منوعات

أزمة الفساد في السودان .. رؤية مستقبلية

يحتوي هذا المقال على شذرات من ورقة قدمت لمؤتمر أقيم، أخيراً، بالعاصمة السودانية الخرطوم برعاية مركز المشروعات الدولية الخاصة (Center for International Private Enterprise)، الذي ناقش قضايا التنمية الاقتصادية والحوكمة الديمقراطية في السودان.

تناولت الورقة قضية الحوكمة، تحديداً العلاقة ما بين الحكم الرشيد وتقديم الخدمات العامة، واتخذت من تفشي الفساد في القطاع العام مؤشراً لغياب الحكم الرشيد، حيث يقبع السودان في مؤخرة القوائم الدولية في ما يتعلق بالنزاهة والمحاسبية. فعلى سبيل المثال، أدرج مؤشر مدركات الفساد للعام 2019 السودان في المرتبة السادسة في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم.

فالفساد لم يعد عيبًا يمكن إصلاحه عبر سلطة الدولة، نظرًا لتجذره في الفضاء الاجتماعي بشقيه السياسي والاقتصادي، وتغلغله داخل مؤسسات الدولة. كما أنه صار سمة من سمات أنظمة الحكم المتعاقبة في السودان، لدرجة أنه لم يعد يشكل استثناءً للقاعدة، بل القاعدة نفسها.

من المهم الإشارة إلى أنّ الفساد ظاهرة عالمية وليست مقتصرة بأي حال على الواقع السوداني، ومفهوم الفساد تطور كثيراً ليتعدى اختلاس المال العام إلى تعريف أكثر شمولاً، ممثلاً في إساءة استخدام السلطة الموكلة لتحقيق مكاسب خاصة.
من الممكن لمنظمات المجتمع الدولي أن تلعب دوراً مهماً عبر مواصلة الحوار مع الفاعلين المحليين في مجال الشفافية والمحاسبية في تقديم الخدمات العامة. هذا شرط أساسي لاجتراح استراتيجيات وآليات مكافحة الفساد متفق عليها وقادرة على استصحاب المنظور والخبرات المحلية

تفشي الفساد ينطوي على أضرار بالغة لأنه يئد الديمقراطية، ويطعن في مشروعية العقد الاجتماعي ما بين المجتمع والدولة، ويقود بالتالي لزيادة اللامساواة، والتهميش الاقتصادي والسياسي، الأمر الذي يؤدي لزيادة الفرقة الاجتماعية واشتعال الحروب الأهلية ومن ثم غياب الاستقرار.

من الممكن أن يتفشى الفساد بدرجات متفاوتة، حتى في ظل وجود آليات متطورة للمحاسبية الأفقية كنظام الضوابط والتوازنات، وتفعيل المفوضيات المختصة، وتطوير دور محترفي التحقيق الجنائي في منع الاحتيال والفساد في البلدان النامية. لكن يظل غياب الدور الرقابي للمجتمع، أو تغييب دور المجتمع عبر الاستبداد، من العوامل المحفزة لتفشي الفساد، تحديداً في القطاعات الخدمية، كالتعليم، والرعاية الصحية، وذلك لأنّ المواطنة نفسها لا تعلم عن حجم الموارد المالية المخصصة لهذا المركز الصحي أو لتلك المدرسة.

هنا تكمن أهمية الدور الذي يجب أن تلعبه قوى المجتمع المدني عبر المساهمة في تعزيز الشفافية وتمكين المجتمع في ما يتعلق بالمشاركة في عملية صياغة وتنفيذ القرارات، لا سيما تلك التي تتعلق بالخدمات العامة، بالإضافة لتفعيل مبادئ المساءلة والمحاسبية.

تعد المحاسبية الاجتماعية آلية قيد التطور، وينطوي تحت إطارها عدد من الوسائل، مثل مشاركة المواطنين في عملية صنع القرار في التوزيع الفعلي للموارد، والرصد والرقابة المجتمعية على أداء القطاع العام، ونظم الوصول إلى المعلومات العامة وتوزيعها، وآليات الانتصاف بالنسبة للتظلمات والشكاوى العامة.

ويقوم برنامج المحاسبية الاجتماعية بتمكين المواطنين من التعبير عن مطالبهم المتمثلة في زيادة الشفافية في ما يتعلق بالميزانية والعقود المفتوحة واللوائح والقوانين، بالإضافة للحصول على خدمات ذات نوعية أفضل. كما يقوم برنامج المحاسبية الاجتماعية بتقديم قدر من المعلومات القيمة لموظفي الدولة، وتزويدهم بما يحتاجونه من نفوذ سياسي لتنفيذ ودعم السياسات التي تصب في صالح الفقراء.

لا يمكن فصل قضايا الحوكمة عن الواقع السياسي. فالحراك الاجتماعي السياسي، الذي تمخض عن ميلاد الثورة السودانية التي أطاحت بنظام عمر البشير، كان دليلاً دامغاً على قدرة المقاومة السلمية علي إحداث التغيير المطلوب تجاه الاستبداد والقمع السياسيين.

فعلى الرغم من أنّ السودان قد شهد ثورات شعبية أطاحت بنظامين استبداديين في عامي 1964 و1985، إلا أنّ الثورة الأخيرة التي شملت جميع أنحاء البلاد تميزت بالقدرة على الاستمرارية، حيث لم تظهر أي بوادر لانطفاء جذوة الثورة أو أي علامات قد تشي بقرب انحسارها. فقد انطلقت شرارة الثورة من المناطق المهمشة في السودان، تحديداً من مدينة الدمازين بولاية النيل الأزرق، والتي لا تمتلك مجتمعاتها المحلية أي صلات مع القوى السياسية في الخرطوم، ولكنها مع ذلك خرجت تعبيراً عن رفض سياسات النظام السابق، التي كان لها أثر سلبي على الواقع الاقتصادي. لذلك، يمكن تحليل اللاعنف في السودان عبر عدسة أداء الحكم خلال العقد الأخير. فوفقًا لمؤشرات الحوكمة العالمية والتي تعتمد على ستة معايير للحكم، تشمل الصوت والمساءلة، الاستقرار السياسي وغياب العنف، فعالية الحكومة، الجودة التنظيمية، سيادة حكم القانون، والسيطرة على الفساد، حقق السودان نتائج سيئة في كافة المعايير. على سبيل المثال، تعطلت فعالية الحكومة بسبب ضعف أداء المؤسسات العامة، فتم تسييس الخدمات العامة بشكل كبير خلال العقود الأخيرة، ما أدى لإقالة أعداد كبيرة من موظفي الخدمة المدنية وتم تقديم الولاء السياسي على الكفاءة في عملية الاختيار في الوظائف العامة. حتى عملية التوظيف، التي يصفها الخريجون الشباب بالمحبطة، اتسمت بالفساد. وفي هذا السياق، فإنّ الديناميات الكامنة وراء الثورة السودانية، تتسق مع حجة Acemoglu وRobinson في كتابهم الموسوم “لماذا تفشل الدول” والتي تنص على الآتي:

“المؤسسات الاقتصادية والسياسية التي تتمتع بالشمول لا تظهر من تلقاء نفسها. وغالبًا ما تنتج كمحصلة لصراع كبير بين النخب التي تقاوم النمو الاقتصادي والتغيير السياسي وأولئك الذين يرغبون في الحد من القوة الاقتصادية والسياسية للنخب القائمة”.

عملت المقاومة السلمية الجماهيرية التي نشطت عبر الصوت الجمعي للمواطنين علي زعزعة النظام الحاكم لإيقاف الانهيار الاقتصادي وفتح آفاق جديدة للتغيير السياسي. فقد اشتعلت الثورة بسبب الاقتصاد الفاشل، وخاصة ارتفاع كلفة السلع الأساسية، بالإضافة للنقص الحاد في الأدوية والوقود والنقد. كما ساهم سوء إدارة الاقتصاد الكلي، وانتشار الفساد، وارتفاع النفقات العسكرية التي بلغت 70 في المائة من الميزانية الوطنية، حسب بعض التقديرات، في ارتفاع نفقات المعيشة التي لم يعد بالإمكان تحملها. كما أن قضايا اللامساواة والاستبعاد والتمييز المنهجي وانتهاكات حقوق الإنسان دفعت شرائح مختلفة من المجتمع، بما في ذلك النساء والطلاب والنقابات المهنية، للقيام بأدوار ملهمة ساهمت في دفع الثورة للأمام لكي تصل لغاياتها المأمولة.

أكدت الورقة على أهمية خلق استراتيجية للحد من الفساد ترتكز على ثلاثة محاور، تشمل الحكومة، منظمات المجتمع الدولي، والمجتمع المدني. فمن أهم واجبات الحكومة الانتقالية إبداء الإرادة السياسية لتحقيق النزاهة والحد من الفساد. للحكم المحلي مزايا وأهداف عديدة، أهمها تفعيل المساءلة السياسية وتحفيز استجابة الدولة للمواطنين، وهما من أهم لوازم مكافحة الفساد. وفي هذا الصدد، هناك حاجة ملحة لتقوية نظام الحكم المحلي، والتعلم من الإخفاقات التي رافقت السياسات السابقة، والتأكيد على مشاركة المواطنين في تخطيط وتخصيص الأموال العامة.

أيضاً على الحكومة الانتقالية العمل على استعادة الفضاء المدني الذي كان مستهدفاً من النظام السابق. الحقوق المدنية الأساسية الثلاثة التي تمكّن المجتمع من العمل للمطالبة بالشفافية والمساءلة هي: حرية التعبير، وحرية التجمع، وحرية تكوين الجمعيات والتي تم قمعها بشدة خلال العقود الثلاثة الماضية. بالنظر إلى حقيقة أنّ المجتمع المدني شريك مهم للدولة، لا سيما في متابعة جهود مكافحة الفساد، يجب على الحكومة الانتقالية ضمان فتح الفضاء المدني، وهذا يعني بالضرورة قدرة المواطنين ومنظمات المجتمع المدني على التنظيم والمشاركة دون عوائق.

وفي هذا السياق، فقد أنجبت الثورة السودانية شركاء مهمين، وهم لجان الأحياء والمدن. قامت هذه الجمعيات الشعبية بدور مهم في تنظيم الاحتجاجات في الخرطوم وغيرها من المدن الرئيسية في جميع أنحاء السودان ولعبت دوراً فاصلاً في خلخلة مفاصل النظام السابق واقتلاعه. على الرغم من أنّ الأنظمة الديمقراطية تمتاز بمجتمع مدني مستقل عن الدولة، إلا أنّ الحكومة الانتقالية أصدرت، أخيراً، مرسومًا لتنظيم دورها وإضفاء الطابع الرسمي عليه، وهو إعادة لإنتاج ممارسات النظام السابق التي ساهمت في ترسيخ الفساد السياسي.

على الحكومة الانتقالية أيضاً مراجعة بعض القوانين، كقانون الحق في الحصول على المعلومات، والذي صاحبته العديد من أوجه القصور. على سبيل المثال، لا يؤكد القانون على الواجبات التي تقع على عاتق موظف المعلومات تحديداً في ما يتعلق بإنشاء قاعدة البيانات والحفاظ عليها ومن ثم تقديمها متى تطلب الأمر. كما ينص القانون على جواز فرض رسوم لتغطية تكاليف إعداد المعلومات، وهو أمر مثبط لهمة البسطاء من المواطنين في ممارسة حقهم الدستوري المتعلق بمساءلة الموظفين الحكوميين. كما أنّ هنالك ضبابية حول نوع المعلومات التي يُسمح للمواطن بالوصول إليها، فضلاً عن غياب الاحتياطات التي تتعلق بالخوف من الانتقام.

بالنظر إلى أنّ السودان يمر بمرحلة انتقال من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي، فإن المجتمع المدني لا يزال في طور تطوير استراتيجيات محتملة لترسيخ ثقافة النزاهة ورسم آليات محلية (local-led mechanisms) لتعزيز الحوكمة ومكافحة الفساد.

عليه، فمن الممكن لمنظمات المجتمع الدولي أن تلعب دورًا مهمًا عبر مواصلة الحوار مع الفاعلين المحليين في مجال الشفافية والمحاسبية في تقديم الخدمات العامة. هذا شرط أساسي لاجتراح استراتيجيات وآليات مكافحة الفساد متفق عليها وقادرة على استصحاب المنظور والخبرات المحلية.

كما أنّ تمويل أبحاث مكافحة الفساد، يمثل أولوية ملحة لإبلاغ مجالات التدخل المحتملة ودفع المجتمع المدني لمراقبة أداء الدولة ودعم استراتيجيات قائمة على الأدلة للدعوة إلى إصلاح السياسات العامة. تتميز المجتمعات بوجود أعراف غير مكتوبة وغير رسمية، معروفة فقط للمكونات المحلية، وبالتالي، فهي غير مرئية للمراقبين الدوليين. إن أخذ الديناميات المحلية للعلائق الاجتماعية والتي تعزز الفساد في الاعتبار يمكن أن يقدم استراتيجيات وممارسات أفضل وأكثر فاعلية لمكافحة الفساد.

أيضاً، يستلزم تطبيق النظام اللامركزي في تقديم الخدمات ضرورة قيام المجتمع المدني بوضع استراتيجية لمراقبة تنفيذ سياسة مكافحة الفساد على جميع مستويات الحكم. على الرغم من إمكانية تحقيق نتائج ملموسة عبر جماعات المناصرة المتركزة في العاصمة، لكن في ظل غياب شبكة رقابة عامة واسعة على المستوى القاعدي سيواجه المدافعون المحليون تعقيدات كبيرة لضمان تحقيق إنجازات مماثلة في الوحدات الحكومية الأدنى.

ختاماً، يجب أن يُنظر إلى إنشاء آليات المحاسبية الاجتماعية على أنها وسيلة مهمة لتعزيز النهج القائم على الحقوق في التنمية والحكم الديمقراطي، لأنها لن تساعد موظفي الخدمة العامة باكتساب رؤى نقدية حول تأثير قراراتهم فحسب، ولكن الأهم من ذلك، أنها تمكّن من تنشيط التعاون بين مسؤولي الدولة والمجتمعات التي يعملون فيها، الأمر الذي يساهم بشكل كبير في الحد من الفساد، وتبني سياسات موالية للفقراء، وتعزيز شرعية الدولة.

هيثم كرار ـ العربي الجديد