رأي ومقالاتمدارات

السودان في مفترق الطرق: اتفاقية للسلام أم انقلاب ناعم؟

مقدمة:
لقد ظلت الحكومة الانتقالية في السودان (بقيادة البرهان-حمدوك-حميدتى) تطلق من حين لآخر تصريحات مثيرة للجدل، وتتخذ مواقف مثيرة للدهشة، غير أن “اتفاقية السلام” التي أبرمتها في جوبا مع مجموعة من الحركات المسلحة (مطلع أكتوبر 2020م) قد تكون هي الأكثر اثارة للجدل، والأبعد أثراً، ليس في مسار الحكومة الانتقالية وحسب، وإنما في مسار الحياة السياسية في السودان في مرحلة ما بعد الإنقاذ. وقد لا تتضح أهمية هذه الاتفاقية وما قد يترتب عليها من آثار ما لم نترفع قليلاً عما صحبها من صخب اعلامي، لنلقى نظرة متأنية الى التعقيدات السياسية والاقتصادية، والتقاطعات المحلية والإقليمية التي ألمت بالسودان بعد الثورة الشعبية الأخيرة، والتي جعلت الحكومة الانتقالية توقع على هذه الاتفاقية في محاولة أخيرة للخروج من حالة الاختناق السياسي-الاقتصادي المتطاول.
ولا يخفى على أحد أن اختناق النظم الانتقالية قد يتولد في داخلها، بسبب هشاشة تحالفات ما بعد الثورة، وصعوبات الانتقال من نظام منهار الى نظام لم يولد بعد. إذ لم يمض عام ونصف على الثورة الشعبية السودانية الا وقد بدأت أنظار جماهير الثورة تتحول (في شيء من الحزن) من التحديق في سيئات نظام الإنقاذ الذي ازاحته الثورة، الى التفرج (في شيء من الاشفاق) على سياسات الحكومة الانتقالية التي انتجتها الثورة. ويعود الاشفاق الى أن الجميع يقر بأن “الانتقال” في ذاته يمثل تحديا، فما من حكومة تكلف بمهام ما بعد الثورة الا أحاطت بها المشكلات من كل جانب، فهناك جماهير ثائرة تتعجل الحلول الثورية الناجزة التي تقضى على المشاكل التي ثارت من أجلها، وهناك فصائل “الائتلاف الحزبي-النقابي” الذي قاد الثورة في مراحلها الاولى ويريد كل فصيل حظه كاملا في السلطة، وهناك “فصائل مسلحة” في أطراف البلاد تحتفظ بكامل قواتها وتطالب بنصيب الأسد في الحكومة الانتقالية، وهناك بالطبع وضع اقتصادي متردي يراد منه أن يلبى كل هذه الطلبات بين عشية وضحاها!
على أن “إحصاء” المشكلات لن يقود وحده إلى فهمها وانما يحتاج المرؤ إلى إطار نظري يفك رموزها، والى تحقيب تاريخي يردها الى جذورها ثم يتابع تطورها. ولقد درج بعض الباحثين في مسيرة الثورات إلى التأشير على ثلاث مراحل تمر بها الثورة، وهي: مرحلة الاندفاع الثوري، ومرحلة الواقعية السياسية، ومرحلة الاستقرار والتنمية. وسنحاول في هذا المقال أن نقترب من ظاهرة الثورة السودانية وفقا لهذا النمط من التحليل إلى أن نهتدى إلى ما هو أكثر دقة وملائمة.
أولاً: مرحلة الاندفاع الثوري:
تميزت هذه المرحلة، سياسياً واعلامياً، بتواري الحزبين الكبيرين (تاريخياً)، الأمة والاتحادي، وبروز أحزاب الأقليات اليسارية الثلاث (الشيوعي، والبعث، والناصري) إلى جانب بعض التنظيمات المهنية وتجمعات المستقلين. فهذه التنظيمات هي التي تصدرت للقيادة، واتخذت مسمى “الحاضنة السياسية” لحكومة الثورة، فأعدت وثائقها الأساسية، وصنعت هياكلها، وتقاسمت السلطة مع المجلس العسكري. ولم يكتف هؤلاء بإيداع قادة حكومة الإنقاذ في المعتقلات وحل تنظيماتهم ومصادرة ممتلكاتهم، فيما عرف بإزالة “التمكين”، وإنما قامت هذه التنظيمات ذاتها، في محاصصة حزبية محمومة، “بتمكين” عناصرها في مفاصل الدولة، ثم أضفت على عملية الاحلال والابدال تلك طابع الصراع الايديولوجي القديم-المتجدد بين تيار الإسلام السياسي وتيار اليسار العلماني الذي يسعى في عجل لإعادة تأسيس المجتمع السوداني برمته، والتحول به نحو وجهة جديدة (ثقافة وسياسية واقتصاداً). وصار الهدف الاستراتيجي للحكومة الانتقالية وحاضنتها السياسية هو القضاء على نظام الإنقاذ وتصفية المنتمين اليه في كل أجهزة الدولة (خاصة في القوات النظامية والاقتصاد والتعليم والقضاء).
غير أن هذا المشهد لم يستمر طويلاً، إذ برزت للسطح ثلاثة متغيرات كبرى: كان أولها وأكثرها وضوحا هو “ابتعاد” الحركات المسلحة عن الانخراط في العملية السياسية الجارية لصالح الاكثار من الشروط والضغوط؛ أما المتغير الثاني، والذي لا يقل خطورة عن الأول فهو “التصدع” الداخلي لقوى الحرية والتغيير، وقد بدأ ذلك جليا في انتخابات “تجمع المهنيين”، وسيطرة كوادر الحزب الشيوعي عليه، مما أوضح أن القوة التي كانت تعتمد عليها قوى الحرية والتغيير (قحت) لم تكن نابعة من استراتيجية وطنية راسخة، بقدر ما كانت مستمدة من كراهية مشتركة لنظام الإنقاذ، فلما سقطت الإنقاذ تساقطت (قحت) لانعدام وحدة الهدف، مما دفع رموزاً ثورية بارزة للزهد في العمل المشترك، وللبحث عن تحالفات بديلة. ثم يأت من غير حسبان متغير ثالث أدخلته الإدارة الأمريكية (وحلفاؤها الاقليميون) في المشهد السوداني، ويتمثل في “الربط” بين رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب وتطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل.
ثم يضاف الى هذه العوامل الثلاثة عامل رابع يتمثل في الوضع الاقتصادي المتردي. لقد تأكد للأحزاب اليسارية الحاكمة (وللمجلس العسكري على وجه الخصوص) أن هناك واقعاً اقتصادياً متردياً لا يمكن تجاوزه أو القفز فوقه، وهذا يعنى أن المعركة الحقيقية ينبغي أن تتحول من آفاق الأيديولوجيا العليا الى المعاناة اليومية للمواطن، ومن ثنائية اليمين واليسار الى ثلاثية الخبز والوقود والدواء. وصارت الأسئلة تتري: هل يستطيع الوزراء المدنيون الذين اختارتهم قوى الحرية والتغيير أن يوفروا هذه المواد الأساسية البسيطة-الآن قبل غد؟ وهل سيميل الداعمون الاقليميون (ومن ورائهم الولايات المتحدة) الى هؤلاء أم الى أولئك؟ وهل سيستمر الشارع السوداني يهتف لحكومة (الحرية والتغيير) حتى الرمق الأخير؟ وكانت الإجابة أن قوى الحرية والتغيير لا تستطيع أن تتفق على برنامج اقتصادي، ولا تستطيع من ثم أن تجيز ميزانية عامة، أو تستفيد من صادر الذهب والماشية، أو تسدد مديونية الدقيق. مما جعل حكومة الثورة تحيل الملف الاقتصادي برمته ليس الى وزير المالية (عالم الاقتصاد الذي أتت به الثورة، ولكنه سرعان ما تقدم باستقالته وغادر المسرح)، ولا الى رئيس الوزراء (الخبير الاقتصادي الذي أتت به الثورة)، وإنما أحيل الملف الاقتصادي الى السيد نائب رئيس المجلس العسكري، الذي عرف بأنه قائد مليشيات سابق!
وتجاوبا مع هذه المتغيرات فقد صار كل فريق يتشكك في الآخر، فبدأ يعيد حساباته، ويبحث عن “شراكة” أصلب عوداً، وأوفر عائداً. وصارت قوى الحرية والتغيير على قناعة بأن “الشراكة” بينها وبين المجلس العسكري قد لا تستمر طويلاً، بينما تزايدت قناعة المجلس العسكري بأن قوى الحرية والتغيير لن تكون حاضنته السياسية المأمونة، وأن أمامه واحد من خيارين: إما أن يتمهل ويصبر على مصاعب المرحلة الانتقالية لحين انقضاء دورته المقررة في الوثيقة الدستورية، مع احتمال أن يؤدى ذلك الى خروج خاسر من العملية السياسية (مع ما قد يترتب عليه من ملاحقات جنائية)، وأما أن يقوم بقفزات استباقية يطيح من خلالها بقوى الحرية والتغيير، ويشكل تحالفاً جديداً تدخل فيه الحركات المسلحة، وترضى عنه القوى الإقليمية والدولية، فيكون بذلك قد ضرب العصافير كلها بحجر واحد. وهذا هو الخيار الذي انتهى اليه وقاده للمسارعة بالتوقيع على اتفاقية السلام في جوبا (كما سنوضح لاحقا).
ومع هذه السلبيات الكثيرة التي صاحبت فترة “الاندفاع الثوري”، لا يمكن القول بأن زخم الثورة الشعبية قد تبخر، بل يمكن القول، على العكس من ذلك، أن الحراك الشعبي الذي أطاح نظام الإنقاذ في أبريل من عام 2019 مثٌل ثورة حقيقية ضد ما كان سائداً من صور الفساد والطغيان، وعبر عن رغبة صادقة في الحرية والسلام والعدالة (وهي الشعارات التي هتفت بها الجماهير في مسيراتها المليونية المتكررة). كما يمكن القول بأن الثورة قد تحولت الى “رأى عام مستنير” لا يقل قوة عن قوة المجموعات السياسية الحاكمة. ومما يؤكد ذلك أن هذا “الرأي العام” هو ما جعل الحكومة الانتقالية تتراجع أو تتردد في كثير من قراراتها، وتتريث في كثير من مواقفها؛ سواء في ذلك تعينات حكام الأقاليم (كسلا مثالا)، أو تعينات الوزراء وإقالتهم، أو غيرها من خطوات لم تتخذها إلا وعينها على الضغط الذي يشكله الرأي العام. وكما أنتجت الثورة رأيا عاما مستنيراً، فقد وفرت مناخاً من الحرية والانفتاح لم يكن معهوداً، وقد يساعد هذا الوعي وتلك الحريات في تفادى الانزلاق في “الحرب الأهلية” التي منيت بها المجتمعات المجاورة في أعقاب ثورات الربيع العربي.
على أن الحقيقة التي لا يمكن انكارها هو أنه ما لم يتحقق تحسن ملموس في معاش عامة الناس بتوفير حاجاتهم الأساسية، خاصة أولئك الذين نهضوا بأعباء الثورة، فان اليأس والإحباط سيتسرب الى نفوسهم، وسيتبدد الأمل لديهم، وستقل من ثم دافعيتهم نحو العمل، وسيتحول قطاع كبير من الناس من حرفيين وعمال وعلماء ومزارعين الى مجرد ناشطين سياسيين وفائض عمالة.
ثانياً: مرحلة الواقعية السياسية: اتفاقية جوبا:
ما أن تم التوقيع على اتفاقية السلام في الثالث من أكتوبر 2020 الا وقد قوبلت بحالتين متضادتين: حالة التهليل الصاخب الذي روج له المؤيدون للاتفاقية، وحالة التشاؤم والتشكك. وكلا الحالتين لا يساعدان على فهم دقيق لما ترمى اليه الاتفاقية. فالمتشائمون يذهبون إلى القول بأن هذه ليست اتفاقية سلام بقدر ما هي حالة إذعان للحركات المسلحة، وإنها تسير في اتجاه الانفصال، غير أنها تمهد له بنوع من مهادنة تكتيكية سارت عليها من قبل حركة تحرير جنوب السودان بقيادة العقيد جون قرنق. ولذلك فمن الأفضل، بحسب هؤلاء المتشائمين، أن نبدأ في ترتيب الانفصال دون تبديد للوقت والثروة. ويذهب آخرون الى القول بأن هذا اتفاق تشتم منه رائحة العنصرية والقبلية، وأنه لا يعدو أن يكون حلفا سياسيا يسعى أصحابه من أبناء دار فور لوضع أبناء النيل والوسط في القفص. وكل هذه في تقديرنا قراءات متعجلة، وينقصها النظر الموضوعي فيما وراء بنود الاتفاقية من فلسفة وأهداف.
غير أن هذه القراءات، على نقصها، قد تجد رواجاً ليس من جهة التدقيق في بنود الاتفاقية ولكن من جهة “القرائن” التي صاحبت مكان انعقادها، وكيفية ادارتها، وتكوين الوفود التي قادت مفاوضاتها، ووقعت على وثائقها. وأول ما يلفت النظر من هذه القرائن هو مدينة “جوبا” مكان انعقاد المفاوضات، وما لذلك المكان من رمزية لافتة. لقد كان من الممكن أن تنعقد المفاوضات في الخرطوم، إذ لم تعد هناك مخاوف أمنية بعد أن آلت الأمور الى حكومة الثورة، ولكن الإصرار على اجراء المفاوضات في جوبا، وتحت رعاية وإدارة حكومة جنوب السودان يعطى إشارة الى أن الأخيرة ليست مجرد “وسيط” يعمل لإنجاح المفاوضات وإنما هي وكيل أو “شريك” تهمه مساراتها ومخرجاتها. وإذا صح هذا فسيكون مؤشراً على أن هذه الشراكة هي جزء من مشروع قديم متجدد هو مشروع حركة تحرير السودان، الذي حقق نجاحه الأول بإقامة دولة للمهمشين في جنوب السودان، ويواصل الآن مجهوداته نحو تحرير بقية “شعوب السودان” من قبضة “المركز”، الذي ظلت تتحكم فيه، بحسب منظورها، النخب “النيلية”.
ومع أن هذه قرينة ضعيفة ولا تقوى وحدها لعقد صلة بين مشروع حركة تحرير السودان ومشروع الحركات التي وقعت على الاتفاق، إلا أن هناك تشابها لا يُنكر بين الإطار النظري الذي تضمره بنود هذه الاتفاقية، والإطار النظري الذي استندت عليه سابقا اتفاقية “مشاكوس” بين حكومة الإنقاذ وحركة تحرير السودان بقيادة قرنق. والتشابه يكمُن في النقاط المنهجية التالية:
· اتباع منهجية الاتفاق المنفرد مع طرف واحد من أطراف النخب الحاكمة في الشمال، وعزله (خلال عملية التفاوض) عن محيطه الحيوي الداخلي (أو حاضنته السياسية والاجتماعية)؛
· اتباع منهجية مناهضة لسيادة الدولة القومية (anti-statism)، والتركيز على مفهوم أن الدولة المركزية ليست محركاً للتنمية بقدر ما هي العائق الأساس الذي يقف ضد المصالح والحاجات المشتركة، فلابد والحالة هذه من تجاوز مفهوم الدولة القومية ذات السيادة، وما يتبع ذلك من مفاهيم (حكم الأغلبية مثلاً)؛
· الانصراف المتدرج عن مؤسسات الدولة المركزية القائمة، وإنشاء شبكة من المؤسسات والمفوضيات البديلة تكون وظيفتها الأساسية تحقيق المصالح المشتركة التي يتوافق عليها أطراف التفاوض؛
· تفادى صراع المجموعات حول الدولة المركزية بالنأي عن الدولة المركزية ذاتها، بحيث ترغم على التخلي عن عدد من الوظائف والاختصاصات ليتم تخصيصها وتحويلها الى مفوضيات، أو توزيعها على الأقاليم.
فإذا نظرنا في “اتفاقية سلام جوبا”، ثم نظرنا في هذه النقاط بتمعن، سنجد أنفسنا مضطرين للقول بأن هذه الاتفاقية لم تخرج في أغلب الظن من جلباب منو اركوي وحميدتى والبرهان، وإنما تم استخراجها وبلورتها من تراث سابق في الاتفاقات، ووفقا لفلسفة خاصة في الحكم. وأن من صاغ هذا الاتفاق ومن وقع عليه يهدف صراحة الى “التحول” من نظام “الحرية والتغيير” القائم على بنود “الوثيقة الدستورية”، إلى نظام جديد للحكم تكفلت بنود اتفاقية السلام بوضع أركانه الأساسية. وقد لا نستطيع في هذا المقام أن ننظر في كل بنود الاتفاقية، ولكن يكفي أن نتوقف عند النقاط التالية التي تمثل بتقديرنا جوهر الاتفاقية، والتي تؤكد أننا نقف بالفعل على مشارف تحول كبير في مسار السياسة السودانية:
النقطة الأولى: العلاقة بين اتفاقية السلام والوثيقة الدستورية:
يلاحظ أن اتفاقية السلام لا تلغى “الوثيقة الدستورية” بصورة واضحة ولكن لا تعتبرها مرجعية عليا، بل تنزل بها إلى حيث تتساوى مع بنود الاتفاقية؛ ثم تؤكد أنه في حالة التعارض بين الوثيقة الدستورية وبنود الاتفاقية فان التناقض يزال بتعديل الوثيقة الدستورية. وهذا يعنى صراحة أن تحولاً قد جرى من” المرحلة الثورية” وما استولدت من مواثيق، إلى المرحلة الجديدة وما تستولد من مواثيق، كما هو تحول من حاضنة المجموعات السياسية المتمركزة في الخرطوم، الى حاضنة الحركات المسلحة المنتشرة في الأقاليم النائية، والى حاضنة القوى الشعبية-الريفية الصامتة. وهو تحول يرقى، إذا قدر له أن يكتمل، الى مستوى الانقلاب الناعم.
النقطة الثانية: رؤية الاتفاقية للفترة الانتقالية:
اتفق الطرفان على أن تكون هناك فترة انتقالية جديدة تستمر (39) شهراً، تبدأ من تاريخ التوقيع على الاتفاق. وهذا يعنى، ضمن أمور كثيرة، “تصفير عداد الفترة الانتقالية”؛ أي اسقاط الدورة الأولى من الحسبان، والشروع في دورة جديدة، وفقاً لشراكة جديدة تبدأ بالتوقيع على الاتفاقية. وسيترتب على ذلك بالطبع إعادة تشكيل هياكل السلطة القائمة (مجلسي السيادة والوزراء)، وإنشاء مجلس تشريعي.
النقطة الثالثة: رؤية الاتفاقية لأقاليم السودان:
تنص الاتفاقية على تمثيل أقاليم السودان في مؤسسات السلطة الاتحادية وفقاً لوزنها السكاني لضمان التقسيم العادل، مع اعمال التميز الإيجابي. وتشير إلى ضرورة تمثيل جميع المواطنين السودانيين تمثيلاً عادلاً في الخدمة المدنية، والهيئات والمؤسسات العامة والمفوضيات والقوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى على كافة المستويات. وهذه نقطة حسنة، وإذا نُظر إليها بموضوعية فإنها قد تكفي للتدليل على أن الاتفاقية لا تتضمن بالضرورة توجهاً عنصرياً أو نزعة اقصائية متطرفة كما يزعم الرافضون لها، بل إنها تنزع نحو التحول من نظام الدولة القومية القابضة الى نوع من “الفدرالية الإقليمية”. وهذا نمط غير غريب في الإدارة السياسية وليس بجديد كل الجدة، إذ تُرد فيه السلطة الى جماهير الناس في محلياتهم، وتقسم بينهم السلطة والثروة وفقاً لأعدادهم، ووفقاً لمستوى التنمية عندهم. كما أنه لا يمثل من الناحية السياسية خسارة أو عزلاً لأي مجموعة بعينها، بل قد يربط الأحزاب السياسية بالقواعد الشعبية، وبقضايا التنمية الريفية، وبحاجات الانسان الأساسية.
نقاط غامضة أو مسكوت عنها:
ولكن إلى جانب ذلك الوجه الصريح من الاتفاقية هناك جوانب أخرى أقل وضوحاً، وتحتاج إلى مزيد ممن التدقيق، فالاتفاقية تستلزم إعادة تعريف الأقاليم “جغرافياً” بإعادة ترسيم الحدود، فكان ينبغي أيضاً إعادة تعريف تلك الأقاليم “ديموغرافيا”، بحيث يُنص فيها على أن أي مواطن سوداني أقام في إقليم ما لمدة معينة (يحددها القانون) فهو مواطن كامل الأهلية في ذلك الإقليم، بقطع النظر عن عرقه أو قبيلته أو دينه. وبهذه الطريقة ستتاح للمواطن حرية واسعة في الحركة وفى الإقامة، وبهذه الطريقة –ذاتها- يمكن التخلص تدريجيا من ظاهرة “الأقاليم المقفولة”، والتحول نحو مجتمع الحقوق المدنية المتساوية.
من جهة أخرى، تنص بعض بنود الاتفاقية على “الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة، ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان وكريم العادات”، وهذا بند يتسم بالعمومية والغموض، إما لتجنب الخلافات المبكرة، أو لترضية بعض الجهات والفصائل ذات التوجه الايديولوجي المناهض للدين. إذ ليس من الواضح ما هي “المؤسسات الدينية” المقصودة، فالمساجد (والكنائس) مؤسسات دينية، والأوقاف مؤسسة دينية، والزكاة كذلك والحج، فهل يعنى “الفصل التام” بينها وبين مؤسسات الدولة أن ترفع الدولة يدها عن إدارة هذه المؤسسات؟ وأن تؤول ادارتها ومواردها الى جمهور المتدينين؟ وكيف سيؤدى هذا الى “ضمان عدم استغلال الدين في السياسة”، كما يتمنى واضعو الوثيقة؟
كذلك تتحدث الاتفاقية بإسهاب عن “التمييز الايجابي” لأبناء إقليم دارفور بسبب الأضرار التي لحقتهم من جراء الحرب، وتحدد نسباً (20%) لاستيعابهم في مؤسسات التعليم والخدمة المدنية والقضاء والبعثات وغيرها. وهذا أمر لا اعتراض عليه من حيث المبدأ، إذ أن الضرر الذي ألحقته الحرب بأبناء دارفور يجب أن يزال. ولكن إزالة أضرار الحرب واستدامة السلام يضعان أعباء إضافية على خزينة الدولة، ويستلزمان “موارد إضافية” قد تسحب تلقائياً من أقاليم أخرى. وهذه مسألة قد تمثل “كعب أيخيل” الذي تؤتى من قبله هذه الاتفاقية.
ولكن، وكيفما كان الأمر، فان هذا النمط من التوجه الاقليمي-الشعبي قد يمثل أرضية مشتركة للعديد من القوى السياسية التي تميل نحو الواقعية والإصلاح الوطني المتدرج؛ ولكنه سيمثل، من ناحية أخرى، تحدياً كبيراً لمجموعات من الناشطين وللأحزاب اليسارية الصغيرة التي اختطفت الثورة الشعبية في الفترة الأولى، مما سيجعلهم يقفون بالمرصاد لهذه الاتفاقية تحت عناوين شتى. لقد كانت هذه المجموعات تراهن على إزاحة “نظام الإنقاذ”، ثم التمكن من بعده في مفاصل الدولة المركزية في الخرطوم، ونشر “كوادرها” لإكمال عمليات التمكين اللازم في الأقاليم. أما عندما تصبح الدولة المركزية خيمة للجميع، أو حينما تسحب منها الموارد الاقتصادية والقوة العسكرية ويُعاد توزيعها بحسب التعداد السكاني للأقاليم المختلفة، فان “التمكن” منها لا يعنى كثير شيء.
ويمكن القول بتعبير آخر أن هذه الاتفاقية تعنى، من ناحية التحالفات السياسية، أن انفصالاً استراتيجياً قد وقع (وقد يستمر طويلاً) بين القوى المسلحة التي كانت تناضل من الهامش، والقوى المدنية التي كانت تنشط في المركز. وسيعنى هذا أن كلاً منها سيسعى لعقد تحالفات جديدة، كأن تسعى الحركات المسلحة لإعادة الارتباط بالقواعد الشعبية في الأقاليم، وأن تنشط أحزاب الأقليات اليسارية المتكدسة في المركز ى البحث عن قواعد (شعبية أو عسكرية) تستند عليها. ولعل هذا ما أدركه الحزب الشيوعي مؤخراً، حيث تأكد له أن اتفاق جوبا يلغى الوثيقة الدستورية، ويضع قوى الحرية والتغيير خارج العملية السياسية، ويؤسس لشراكة جديدة طرفها الأساسي الحركات المسلحة.
ثالثاً: المرحلة الثالثة: مرحلة الاستقرار والتنمية:
لقد أشرنا في مطلع المقال إلى فكرة المراحل الثلاث التي تمر بها الثورات: من اندفاع ثوري، الى واقعية سياسية، الى استقرار وتنمية. ولقد رأينا مما سبق من عرض وتحليل لاتفاقية السلام أن الحكومة الانتقالية قد بدأت تخطو نحو مرحلة الواقعية السياسية، مع ما يترتب على ذلك من تغيير في المواقف والمواقع، ومن تنازلات وصفقات ونحوها. فهل نأمل أن تنتهي هذه الفترة بتحقيق السلام والتحول نحو الاستقرار والتنمية؟ إن هذا سؤال لا يمكن الإجابة عليه حاليا، لأنه يفتح المجال لأسئلة كثيرة معلقة عن حقيقة الأجندات الخفية للتحالف الجديد، وعن مدى ارتباطاته الإقليمية والدولية، وما إذا كانت لديه القدرة على بلورة استراتيجية متكاملة للبناء الوطني، وما إذا كان قادراً على “الانفتاح” وتشكيل تحالف وطني عريض، وما إذا كان راغباً في التحول بالبلاد نحو المسار الديموقراطي والحكم الرشيد؛ إذ أن الغلبة في المحصلة النهائية لن تكون لمن يوقع على هذه الاتفاقية أو يخرج على تلك الوثيقة، وإنما ستكون الغلبة لمن يملك رؤية متكاملة للسلم الاجتماعي وللتنمية الاقتصادية، ويحظى بثقة الجماهير، ويكون على استعداد لأن يضع كل ما لديه من إمكانات في خدمتها. غير أن “السلم الاجتماعي” لا يتحقق باسترضاء الحركات المسلحة دون غيرها، كما “التنمية الاقتصادية” لا تتحقق من خلال العوامل الاقتصادية وحدها. إن تحقيق السلم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية يحتاجان معا إلى “مصالحات وطنية” شاملة وصادقة، تنبع من أعماق المجتمع، وتجمع أطراف البلاد، وتتوخى العدل، فيتحقق الاستقرار ثم تتبعه التنمية.

التجاني عبد القادر حامد
(نشر هذا المقال في: “آفريكا فوكس” الصادرة عن المركز الأفريقي للاستشارات – الخرطوم، 5 نوفمبر 2020)