منوعات

أساطير سودانية .. سرديات وطنية وأخرى مضادة

تقول إحدى أساطير السودانيين الحديثة إن أصدقاء الشاب المتزوج لتوه ناصحوه:

– زوجتك مثلية.

– ماذا تقصدون بمثلية؟

– تحب الفتيات.

– هااااااه، تعنون أنها تنام مع بنات مِن جنسها.

– نعم!!!.

رد الشاب باللغة السودانية الدارجة:

-“أه.. عوارة ساي”. كان رده بالفصحى يعني “مجرد فتيات يمزحن ويتسلين مع بعضهن، وأن الأمر مدعاه للسخرية ليس إلا طالما ليس هناك ذكر في الأمر”

هكذا كان رد الشاب والذي لم يكن مثقفًا قط، ردًا باردًا دون أدنى اكتراث بالخبر الذي ظن من قالوه أنه سيزلزل كيان الرجل. ففي رأيه أنه ما دام ليس هناك مِن شيء يلج ويخرج تباعًا، إذًا لا بأس من بعض التسلية للبنات.

الأسطورة الأكثر حداثة من تلك تحملها مفارقة في التسمية المجازية الضاجة بالفكاهة. يطلق المثقفون السودانيون على المثليات جنسيًا اسم “النباتيات” (Vegetarians) وهي تسمية لمن يصفهم قاموس أكسفورد الحديث بـ”الأشخاص الذين لا يتناولون اللحوم، ولا المنتجات الحيوانية الأخرى، لأسباب أخلاقية أو دينية أو أي أسباب صحية أخرى”.

حذرتني إحدى الصديقات ونحن حضور في حفل وفتاتي تجلس إلى جواري:

– لا تغفل عن خطيبتك، احرسها جيدًا.

قالت ذلك بحزم وصرامة وهي تغمز إلي لأنظر إلى بعض الجميلات من المدعوات اللائي وصلن متأخرات بعض الشيء. وأردفت.

– كلهن نباتيات.

لكن انتبهوا، هذه اللامبالاة في الأسطورتين لا تنطبق على حالات الذكور.

قامت أول مظاهرة للمثليين جنسيًا من الرجال في السودان مطلع القرن المنصرم، حوالي العام 1910، والاستعمار الإنجليزي قد أحكم قبضته على البلاد، خرجت مجموعة من المثليين في تظاهرة بعاصمة المستعمر، مدينة الخرطوم.

الإدارة الاستعمارية متذرعة بالحفاظ على عادات وتقاليد المجتمع، داهمت بيتًا للمتع المحرمة يقدم الخدمة فيه صبيان، يؤمه من ينظرون بوافر مِن الاحترام إلى عمليات الجماع التي لا تلتقي فيها الأعين قط. قُبض على “الآثمون” وجيء بهم إلى القاضي الهندي الذي كان على ما يبدو مطلعًا على أدبيات مدرسة علم النفس البريطانية، فأصدر حكمًا من جملة واحدة:

– “مرضى نفسانيون”

الصفة التي نالت استحسان المحكومين ورفاقهم والمتعاطفين معهم، تطلبت احتفالًا من نوعٍ خاص، لا أحد يعرف كيف تم ترتيب ذلك، لكن يقول الرواة إن الأمر كان عفويًا، خرج الجمع المنتصر من المحكمة في مظاهرة هادرة احتفاءً بقرار وصمهم بالمرض النفسي، يرددون:

“ينصر دين القاضي الباكستاني..” وبقية الهتاف معلومة.

منح المتهمون المتخلون طوعًا عن صفتهم الجنسية، قاضيهم صك اعتراف فوري ومسبق بجنسية لم تكن دولتها قد نشأت بعد، بادلوه اعترافًا باعتراف.

اقرأ/ي أيضًا: الأيقونات الثوريّة.. جدليّة الرمز وصاحبه

بعض القصص عن المثلية بالسودان دونتها صفحات الكتب التي لم تحمل أسماء مؤلفيها، ككتاب “تاريخ مدينة الخرطوم”، الذي يفصل في ذكر أسماء مشاهيرهم وطريقة حياتهم وفتواتهم في الدفاع عن بعضهم، والمقالات مثل ما دونه “شوقي بدري”. على النقيض من المعلومات الموجودة في هذا النوع من الكتب والمقالات، تنهض سرديات أخرى مضادة، تقول بأن من جلب “المثلية” للبلاد هم الإنجليز، فالسودان لم يحكم بواسطة وزارة المستعمرات البريطانية، بل حكمته وزارة الخارجية، نتيجة لظروف سياسية معلومة آنذاك، التي كان موظفوها من أبناء الأسر الارستقراطية والبرجوازية.

– “نريد نيل شرف خدمة حكومة جلالة الملكة في السودان”.

هكذا كان يقول من لديهم ميول مثلية من موظفي الخارجية البريطانية والجيش الإنجليزي، وهم يطلبون الذهاب إلى السودان، في وقت كانت فيه الخدمة في المستعمرات هي العقاب لسيئي الأداء والمغضوب عليهم.

ونستون تشرشل نفسه، قبل أن تسري الشائعات بغُلمته كان قد خدم في السودان ضابطًا في القوة الغازية، قبل أن يبلغ شأوًا عظيمًا ويصير رئيس وزراء المملكة المتحدة، وتقول القصة إن ضابطًا إنجليزيًا كان وسط قوته من الجنود السودانيين بقوة دفاع السودان في مهمة بمنطقة خلوية، فأمر القوة بالتوقف وأخذ معه جنديًا واحدًا ليستطلعا الطريق.

الجندي الذي يحكي القصة بنفسه يقول أنهم حينما بلغوا أجمة صغيرة جعلتهم في مأمن من أعين الجنود الآخرين، أخرج الضابط مسدسه وأزاح زر الأمان، فأصبح جاهزًا للإطلاق، صوب ناحية الجندي، واضعًا إياه بين خيارين لا ثالث لهما؛ أن يعتلي مؤخرة ضابط من سلاح الفرسان بالجيش الملكي للإمبراطورية العظيمة ويحتفظ بحياته، أو أن يزين هذا الضابط جبين الجندي المسكين برصاصة. المنصتون للقصة يسألون بلهفة:

– وماذا حدث بعد ذلك؟

– أنا الآن أمامكم حيّ أيها البلهاء.

مرة أخرى يرد الرواة الشعبيون: “ألم يكن من بين أسباب قيام الثورة المهدية التي سبقت الاستعمار الإنجليزي؛ أن رجلًا في مدينة الأُبيض تزوج آخرَ من جنسه؟” لكنهم لا يكتفون بذلك، يسردون قصة: “عبد الله تورشين، خليفة محمد أحمد المهدي في الحكم وذراعه اليمنى في طرد الاستعمار التركي المصري من السودان عشية القرن التاسع عشر، أمر بالقبض علي مثليي العاصمة الوطنية أمدرمان، بعد أن تناقلت الألسن أخبارهم، تحدث الخليفة فتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.

الخليفة، الجلاد الأسوأ سمعة بين حكام السودان ماضيًا، أعجب أيما عجب بمقالة الرجل، ونظر إليه وقومه مستغربًا اجتماع طلاقة اللسان مع هذا الفعل “الفاضح”

طلب كبيرهم الحديث فأذن له. تحدث واعتذر فأفاض، وطلب العفو والسماح فأجاد.

الخليفة، الجلاد الأسوأ سمعة بين حكام السودان ماضيًا –لا تتم مقارنته إلا بالبشير-، أعجب أيما عجب بمقالة الرجل، ونظر إليه وقومه مستغربًا اجتماع طلاقة اللسان مع هذا الفعل “الفاضح”.

– “كلامكو حللللللللللو، إلا فعلكو شين”. قالها الخليفة بلهجة أهله من قبائل البقارة بدارفور.

وأخيرًا صرفهم دون عقاب.

لكن الكرامة الوطنية التي انتصبت في أوج ذكورتها كانت أيضًا بالمرصاد، وضد من هذه المرة؟ ضد هذه السردية نفسها، سردية أسباب قيام الثوة الوطنية، يقول بعضهم:

– الدراويش الذين نقلوا للمهدي خبر زواج ذكرين من بعضيهما وقامت بسببهما الثورة المهدية كانوا مخطئين، لم يكونا زوجين حقيقيين، كانا ممثلان يؤديان دورًا في مسرحية موضوعها غلاء مهور الزواج، وكان جميع الممثلين ذكورًا وحينها لم يكن النساء يمثلن، الدراويش الذين لم يروا في حياتهم مسرحًا، لم يدركوا أن الأمر مجرد تمثيل. وضاع نسب المثلية في السودان.

الآن جميعنا يعلم كيف تضيع الأنساب، الوصفة في غاية البساطة: خليط من التأريخ بشكل سيئ والأساطير الحديثة مضاف لها سرديات وطنية وأخرى مضادة.

أبو بكر عبد الرازق

كاتب وصحفي من السودان

العربي الجديد