الخرطوم في مليونية الشهداء .. برزخ الموت مثل ثقوب تتساقط منها الأرواح الأليفة
الخرطوم في أمس الثالث من ديسمبر، فتحت أبواب برازخها البعيدة لتدلي أرواح الشهداء عبر (برشوت) الثورة المنسوج من حبال الإصرار الغليظة، وكان الشهداء يستبيحون كل شوارعها ، يحلقون مع الرفاق، ويهتفون معهم باسم الثورة الممهورة بالدماء: ( كتولنا وين كتولنا هنا)، وكان الرفاق يفتحون قلوبهم مثل مهابط آمنة للعهد مع الشهداء، عادت المواكب الزاحفة، وعاد صهيل الأغنيات، وعاد للثورة الباذخة ألقها القديم، تحطمت في حناجر الثوار كل تلك الأساطير القديمة، وتبخرت عبر أنوفهم المشرئبة رائحة الدولة العميقة، بل تقزمت تحت أرجلهم جحافل الموت والرصاص، وانزوت بعيداً في أقصى (مراحيض) المدينة، بعثرة الحكاوي المُرعبة عن كتائب الظل وحُراس الإنقاذ (المحلولة) بأمر الشعب، وهناك عند سدرة منتهى محيط القيادة، وقف الثوار مرة أخرى، يجددون عهدهم مع الشهداء، وكأن مشاهد الاعتصام قد تم جرها مثل شريط سينمائي مسدول على تروس الرغبة الفارعة.
وجاءت كلُ نفسٍ معها رايةٌ وشهيد !
تحرك الثوار وأسر الشهداء بعد أن تلوا وسلموا خطابهم لعضو مجلس السيادة محمد الفكي سليمان من أمام القصر الجمهوري، تحركوا صوب مباني رئاسة القضاء، حيث محطتهم الثانية المعنية بأمر العدالة وتحقيقها، وعلى مرأى ومسمع، تقبع النيابة العامة، التي لم تتخذ حتى الآن خطوات تبعث الطمأنينة في نفوس أهالي وأصدقاء الشهداء والجرحى ومفقودي الثورة، تحرك الموكب المهيب، تعلوه رايات خفّاقة، تحمل كلمات الوفاء، وصورٌ باهية، للشهداء الأماجد، فأنى اتجهت عيناك ترى راية وشهيدا، محمولاً على الأعناق، وقبل ذلك، في حدقات العيون، ونقرأ من الرايات التي تحتشد وفاءً وعرفاناً: “طابت قبوركم يا من جلبتم لنا حرية هذا الوطن”، بالإضافة إلى الصور والشعارات، البعض يعلق على رقبته وصايا لشهيد، وآخر يرسم وشماً على جسده وصوراً وكلمات تختصر مطالبه ورؤيته لتحقيق العدالة، الأمهات، أمهات الشهداء، وأمهات الثوار الأحياء كذلك، يتلقين التعظيم من الجميع، ويجدن العزاء في إصرار رفاق الشهداء على المضي في طريقهم، لا تجد أسرة شهيد إلا وجمع من الناس يلتف حولها، تحدثنا إلى والدة الشهيد محمد الفاتح، وإلى أصدقاء الشهيد محمد هاشم مطر، وإلى رفاق وأصدقاء الشهيد عثمان عابدين، وترى أمامك الشهيد عبدالسلام كشة، لا تفتر أو تكل الحناجر عن الهتاف باسمه، وكذلك الشهيد عبدالعظيم، وتلتقي بأسرة الشهيد عبد الرحمن سمل، ووالده الصادق سمل الذي تدهشك روعة كلماته ويجذبك تواضعه وترحيبه وتسامحه.
ما دام القضية وطن، بنعمل كل يوم جوطة :
تجمعَ الشبابُ في حلقات أمام رئاسة القضاء، بعد أن دفعوا بمذكرتهم المطالبة بتشكيل لجنة خاصة لمحاكمة الجرائم التي ارتكبت منذ اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، تجمع الشباب وهم يهتفون في حماس بشعارات الثورة، وينشدون أشعاراً تخلد ذكرى الشهداء، هتاف الثوار في عزيمة منقطعة النظير، يعبر عن إصرارهم وتمسكهم بمطلبهم القاضي بتنفيذ القصاص على قتلة الشهداء، حيث هتفوا: “ما دام القضية وطن، بنعمل كل يوم جوطة” في إشارة إلى استمرار المواكب، سيما وأن قضية الشهداء هي القضية التي يتوحد كل الثوار تحت رايتها.
حل لجنة التحقيق في فض اعتصام القيادة العامة:
المحطة الثالثة وقبل الأخيرة، هي مجلس الوزراء، حيث سلمت منظمة أسر شهداء ثورة ديسمبر الخيرية خطاباً معنوناً إلى رئيس مجلس الوزراء، وبصورة واضحة، عبر أسر الشهداء عن رفضهم القاطع جملةً وتفصيلاً للجنة التي يترأسها المحامي نبيل أديب، وترى المذكرة أن تكليف نبيل أديب رئيساً للجنة التحقيق يقدح في حيادية اللجنة، وذلك لتضارب المصالح الواضح وفقاً للمذكرة بين مهامه الحالية ودفاعه السابق عن شخوص النظام السابق في قضايا جنائية، وذكرت المذكرة بأن نبيل أديب نصب نفسه في السابق محامياً لمدير جهاز الأمن والمخابرات الجنرال صلاح قوش، وتصف المذكرة قوش بأنه نفسه الذي كان يسيطر على الجهاز وقواته أشرفت على قتل المتظاهرين السلميين في كافة أنحاء السودان، ولذلك يطالب أسر الشهداء رئيس الوزراء بحل لجنة التحقيق وتكوين لجنة تحقيق أخرى مستقلة وفقاً للمعايير الدولية الخاصة بلجان التحقيق، يرأس اللجنة المقترحة النائب العام لحكومة جهورية السودان، باستشارة أسر الضحايا والشهداء حول معايير تشكيلها وكذلك نظام حماية فعالة للشهود والضحايا.
كلنا أولادك
في ساحة النيابة العامة، عادت للناس مشاعر الانسانية النبيلة، تلك القيم التي كانت تركض بين الثوار في ساحة اعتصام القيادة العامة، حينما كان الناس كلهم شركاء في الهم والحلم، توسطت الحشود لافتة يحملها الثوار تُعبر عن مبادرة باسم (كلنا أولادك)، وكانت اللافتة محتشدة بصور أمهات الشهداء، لكنها لم تكن مجرد لافتة ومجرد مبادرة، بل كانت بمثابة حبلٍ سري يضخ الحنين من أرحامهن إلى قلوب الثوار، كان وجداً شاهقاً وكان وعداً خصباً ومُخصباً بعرق الانسانية التي أصابها الرهق، هكذا هم ثوار ديسمبر وهكذا هن أمهات شهدائها، وبينهم خيطٌ رفيع من كبرياء الجرح.
آباء الشهداء
لم تكن الساحات حكراً لأمهات الشهداء وحدهن، ولم تكن المواعيد الثورية معطونة بدموعهن وأوجاعهن المُثقلة فقط، بل كان للوجع وجه آخر، هو ذلك الأب الذي يحمل في صدره حزناً وجرحاً لا يندمل، حيث كان آباء الشهداء حاضرون في المشهد، يوزعون الجسارة والصلابة للثوار مثل حلوى العيد، وفي أحشائهم العميقة كان ينطوي الانكسار العريض، هناك وفي الزحام يتعرى وجه والد الشهيد عبدالرحمن الصادق سمل، ذلك الوالد الجسور الذي أمات الموت بكلماته ومنشوراته التي تداولها الناس، وتعلموا منها كيف بالإمكان استقبال نبأ استشهاد الأبناء ودفن الأحلام الوضيئة. لم يتوارى والد الشهيد عبدالرحمن سمل، عن عدسات كاميراتنا خجلاً أو هروباً أو ضعفاً من المواجهة بسيرة ابنه الشهيد، وقف أمام عدسة (الجريدة) شامخاً عالياً يُصفر مع رياح الثورة، قال بأدبٍ جم : من يرى هذا الشعب العظيم يتأكد بأن ابنه لم يمت، ومن يستمع لنبض الثوار سوف يتيقن أن الذي بينهم وبين رفاقهم الشهداء هو قسمٌ غليظ على الوعد والعهد وإكمال المشوار.
الطفل الشهيد
كان ملفتاً هناك تحت ظلال إحدى جدارات الخرطوم القديمة، مشهداً لشابين في مقتبل عمرهما، يحملان صورة لطفل شهيد. استوقفتنا هذه الصورة التي لم تعد مألوفة لدينا مثل سائر شهداء ثورة ديسمبر الذين ألفناهم جيداً، فهرولنا إليهما وسألناهما: من هذا الطفل الذي في الصورة التي تحملانها؟. كانت الدهشة حينما أجاب أحدهما، أنه الشهيد عمرو حسن!!. كدنا أن نذرف دموع الصدمة، لو لا أن تذكرنا صفة الاعتبارية الصحفية التي نحملها ونحن نتوسط الجموع. استرسل أحدهم ، وقال عمرو الصغير استشهد في إحدى معارك (المتاريس)، وجد ميتاً دون أن ندري كيف قُتل ولماذا!!.
أعلى النفق
قُبيل غروب الأمس، أذنت الشمس لجمهورية أعلى النفق بأن تتسيد المشهد كله، وأن تُعلن عودتها لمكوت الثورة. هناك وفي محيط القيادة العامة للقوات المسلحة، وبعد أن أكمل الثوار وقفتهم الصامتة هناك، تأججت المشاعر وتأجج الغضب من جديد، وتسلق الثوار لأعلى نفق السكة حديد قبالة جامعة الخرطوم، وفجأة عم السكون والصمت النبيل، وفتحت الحشود مسامعها لصوت (الطرق) القديم، فكان طرقاً ترتجف من فرط قوته المدينة كلها، طرقاً أقسى من حلحلة (صواميل) المؤتمر الوطني، طرقاً مشفوعاً باليمين على ضرورة الثأر بالقصاص العادل لأرواح الشهداء، طرقاً اختصر كل ليالي الاعتصام في دقائق معدودة قُبيل آذان المغرب حين انفجرت مئذنة مسجد الجامعة بالنداء إلى الصلاة، فتأدب الثوار لنداء الصلاة وأوقفوا أناملهم من طرق الحديد.
صحيفة الجريدة
شعب عظيم رغم كل الخراب الذى طال كل شئ فى بلادنا من المؤتمر الوثنى وكيزان الشيطان
لكن الحمدلله يظل شعبنا السودانى العظيم بسماحته وترابطه يضرب اروع الامثال الحمدلله انى سودانى
والحمدلله انى ما كوز