رأي ومقالات

حول الأحزاب: في بطلان الركم


اللغة العربية حمالة أوجه. وكلمة الأحزاب استقرت في كثير من أدبيات الحركات الإسلاموية مربوطة بأحزاب غزوة الخندق (لا إلـهَ إِلاَّ اللهُ وَحدهُ، أنجزَ وَعدهُ وَنصرَ عَبدهُ وَأعزَّ جُندهُ وَهزمَ الأحزابَ وَحدهُ) باعتبار أن التعددية الحزبية شيء بغيض والمشروعية مقصورة على جماعة واحدة وحزب واحد هو “حزب الله” ما عداه هو “حزب الشيطان”، وقد سادت هذه الذهنية لدى النظام البائد ومشروعه الحضاري الذي قال إنه قائم على التوحيد، ليس لله فقط، بل نادى بالتنظيم السياسي الواحد، وحتى حينما قبل بالتعددية اتخذها بصيغة التوالي الملتوية في دستور 1998م، قبل أن يقبلها معيبة في دستور 2005م، بحيث نص عليها ثم سحب مضمونها بعبارة وفق القانون، والقانون مفصل على تمكين حزب وحيد.
يقول الدكتور محمد عمارة رحمه الله إن ما أسهم في إشاعة وترسيخ المفاهيم السياسية المعيبة “فكر فقهاء السلاطين” الذين منحوا المشروعية لنظم التغلب والاستبداد، ودعوا إلى طاعة ولاة الجور والفسق والفساد إذا هم اغتصبوا السلطة بالقوة، ومقولاتهم اللافظة للحزبية ليست صحيحة إذا عرضت على الفكر السياسي الإسلامي وإذا حوكمت بمعايير الإسلام فـ”طالما كانت مصلحة مجموع الأمة هي الغاية فلا بأس أن تتعدد الرؤى، وتتنوع السبل التي يسلكها المسلمون لتحقيق المصلحة العامة للأمة جمعاء”. (الإسلام والمستقبل، ص 159-160).
(2)
لقد أثبتت التجربة العملية أن شعارات الإسلامويين التي تسيء للأحزاب مغرضة فهي تريد احتكار الحديث بالحق الإلهي، ولكنها نفسها متعددة وتعاني من انشقاقات مستمرة وفي ذلك فإنها لا ترعوي عن حمل عصا “التكفير” على إخوة الأمس حتى يخلص لها تعريف “حزب الله” لذاتها. ومن يقرأ مقال الأستاذ الطيب زين العابدين رحمه الله “حرب البسوس الإسلامية” وكتابات الدكتور عبد الوهاب الأفندي، ينظر كيف هزم أولئك في السودان دعوتهم لأجل السلطان.
لا يحبذ كثير من الثوار الإشارة الساطعة لأنهم كان بإمكانهم القضاء علينا جميعاً بفتوى قتل ثلث أو نصف الناس لإبقاء البقية (المتوضئة) لولا أن خلافاتهم أدت لأن ينحاز للثورة فصيلٌ وفي نفسه غرض، ولكن مشيئة الله والشعب كانت أغلب، دخلوا بغرضهم، ودخلنا بنصاعة نيتنا المدنية الديمقراطية، وبنصر الله.
والغريبة لدى أصحاب الهوس الإسلاموي تسرعهم في “كرزنة” غيرهم ونعتهم بالتبعية للأجانب، مع أن حكمهم الآفل، وبرغم حدائه السخيف “أمريكا روسيا قد دنى عذابها، عليّ إن لاقيتها ضرابها”، كان الأخزى في تبعيته، والأردى في التذلل للأجانب غرباً وشرقاً، وفي ذبحه للسيادة الوطنية من أي نظام حكم السودان في التاريخ. غض طرفه عن احتلال أراضيه في حلايب والفشقة وبادمي لكي يشتري صمتاً على جرائمه، وصار السودان في عهده في رأس قائمة الدول التي باعت أراضيها للأجانب، ووقع اتفاقية ذيل اسم الأجنبي بعض بروتوكولاتها (بروتوكول أبيي مثالاً)، وولج في عهده آلاف الجنود الأجانب إلى دارفور وأبيي، وباع معلوماته الاستخبارية، وباع حلفاء الأمس لكي ترضى عنه الاستخبارات الأمريكية بدون أن ترفعه عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، وبلغ به الابتذال في آخر عمره أن جاء ب”فانيلة ميسي” مزورة لتكريم رئيسه!
(3)
أما بالنسبة للعلوم الاجتماعية الحديثة فقد صار من المسلم به أن الأحزاب السياسية هي التي صنعت الديمقراطية. وأن وضع الأحزاب هو الدليل الأقوى على طبيعة أي نظام، وأن أهم تمييز بين الديمقراطية والديكتاتورية يمكن أن يتم عبر الأحزاب السياسية.
ولكن هذه المسلمات لم تعف الأحزاب السياسية من قادح في أهميتها الاستراتيجية، فهناك الآن من يشير إلى تراجع الحزبية حتى في الديمقراطيات العريقة، وإلى عيوب التجربة النيابية التي يمكن أن تأتي برئيس كالأمريكي الحالي لا يأبه بأي من قيم الإنسانية الصاعدة كلفظ العنصرية والماسوجانية (تحقير النساء). وهو هجوم يردد صدى نقد الماركسيين لليبرالية، ويتماشى مع أصحاب نظرية النخبة أو الأوليغاركية (حكم القلة) على رأسهم عالم الاجتماع الألماني روبرت ميشال صاحب كتاب “الأحزاب السياسية” الذي كان معارضاً للماركسية والليبرالية على السواء، وفكرته أن النيابية تنتج عن نخبة تعمل بيديها ورجليها للبقاء على السلطة، فتذبح الديمقراطية.
لكن كثيرون يستخدمون الحجج التي تذكر الحالة الضعيفة للأحزاب وللنظام النيابي كأقوى منطق لضرورة تقوية الأحزاب كشرط لا بديل له لتعزيز الديمقراطية.
(4)
هناك هجوم كثير على الأحزاب في السودان، هجوم بمدافع رشاشة يمسك بها مصوبون قصد غالبهم إرداء الديمقراطية لا بناءها. ومن الغريب أن البعض حتى على صفحات صحيفتنا هذه التي تسمى (الديمقراطي)، وبرغم ميثاقها، الذي شجب إعلام الشمولية وتشويهه للخيار الديمقراطي، لا يتورعون عن سب الأحزاب جملة والحكم بزيف النيابية.
طبعاً كلنا مشفقون على البلاد، ولا ينكر أحد بئس حال الحاضنة السياسية للثورة وتفرق وتناحر أحزابها بما يكاد يضيع حلمنا الذي كم شدونا به “حنبنيهو”.
لكن الذي يدرك ذلك عليه أن يدرك قبلاً أن الداء العضال الذي تسبب في كل هذا ليس هذه الأحزاب بقدر ما هو استهدافها منذ كانت جنيناً أيام الاحتلال الثنائي، ثم في العهد الوطني و85% منه ديكتاتوريات تعدها كالأفيون والهيروين، فتعمل من تحت الأرض أو فوقها مع وصم إعلامي تضليلي ضخم بغرض شرذمتها وخلق الفتنة بينها، وتشويهها وتنفير الناس منها. وكان النظام البائد للتو الأستاذ الأكبر في تلك الحملة، لقد تنفس الشعب على مدى ثلاثين عاماً هواء ذم الأحزاب، فلا يستغرب أن عبر بعض الشباب الذي لم يستنشق سوى تلك السموم، عن رفض الحزبية قولاً واحداً.
(5)
للأحزاب مشاكلها وسوء أدائها وتخلفه الذي بعضه انعكاس للبيئة الثقافية والاجتماعية التي لم تنهض بعد، مثلما هو انعكاس لغيبوبة وطنية كبرى، بل غيبوبة أمة، قارة، ونصف الكرة الأرضية أو يكاد. فالأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات، وكل لبنات الديمقراطية مرآة لمجتمع يعاني انقسامات وتخلف وغيبة عن صفحة التاريخ.
إن النهضة والبناء المنشود لن يكون بدون تحول ديمقراطي معافى من تجارب التناحر السابقة، وهذه التجربة المعافاة لن تتم بإعلان اليأس من الجميع والسباب اليومي.
علينا أن نضع المعايير المطلوبة للعمل الحزبي من إعلاء المصلحة الوطنية العليا، وإرساء المؤسسية، والديمقراطية الداخلية، وإتاحة صيغ مناسبة للعدالة النوعية، والمشاركة الشبابية ومشاركة القوى الحديثة داخل الأحزاب، وأن نحكم للأحزاب أو عليها بأدائها لا بالدعاية “الإنقاذية” لنقول لمن أحسن أحسنت ولمن أساء أسأت، وبذلك فإننا نشجع الأداء الأفضل ونحفز الأضعف للاجتهاد بمنطق التنافس.
أما ركم الجميع بذهنية تستبق الرصد والتدقيق عنوانها “لم ينجح أحد” فسوف يحبط من اجتهد ولو قليلاً، ويطمئن من نام على العسل طويلاً، بأنه لا ضير، فمهما اجتهد مجتهد وفرط مفرط فإن التقييم واحد، وهكذا، لن ينجح حقاً أحد.
وليبق ما بيننا

رباح الصادق
الديمقراطي