رأي ومقالات

السودان وإثيوبيا .. توتر عابر أم صراع مقبل؟

لو كانت الأمور تُقاس ببداياتها، فقد كان الوضع الذي من المفترض أن تكون عليه العلاقات بين السودان وإثيوبيا أحد أفضل أنواع العلاقات بين بلدين جارين في القارة الأفريقية، ومردّ ذلك أن النظام الحاكم حالياً في أديس أبابا (الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية) وصلت إلى السلطة، بعد أن أطاحت نظام الرئيس منغستو هايلي ماريام، حيث شكل السودان الحاضنة السياسية والاجتماعية لفصائل الجبهة، وكان له دور حاسم في نجاح الانقضاض الأخير على ذلك النظام في العام 1991، ولكن العبرة بخواتيم الأشياء كما يقولون، وها هي الخواتيم الحالية تقول إن توتراً مسلحاً يخيم على حدود البلدين في منطقة الفشقة، ويتخوف كثيرون من أن يتطور إلى الأسوأ.

لعبت إثيوبيا هيلا سيلاسي (1930 – 1974) دوراً مهماً في اتفاقية السلام الموقعة بين حكومة الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري وحركة الأنيانيا الأولى المتمرّدة في جنوب السودان، وعُرفت باتفاقية أديس أبابا (مارس/ آذار 1972)، وأسهم ذلك في أن تكون العلاقة بين البلدين المؤسسين لمنظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي لاحقاً) علاقة حسن جوار وتبادل منافع، لكن إثيوبيا منغستو هايلي ماريام (1976 – 1991) كانت في حالة توتر مستمر مع الحكومات السودانية التي زامنت تلك الفترة (جزء من عهد الرئيس نميري ثم حكومة سوار الذهب والجزولى دفع الله ثم حكومة الصادق المهدي)، فعندما بدأت حركة تمرّد جديدة في جنوب السودان (الأنيانيا الثانية) أوائل الثمانينيات، سرعان ما تلقفتها المخابرات الإثيوبية، ورعت تحولها إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان التي أعلنت عن نفسها في 16 مايو/ أيار 1983، بقيادة العقيد جون قرنق. وواضح أن تلك الخطوة جاءت في سياق الرد على علاقات السودان القديمة والمستمرة مع كل من الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا بقيادة أسياس أفورقي والجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية بقيادة ميلس زيناوي، وهو التحالف الذي تمكّن من إطاحة نظام منغستو في العام 1991.

ولكن التوتر سرعان ما أصاب علاقات الخرطوم مع أسمرا، فقد قطعت الأخيرة هذه علاقاتها في 1994، وسلمت مبنى السفارة السودانية إلى تحالف المعارضة السودانية، التجمع الوطني الديمقراطي، في ردٍ على ما اعتبرته دعماً سودانياً للمعارضة الإسلامية الإريترية. ولم يمض وقت طويل حتى لحقت أديس أبابا بأسمرا على خلفية محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك في أديس أبابا (يونيو/ حزيران 1995)، وتحول هذا التوتر بعد سنوات قليلة إلى حرب مباشرة تم شنها على السودان في 1997، بواسطة ثلاثة من جيرانه، أوغندا وإثيوبيا وإريتريا وبالتزامن، فيما عرفت وقتها عملية الأمطار الغزيرة التي رعتها ودعمتها علناً الإدارة الأميركية، ونتج عنها احتلال منطقة الفشقة، محل التوتر الحالي بين السودان وإثيوبيا، وهي منطقة سهول منبسطة في منخفض الهضبة الإثيوبية، وتتاخم الحدود الدولية المشتركة بين السودان وإثيوبيا وإريتريا، ويجري فيها نهر عطبرة الذي ينحدر من الهضبة. وليست المنطقة محل نزاع قانوني بين البلدين، حتى قبل استقلال إريتريا، لكن مزارعين أثيوبيين هم من كانوا، في واقع الأمر، يزرعونها ويحصدونها، يستأجرهم أصحاب الأرض السودانيون بصيغ متعارف عليها محلياً. وبمرور الوقت، استوطنت أعداد منهم في المنطقة، وشيئاً فشيئاً أنشأوا مليشيات مسلحة لحمايتهم من هجماتٍ كانت تشنها عليهم أحياناً مجموعات ذات صلة بالحرب الأهلية الإثيوبية قبل استقلال إريتريا. وعندما نشب التوتر، ثمّ الحرب بين إثيوبيا وإريتريا، أضحت منطقة الفشقة إحدى نقاط الهشاشة الأمنية بين البلدان الثلاثة، إذ تخشى إريتريا من أن يسمح السودان، عمداً أو من غير عمد، للجيش الإثيوبي بأن تتسلل عناصره العسكرية للالتفاف من تلك المنطقة ومهاجمة إريتريا، والعكس ما تخشاه إثيوبيا.

عام واحد عقب الأمطار الغزيرة، أخذت العلاقات بين السودان وإثيوبيا تعود إلى طبيعتها تدريجياً، لأن إثيوبيا كانت قد بدأت تُعد للحرب مع جارتها إريتريا، وهي الحرب التي اندلعت على ثلاث مراحل، كانت الأخيرة في العام 2000. وكان كل من البلدين بحاجة لأن يضمن حياد السودان في ذلك القتال، وهو ما حدث، لكنه حيادٌ تسبب في أن يتراخيا في حسم ترسيم حدودهما المشتركة، لأن ذلك كان سيترتب عليه إخراج المزارعين الإثيوبيين ومليشياتهم من المنطقة، وبالتالي يسبب للحكومة الإثيوبية مشكلة داخلية، تريد أن تتجنبها، وقد استجاب السودان للرغبة الإثيوبية بعدم الاستعجال في حسم ترسيم الحدود لتقديراتٍ تتعلق بالتوازنات الإقليمية. وبدلاً من ذلك، شكل البلدان لجنة عسكرية لأمن الحدود، كانت تجتمع دوريا، وبالتبادل في إحدى عواصم الأقاليم الحدودية لكليهما؛ واستمر الحال هكذا عدة سنوات لم تشهد فيها المنطقة توتراً، ما عدا ما يظهر موسميا من اعتداء “عصابات الشفتة” الإثيوبية على المزارعين السودانيين، سرعان ما يتمّ احتواؤها على نحو أو آخر.

بعد نحو 25 عاماً من سيطرة قومية التيغري على مقاليد الحكم في إثيوبيا، والتحكم في الأمور داخل التحالف الحاكم، على الرغم من أنهم، من حيث التعداد السكاني، يمثلون القومية الثالثة بعد الأورومو والأمهرا، كان الخلاف داخل التحالف قد بلغ مداه، وبدأت في نهاية العام 2015 احتجاجات كبيرة قادتها القوميتان الكبيرتان، وأدّت، في نهاية الأمر، إلى تغيير معادلة الحكم داخل التحالف، فصعد إلى رئاسته آبي أحمد، أحد قادة قومية الأورومو، وهو رئيس الوزراء الحالي. ويبدو أن القوى الدولية والإقليمية التي أسهمت في صعود نجم آبي أحمد، ووصوله إلى رئاسة الحكومة، أرادت أيضاً أن تستكمل هذا المشروع بتغيير هوية التحالف نفسه، إذ اقترح الرجل على شركائه أن يغير التحالف اسمه ليصبح حزب الازدهار، وقدّم مبرراً لذلك يبدو منطقياً، أن يتراجع تأثير القبائل والقوميات لصالح البناء والوحدة الوطنيين. ولكن هذا المنطق لم يقنع قومية التيغري، فرفضوا التوقيع على ميثاق التحول، ما يعني أن الانتخابات العامة المقرّرة في إثيوبيا في أغسطس/ آب المقبل ستشهد إعادة خلط الأوراق، خصوصا وقد بدأ يتضح أن آبي أحمد نفسه يواجه مصاعب داخل قوميته (الأورومو). ولعلّ حساسية الأوضاع الداخلية في إثيوبيا، إن لم نقل هشاشتها، هي ما تفسر امتناع الجانب الإثيوبي من التوقيع، بالأحرف الأولى، على مسودة اتفاق سد النهضة الذي رعت مفاوضاته واشنطن.

وهكذا فقد جاءت الأحداث أخيرا في منطقة الفشقة في أجواء أقل ما يقال عنها إنها دقيقة وحرجة، سواء للسودان الذي يعيش مرحلة انتقال سياسي هش، ساهمت إثيوبيا في توحيد أطرافه المكونة من قوى سياسية وعسكرية، لم يجمع بينها كثير توافق على برنامج موحد للانتقال الديمقراطي، أو بالنسبة لإثيوبيا التي تعيش توتراً داخلياً بين عدد من قومياتها، وهي تستقبل الانتخابات التشريعية بعد أشهر قليلة، وتوتراً خارجياً مع مصر، بسبب أزمة سد النهضة، ومع جارتها إريتريا التي تبقى غير راضيةٍ عن عدم استكمال تطبيع العلاقات بينهما وترسيم الحدود. ولا شك في أن التوترين الخارجيين ينعكسان على الأوضاع الداخلية. وفي هذه الأجواء، برزت مجدّداً أزمة الحدود مع السودان، ولم يمض وقتٌ طويلٌ على زيارة وزير رئاسة مجلس الوزراء السوداني إلى أديس أبابا ولقائه مع رئيس الوزراء الإثيوبي، واتفاق الطرفين على التعجيل بخطوات ترسيم الحدود، وهي الزيارة التي أعقبت زيارة رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان، الفريق عبد الفتاح البرهان، تلك المنطقة، وحديثه إن القوات المسلحة السودانية ستكون حارساً للحدود ومصالح المزارعين في المنطقة؛ فهل رغبت إثيوبيا، في مساندة جيشها مليشيات مزارعيها في الأحداث أخيرا، في إشعال فتيل نزاع مسلح فيما يمكن أن يُعتبر هروباً إلى الأمام من مشكلاتها الداخلية قد يكون من أغراضه إيجاد مبرّر لتأجيل الانتخابات التشريعية، أم أن الأمر بالفعل تصرّف محلي، ولم يكن بموافقة الحكومة الفيدرالية؟
يقول المنطق إن أديس أبابا ليست لها أية مصلحة وطنية في أن تخسر الخرطوم في الوقت الراهن، خصوصا وهي تخوض نزاعها الدبلوماسي في قضيتها المصيرية مع القاهرة، مشروع سد النهضة. ويُعزز هذا المنطق ما سبقت الإشارة إليه أنه ليس هناك نزاع بالمعنى القانوني حول تبعية المنطقة للسودان، وأن أديس أبابا، على العكس، ستحرص على طي هذا الملف عاجلاً أم آجلاً، بعد التفاهم على الكيفية مع الحكومة الانتقالية في الخرطوم. ويميل كاتب المقال إلى ترجيح هذا الاحتمال، لكن ذلك، بطبيعة الأحوال، لا يلغي أن يظل احتمال التصعيد وارداً، فالتأثيرات الإقليمية على الأوضاع الداخلية في إثيوبيا، من دولتين لهما مصلحة راهنة في ذلك، إريتريا ومصر، ستكون العامل المرجّح في مسار الأحداث المقبلة.

العبيد أحمد مروح
العربي الجديد