الوزير خبراته وهو يدلف لشرح برنامجه النهضوي للسودان استهداءً بشعار ثورة ديسمبر (حرية.. سلام وعدالة) وبمنهجها وفلسفتها، مشيراً الى امتداد البرنامج عشر سنوات حتى عام 2030م لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وقال إن البرنامج يهدف للقضاء على الفقر والتهميش وتحقيق الحرية الاقتصادية، وأن الحقب السابقة لم تعمر لغياب مفهوم الشرعية الاقتصادية والتركيز على الشرعية الانتخابية دون الإجماع على برنامج نهضوي وطني متفق عليه يمكن تنظيم الخلاف السياسي حوله.
وزاد قائلاً: سنعمل على تقديم مفهوم وفكرة الشرعية الاقتصادية بعد أن نلنا الشرعية الثورية، وسيأتي بعدنا من يحكم بالشرعية الانتخابية، وهذا يتطلب وجود عقد اجتماعي يؤسس للشرعية الاقتصادية الذي سيقيم أداء الطبقة السياسية سواء حاكمة او معارضة.
فعل فاعل
وأقر البدوي بالصعوبات التي تواجه السودان في ظل أزمة اقتصادية طاحنة كانت حدثت بفعل فاعل، بالإفقار الممنهج للشعب وتجريف المؤسسات الرسمية في نظام الحكم وتفاعلية المجتمع في إطار منظمات المجتمع المدني وغيرها مما أدى الى انهيار الاقتصاد، وهذا يتطلب منا تبني خطاب اقتصادي نهضوي يبشر بالمستقبل وواقعي، وفي ذات الوقت يدير توقعات المجتمع وتبصيره بالمشكلات الاقتصادية الموجودة.

ملفات متداخلة
وفي تناوله للبرنامج الإسعافي أوضح البدوي أنه جزء من ملفات متلاحقة ومتداخلة عبر ثلاث مراحل، الأولى تهدف الى إشعال النمو الواسع العريض للإعاقة التي أصابت اقتصادنا بعد أن أرهقته ميزانية الحرب وتخصيص للموارد معطوب ولا يتواءم مع أولويات التنمية وضعف تعبئة الموارد وفساد مؤسسي إعاقة الاقتصاد، ومحاولة المعالجة بسياسات مشوهة مثل بناء سياسة مالية تعتمد على العجز التضخمي كالاستدانة من الجهاز المصرفي بطبع النقود والتوسع في الكتلة النقدية التي لا يقابلها إنتاج، فأشعلت التضخم الانفجاري وأدت للسقوط الحر للعملة الوطنية.
هيكلة الجهاز المصرفي
ولفت الى أهمية معالجة السياسة المالية، وإحداث بعض التغيير في النقدية وإعادة هيكلة الجهاز المصرفي على صعيد الاقتصاد الكلي وبعض الإصلاحات القطاعية المهمة سيؤدي لإشعال النمو وإطلاقه، وهي الصفة الغالبة للسنوات الثلاث الانتقالية، والتي ستصاحبها ترتيبات ناظمة لبنية المؤسسات الناعمة كالبنية المؤسسية والرقابية والقانونية لتحسين مناخ الاستثمار وتسهيل الإجراءات الحكومية اللازمة لدعمه للقطاع الخاص والتخطيط الإستراتيجي للمشروعات الكبرى الداعمة لعمل القطاع الخاص والتركيز على الشباب، وهذا يساهم في استدامة النمو بعد معالجة الاختلالات المؤثرة في الاقتصاد بعد طرح مبادرات اقتصادية تقودها الدولة ويشارك فيها القطاع الخاص لتحقيق قيمة مضافة في السلع ذات الميزة النسبية في مجال اللحوم المذبوحة والحبوب الزيتية وغيرها والصمغ العربي.

التحولات العميقة
ودلف البدوي الى طرح التحولات الهيكلية العميقة التي ستتم في السنوات الأربع اللاحقة التي تهدف لتحويل الاقتصاد الى اقتصاد يستند إلى المعرفة والابتكار ومشروعات إستراتيجية كبرى مثل السكة الحديد العابرة للدول، والاستفادة من سواحل البحر الأحمر وتحويله الى ميناء إقليمي لخدمة الاقتصاد السوداني وربطه باقتصادات الدول المغلقة حولنا.
وألمح البدوي الى أنه بنهاية فترة السنوات العشر يمكن أن يحدث نمو متواتر حوالى 10% سنوياً يؤدي الى مضاعفة الناتج المحلي او يزيد بزيادة النمو، وقال: بنهاية الفترة نتوقع الإقلال من الفقر او القضاء عليه كأقصى حد، متوقعاً حدوث السلام المستدام خلال الأشهر الستة القادمة وإسهامه في تنفيذ الخطة الإسعافية للاقتصاد.
ضرورة مرحلية
وأكد البدوي أن ضرورة الخطة الإسعافية مرحلية لمعالجة التشوهات الموجودة من تضخم وانهيار أسعار الصرف وعجز الموازنة، ووصف البرنامج بالعملية الجراحية العميقة، ويستلزم ذلك الألم والمعاناة، ويجب على صانع القرار العمل على وضع حد لها، وأشار الى ضرورة استغلال الإمكانات المتاحة حسب البرامج والشروط، والبرنامج الإسعافي ينقسم الى مرحلتين، الأولى من أكتوبر وحتى يونيو من عام 2020م (تسعة أشهر) وفيها نسعى الى إطلاق مبادرات مهمة بخمسة محاور، مع التأكيد على أن الإطلاق لا يعني الإنجاز، والأهم إطلاقها في وقت واحد عبر منهج فرق العمل لتشخيص المشكلات وتحليل أسبابها وتقديم مقترحات محددة لبرامج يجب تنفيذ بعضها عاجلاً ويمكن تنفيذها خلال فترة الأشهر التسعة والآخر مستقبلياً، ولكن يجب إطلاقها الآن.

منظومة الـ200 يوم
ووصف خطة الـ (200) يوم بأنها منظومة برامج متكاملة تطلق، وليس بالضرورة أن تنجز لأن طبيعتها تحتاج الى وقت، وأول محاورها غلاء الأسعار وتكاليف المعيشة عبر إجراءات منظمة، ويرتكز في القطاع الحضري خاصة الخرطوم، مقراً بوجود أزمة مواصلات ونفايات وحاجة الى تكملة الأسواق خاصة السلع القابلة للتلف مثل الخضروات والفواكه لأنها تعطي هامش ربح غير مبرر للسماسرة دون أن يستفيد المنتج الأساسي، إضافة الى مشكلة الانكشاف الجغرافي الحضري للسيول والأمطار ومعالجتها بسدود صغيرة وحصاد مياه لحماية المدن والقرى، كما أن هناك عجزاً في الإنتاج الكهربائي والمياه، وهي مشكلات تحتاج لمعالجة عاجلة والاستفادة من طاقات الشباب، وهناك مقترح بشراكة ذكية بين السلطات الولائية وروابط شباب الميادين لإيجاد منظومة لمنشآت صغيرة ومتوسطة بتأجير البصات القادمة من السعودية وتركيا وقطر وتوظيف جزء منها لحل مشكلة المواصلات وتوفير فرص عمل للشباب، وهذا ينطبق على قضية النفايات بدعم برامج تقوم بها الولاية والمدن الأخرى لتجسير سلسلة الإنتاج والخدمات من جمع القمامة الى مرحلة تصنيعها بعد فرزها.
كما أن هناك إجراءات لرقابة شعبية ـ والحديث للبدوي ـ للأسواق في ما يخص الخبز والوقود بالتعاون مع السلطات المعنية، وهي رقابة شرعية في المقام الأول، كما أن تنشيط العمل التعاوني لإيجاد التوازن في سلسلة القيمة ما بين المنتج والوسيط لحماية المستهلك.

الحل الجذري
وتطرق البدوي الى أن الحل الجذري للأزمة الاقتصادية عبر تثبيت الاقتصاد الكلي، ووفقاً لحديثه يتمثل في رفع الجهد المالي وهو يعكس قدرة الدولة على تقديم الخدمات العامة في القطاع الاجتماعي والتنمية والذي لا يزيد عن 7% في السودان، وهو مؤشر تقريري لوجود دولة موازية او فساد على المستوى الفردي والمؤسسي، وإجراءات أضعفت كثيراً من ولاية وزارة المالية على المال العام كالإعفاءات بالقانون، وقد تم تشكيل فرق عمل لمراجعة كل الإعفاءات والتجنيب من أية مؤسسة سيادية او غير سيادية، والعمل بتوصياتها بعد الموافقة عليها.
إدارة السيولة
ودلف البدوي الى أهمية ترشيد الصرف خلال الموازنة القادمة وإدارة السيولة عبر تعاون فني من البنك الدولي لمراجعة صناديق منفلتة لديها استثمارات فيها إشكالات من ناحية الانضباط المالي والتحليل الاقتصادي السليم للمشروعات مثل صندوق المعاشات والضمان الاجتماعي وصندوق دعم الطلاب، وهي لها أهداف اجتماعية مهمة، إلا أن إدارة السيولة فيها يجب أن تخضع لمعايير وزارة المالية للاستفادة من الأموال العامة حسب المعايير المنضبطة للوزارة في ما يخص الإيرادات للناتج المحلي والصرف والعجز له بحساب سعر الصرف الواقعي، وليس السعر السائد الذي يخلق نوعاً من عدم الوضوح في الموازنة.

الدعم مستمر
وأكد البدوي ألا اتجاه لرفع الدعم والاستمرار فيه، إلا أنه سيتحول الى دعم ذكي عن طريق الجهات الرقابية التي ذكرها، وذكر الاتجاه لتطبيقات إلكترونية لمتابعة عملية نقل المحروقات من المصفاة للطلمبات ومراقبة عملية الصرف، وتطبيق ذات السياسة على المخابز بالرقابة عليها من قبل الشباب بعد إعطائهم الصفة الرسمية.
وقال إن الدعم سيستمر حتى منتصف 2020م او أكثر بشهور حسب الاستعدادات المؤسسية التي ستوضع، والتي تستهدف الإقلال من الاستدانة من بنك السودان نتيجة لهذه الإصلاحات والسعي لرفع الجهد المالي الى 20%، وجزم بتحقيقه إن تم إغلاق كل أبواب التسرب، وعلى المستوى النقدي هناك مساعٍ لتكوين احتياطي من النقد الأجنبي لبنك السودان لعدة شهور من قيمة الواردات وإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
الانتقال للمعرفة
وأوضح في ذات الأثناء أن التهيئة للانتقال المعرفي ستتم عبر التعداد السكاني وهو استحقاق انتخابي، والتعداد الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، لافتاً الى أن التعداد سيوفر (30) ألف وظيفة للشباب في مختلف المجالات، مشيراً الى مقترحه لوزارة العمل بإنشاء مجلس للوظائف بمشاركة أصحاب المصلحة من النقابات والمؤسسات التعليمية، والذي قد يؤدي الى إعادة هيكلة النظام التعليمي لتتواءم مع المشروع. كما أن التحول من العون الى التنمية المستدامة في المناطق الثلاث للاستثمار في الزراعة يأتي دعماً لعملية السلام وتوطين النازحين بعد معالجة مشكلة الاختلاف على الأراضي.

تركة ثقيلة
وأبان البدوي أن التركة الثقيلة التي خلفها النظام البائد كبلت السودان بعقوبات كبيرة بالغة العمق والحساسية لخضوعها لإشراف الكونجرس، ومن الصعب اتخاذ قرار إلا بعد عام، وفي هذا إعاقة لدخول السودان في برنامج التنمية للدول الفقيرة، وكان من المتوقع أن يتم دعمه بحوالى ثلاثة مليارات دولار، إضافة الى دعم الصناديق العربية والبنك الأفريقي. وقال إن هناك ارتباطاً وثيقاً ما بين حقوق الإنسان والعقوبات المفروضة على السودان والذي خطا فيها وزير العدل خطوات متقدمة، وكلها تؤدي لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب الذي له هذا الأمر مطلوبات مهمة. وأشار للتقدم في ملف حقوق الإنسان بجانب قضية السلام والحكومة المدنية، وأشار الى أن متأخرات السودان تبلغ (2.65) مليار دولار لثلاث مؤسسات دولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي). وأضاف قائلاً: لا أعتقد أنه ستكون هناك مشكلة لمعالجة هذه المتأخرات حال رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لجهة أن هنالك ما يسمى برنامج القرض الليلي، وهو أن تعطي دولة صديقة السودان مبلغاً لدفع متأخراته، وكشف عن جهد يقوم به رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك في زيارته للأمم المتحدة والمطالبة بالدعم من البنك الدولي لتمويل (صندوق ثقة) الذي يديره البنك الدولي ويعتمد على أولويات الحكومة السودانية.

خطوات سريعة
وكشف البدوي عن تشكيل فريق عمل لملاحقة المال المنهوب من البنك المركزي ووزارتي المالية والعدل على المستوى الخارجي والداخلي، والذي وصفه بالمقدور عليه، كما أن مبادرة أبناء السودان بالخارج سيكون لها إسهامها وانطلاقتها خلال الأسبوع القادم، منبهاً الى أن المبالغ المودعة ستتم إعادتها لأصحابها بعد ثلاث سنوات وفقاً للوثيقة الموضوعة، إضافة الى هيكلة الخدمة المدنية وتفعيل برنامج الدفع الإلكتروني والهوية البايولوجية.
أولوية قصوى
وشدد البدوي على أن الصرف على الأمن والدفاع أولوية في ميزانية العام المقبل، وقال إن جهاز المخابرات العامة سيظل موجوداً شأنه كشأن أجهزة المخابرات في العالم باعتباره مرتكزاً للأمن السوداني، وأشار الى تغير واختلاف طبيعته، وزاد قائلاً: (موازنة العام القادم تعكس أولويات الدولة، ولا بد من تقييم أداء موازنة العام الحالي واستيفاء موجهاتها للاستفادة منها في موازنة العام القادم، لأنها تستهدف مضاعفة الصرف على التعليم والصحة والتنمية).
إصلاحات مؤسسية
وأعلن وزير المالية عن ابتدار الإصلاح المؤسسي وزيادة الأجور اعتباراً من النصف الثاني من عام 2020م، والاستعانة بالخبرات في الخارج للاستفادة منهم في التدريب والتأهيل. وقال إن المرحلة الثانية من البرنامج الإسعافي ستبدأ في يوليو المقبل وحتى نهاية العام المقبل، مؤكداً أن أي مواطن سيتلقى دعماً نقدياً مباشراً عبر بطاقة الهوية الإلكترونية، وأضاف قائلاً إن هذا سيتم العام المقبل، وتعهد بالمحافظة على الدعم لكن ليس بصورة مستمرة، وأشار الى وجود ضرائب تصاعدية للفئات المقتدرة وإمكانية إلغاء بعض الضرائب التي تقف حائلاً دون الاستفادة من القيمة المضافة لبعض المنتجات، والسعي لمضاعفة ميزانيات الصحة والتعليم والمياه، والعمل على تطوير صناعة اللحوم في مناطق الإنتاج، مع اعتماد نظام (البوت) في عدد من المشروعات في الفترة القادمة.
وأكد في ذات الوقت توفر دقيق الخبز والوقود حتى منتصف 2020م، وأنه مازالت هنالك كميات مقدرة متبقية من الدعم الخليجي لم يتم سحبها بعد، مشيراً الى اجتماعهم مع السفيرين السعودي والإماراتي وتقديم جدول لاستنفاد المنحة، وقال إن المشكلة الأساسية تخزين الوقود، وأنهم بصدد تنظيم لضمان انسيابه، قاطعاً بتأثير ظواهر التسرب والفساد في قضيتي الوقود والدقيق.

الانتباهة