دونالد بوث في الخرطوم العلاقات السودانية الامريكية ..مسيرة شاقة من العصا للجزرة
لم تكن علاقات السودان مع الولايات المتحدة إستثناءً في التدني والهبوط الذي شهدته علاقات السودان الخارجية بشكل عام خلال السنوات الثلاثين الماضية، بل لعل هذه العلاقات على وجه التحديد كانت أحد أقوى مؤشرات وضعية السودان في المجتمع الدولي لما هو معلوم من مكانة الولايات المتحدة وقوة تأثيرها على آليات ووسائل التعاون الدولي الثنائية ومتعددة الأطراف. كانت الولايات المتحدة الامريكية سباقة إلى فرض عقوبات على نظام الإنقاذ غداة استلامه الحكم وذلك حينما فرضت في عام 1990، واعمالا لقوانينها التي تعاقب أي حكومة تنقلب عسكريا على نظام مدني ديمقراطي قائم، عقوبات على الحكومة السودانية حرمتها بموجبها من تلقي المساعدات الاقتصادية ثم توالت محطات التدني في العلاقات لتشهد إضافة الولايات المتحدة السودان إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 1993، ثم فرض العقوبات الاقتصادية الشاملة عليه عام 1997. لقد تعددت بعد ذلك أشكال العقوبات التي فرضتها أمريكا على الحكومة السودانية مثل العقوبات التي فرضت بسبب انتهاك الحريات الدينية، عقوبات بسبب التهاون في محاربة الاتجار في البشر، وعقوبات بسبب الحرب في دارفور وغير ذلك. ولكن يمكن القول أن أعنف مظاهر هذا العداء تمثلت في مهاجمة واشنطن الخرطوم عسكريا بصواريخ توماهوك عام 1998 والتي استهدفت بها مصنع الشفاء للأدوية كرد فعل انتقامي لحادثتي تفجير السفارتين في نيروبي ودار السلام. في أواخر سنوات الإنقاذ بدأت إدارة الرئيس الأسبق أوباما في تبنى سياسة ارتباط بناء هدفت من وراءها إلى دفع الحكومة إلى تنفيذ إصلاحات على أوضاع حقوق الانسان والعمل الانساني والحريات في البلاد من خلال وضع مجموعة من الحوافز نظير تحقيق تحسن في القضايا أعلاه، وقد تم رفع العقوبات الاقتصادية عن الخرطوم عام 2017 نتيجة لذلك.
إن رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب ظل عصي المنال أيام حكومة الإنقاذ وإن كانت الإدارة الأمريكية قد انخرطت مع الحكومة السابقة في خطة ارتباط وضع لها ذلك الهدف النهائي إن قامت حكومة الخرطوم بإصلاحات متعددة وعميقة على أكثر من مسار. وتم تعليق ذلك الارتباط في مارس من العام 2019 م إثر تصاعد قمع الاحتجاجات التي اندلعت ضد الحكومة. بعد نجاح ثورة ديسمبر المجيدة، ومع تطور الأحداث وتوقيع الإعلان السياسي والوثيقة الدستورية وتكوين الحكومة المدنية، بدأ الموقف الأمريكي يتطور. وفي نهاية أغسطس من العام 2019 أوضح المبعوث الامريكي دونالد بوث بأن المؤسسات الحكومية الأمريكية المختلفة تعكف على وضع السياسة الجديدة تجاه السودان.
ثم بدأت منذ سبتمبر 2019 مفاوضات طويلة بين البلدين هدفت إلى رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وبدا العام 2020 يشهد بعض التقدم على هذا الصعيد حتى انتهى أخيرا بإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في ديسمبر 2020. ومع هذه الخطوة العملاقة تجاه السودان، بدأت العلاقات تشهد تحولات كبيرة على أكثر من صعيد ومستوى. *القوانين الأمريكية ومنع المساعدات: للوقوف على تفاصيل وآفاق العلاقات بين الخرطوم وواشنطن وضعت وكالة السودان للأنباء العديد من الأسئلة على طاولة السفير محمد عبد الله التوم مدير عام الشؤون الأمريكية والاوربية بالخارجية ورئيس وفد التفاوض لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب، في مستهل حديثه أوضح السفير التوم ان أكبر مشكلة واجهت العلاقات السودانية الأمريكية وأثرت على علاقات السودان مع بقية العالم كانت وجود اسم السودان في قائمه الدول الراعية للإرهاب، لأن القوانين الأمريكية تمنع تقديم اي مساعدات بأي شكل لأي دولة مدرجة على هذه القائمة، ما عدا المساعدات الإنسانية، بل تفرض القوانين الأمريكية على ممثلي أمريكا في المؤسسات المالية الدولية ان يعترضوا على تقديم اي مساعدات من هذا المؤسسات متعددة الأطراف للسودان او لأي دولة راعية للإرهاب، كما أن هناك حظر على الصادرات الأمريكية لأي دولة راعية للإرهاب وعلى تصدير اي منتج امريكي من اي طرف ثالث للسودان وبالتالي عزل السودان تماماً عن التكنلوجيا الأمريكية وحرمانه من استخدامها.
لقد شكل وجود السودان في قائمه الراعية للإرهاب، بحسب السفير محمد عبد الله التوم، علاقة غير طبيعية وغير تصالحية بل علاقة عدائية في طبيعتها تجاه الحكومة السودانية، ولكن مع تغير النظام في السودان وانخراط الخرطوم في مفاوضات مع واشنطن لرفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب بدأت أمريكا في إرسال رسائل بأنها مقبلة على مرحلة جديدة في علاقاتها مع السودان. ثورة ديسمبر تسقط الشروط الأمريكية: في نوفمبر من العام 2019 أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية بأنها قررت ترفيع تمثيلها الدبلوماسي في الخرطوم لمستوى السفير. وكانت تلك خطوة إيجابية جيدة التقطتها الخرطوم التي كانت تسعى بكل السبل إلى تحقيق الهدف الأكبر وهو إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب، مع أنه لم يكن واضحا وقتها ما الذي تريده أمريكا من سودان الثورة لإزالة اسمه من تلك القائمة. لقد بدا يتضح بعد انخراط السودان في المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية ان الشرط الوحيد لإخراج السودان من القائمة كان هو تسوية القضايا التي صدرت فيها احكام قضائية بتعويضات لضحايا تفجيري دار السلام ونيروبي في العام 1998 والهجوم على المدمرة كول عام 2000 مما عنى ان الشروط السابقة فيما يتعلق بحماية حقوق الإنسان وفض النزاعات المسلحة وإيصال المساعدات الإنسانية، للمحتاجين، وحرية الأديان، والاعلام. كل هذه الشروط تم تجاوزها بعد حدوث التغيير في الخرطوم بإعتبار ان الحكومة الانتقالية الحالية عاكفة على معالجة هذه القضايا كجزء من برنامجها الوطني. لعل هذا التطور في حد ذاته كان بمثابة إشارة إلى التحول الكبير الذي حدث في نظرة الولايات المتحدة الأمريكية لعلاقتها مع السودان وبداية التحول إلى نظرة أكثر إيجابية. تم تتويج هذا التغيير والتطور في نظرة أمريكا إلى الحكومة الجديدة بقرار رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والذي مثل نقلة نوعية في مجمل العلاقة ليس فقط مع الولايات المتحدة بل لعلاقات السودان مع كل المجتمع الدولي.
الوعود الأمريكية تتحقق ٠٠ وتدعم حكومة حمدوك: وفي إفاداته لوكالة السودان للأنباء، أوضح السفير التوم ان رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، جاء متسقا مع العديد من التأكيدات والوعود الأمريكية بدعم حكومة حمدوك، حيث عبر عن ذلك وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو في جلسة استماع في مجلس الشيوخ الأمريكي في يوليو الماضي بالتأكيد على دعم بلاده الكامل للحكومة الانتقالية بقيادة د. عبد الله حمدوك.
تجسدت هذه الوعود في تقديم دعم مالي مقدر للسودان بمبلغ يزيد عن (900) مليون دولار في أواخر ديسمبر الماضي، منها أكثر من (200) مليون دولار خصصت لمعالجة ديون السودان وإعادة هيكلتها ثنائيا ولدى المؤسسات المالية الدولية. كذلك اعتمدت الإدارة الأمريكية مبلغ (700) مليون دولار لدعم الحكومة في برامج الرعاية الصحية وبرامج دعم الأسر الفقيرة ومشاريع التنمية. كما أنه كان من بين الأوجه العديدة التي اتخذها هذا الدعم للحكومة الانتقالية، تقديم أكثر من مليار دولار كقرض تجسيري للبنك الدولي لتصفية متأخرات السودان تجاه البنك مما يمكن السودان من الاستفادة من تسهيلات وقروض جديدة من هذه المؤسسة المالية الدولية. كذلك فإن العلاقة الجديدة المتطورة بين السودان والولايات المتحدة، عبرت عنها الزيارة التي قام بها وزير الخزانة الأمريكي استيفن منوشن للسودان والتي تعتبر تاريخيا أول زيارة لوزير خزانة أمريكي للسودان تزامنت معها زيارة رئيسة بنك الاستيراد والتصدير الأمريكي والتي أعلنت عن اعتماد البنك لمبلغ مليار دولار كتسهيلات وائتمانات متاحة للشركات الأمريكية للاستثمار والتبادل التجاري في السودان. علاقات السودان وامريكا ٠٠٠ الكل يكسب: وحول الآفاق التي يمكن أن يصل اليها التعاون بين البلدين على خلفية هذه التحولات الكبرى في العلاقات، أوضح مدير عام العلاقات الأمريكية بوزارة الخارجية أن كل هذه الخطوات تمثل في مجملها تحولاً نوعيا كبيراً في علاقات السودان والولايات المتحدة وتمهد لخلق نوع جديد من الشراكة وتعزيز الصلات ما بين الفضاءين السوداني والأمريكي في مجالات التجارة والاستثمار والتكنولوجيا والتعليم والتدريب وغيرها من المجالات الاقتصادية والثقافية.
واستدرك السفير محمد عبد الله التوم بالقول (ان ذلك لا يعني ابدا ان العلاقة بين الخرطوم وواشنطن قد وصلت حدها الأعلى، ولكن يمكننا القول ان العلاقة عادت للوضع الطبيعي الذي يمهد ويفتح الباب والمجال واسعاً أمام النهوض بالعلاقة وتطويرها الي آفاق أرحب).
وأضاف التوم أن الكثير من المراقبين يرون ان العلاقة بين الخرطوم وواشنطن مرشحة لتكون ذات خصوصية وتميز، باعتبار الحماس الأمريكي الواضح لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان وتقديم كل الدعم الممكن للحكومة، وذلك وفق ما صدر عن تصريحات أمريكية على لسان وزير الخارجية وبعض أعضاء الكونغرس مثل السناتور كريس كوونز عضو لجنتي العلاقات الخارجية واللجنة القضائية في مجلس الشيوخ والذين أكدوا على دعم حكومة حمدوك.
عليه، وبالنظر إلى نفوذ الولايات المتحدة الدولي وامكانياتها الاقتصادية الهامة والهائلة فإن السودان يمكن أن يجني ثمار هذا التقارب بأشكال مختلفة. ويؤكد السفير التوم أن
الولايات المتحدة في دعمها القوي للحكومة الانتقالية تسعى إلى تقديم السودان للمجتمع الدولي كدولة انموذج لتغيير سلمي يمضي تدريجيا في انتقال ديمقراطي الي حكم مدني كامل تعززه انتخابات حرة ووضع اقتصادي مستقر. وهذه مجتمعة يمكن أن تشكل جزءاً كبيراً من الاهداف الأمريكية، وتشكل المنظار الذي ترى من خلاله الولايات المتحدة السودان والتغيير الذي تم فيه. .
المصدر : سونا